منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

القيم الخلقية في النوازل الفقهية

د.محمد الناسك

0
الفهرس إخفاء

 

تقديم:

الشريعة الإسلامية شريعة الأخلاق بامتياز، فما من حكم لله جل وعلا إلا ويتضمن أخلاقا رفيعة، وحكما سنية، كيف لا والمبعوث بها صاحب الخلق العظيم، قال تعالى في مدحه -صلى الله عليه وسلم-: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، بل إن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- حصر بعثته في تتميم مكارم الأخلاق، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
فالشريعة الإسلامية حنيفية سمحة، تمتاز بالتيسير، وتشمخ بالشمول لكل منحي الحياة، وتعم أحكامها سائر المكلفين على اختلاف أصنافهم، وتعدد أحوالهم، واتساع حاجاتهم، قال الشاطبي –رحمه الله- متحدثا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- أنه جاء: «بملة حنيفية، وشرعة بالمكلفين بها حفية، ينطق بلسان التيسير بيانها، ويعرف أن الرفق خاصيتها، والسماح شأنها، فهي تحمل الجماء الغفير ضعيفا وقويا، وتهدي الكافة فهيما وغبيا، وتدعوهم بنداء مشترك دانيا وقصيا، وترفق بجميع المكلفين مطيعا وعصيا، وتقودهم بخزائمهم منقادا وأبيا، وتسوي بينهم بحكم العدل شريفا ودنيا، وتبوئ حاملها في الدنيا والآخرة مكانا عليا، وتدرج النبوءة بين جنبيه وإن لم يكن نبيا، وتلبس المتصف بها ملبسا سنيا حتى يكون لله وليا، فما أغنى من والاها وإن كان فقيرا، وما أفقر من عاداها وإن كان غنيا».
هكذا تميزت الشريعة الإسلامية بالقيم السنية، والأخلاق الفاضلة في أصولها وفروعها، وقد جلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ذلك في كل أحكامه وفتاواه، وعلى أثره سار المفتون من بعده لأن «الحوادث متعاقبة الوقوع، والنوازل يضيق عنها نطاق الموضوع، واقتناص الشوارد بالاقتباس من الموارد والاعتبار بالأمثال من صنعة الرجال، وبالوقوف على المآخذ يعض عليها بالنواجذ».
والقول على الله بغير علم جريمة كبيرة، وشنيعة عظيمة، تخرج الناس من الشريعة وإن زعمت إدخالهم إليها، وتفسد على الناس حياتهم، وتفوت عليهم مصالحهم العاجلة والآجلة وإن زعمت عكس ذلك، فالشريعة مبنية على مصالح العباد في المعاش والمعاد، وقد «وقع بسبب الجهل به غلط عظيم على الشريعة، أوجب من الحرج والمشقة وتكليف ما لا سبيل إليه ما يعلم أن الشريعة الباهرة التي في أعلى رتب المصالح لا تأتي به، فإن الشريعة مبناها وأساسها على الحكم ومصالح العباد في المعاش والمعاد، وهي عدل كلها، ورحمة كلها، ومصالح كلها، وحكمة كلها، فكل مسألة خرجت عن العدل إلى الجور، وعن الرحمة إلى ضدها، وعن المصلحة إلى المفسدة، وعن الحكمة إلى العبث، فليست من الشريعة وإن أدخلت فيها بالتأويل، فالشريعة عدل الله بين عباده، ورحمته بين خلقه، وظله في أرضه، وحكمته الدالة عليه وعلى صدق رسوله».
فكيف تمسك العلماء بأخلاق الشريعة وهم بصدد بيان أحكامها في نوازلهم؟
هذا ما ستحاول هذه الورقة البحثية الإجابة عنه –بحول الله تعالى- من خلال المحاور التالية:
الفصل الأول: تعريف مركب: الأخلاق في النوازل الفقهية
الفصل الثاني: القيم الأخلاقية المبثوثة في نماذج تطبيقية من النوازل الفقهية

تنزيل العدد الأول من مجلة منار الهدى

الفصل الأول: تعريف مركب: الأخلاق في النوازل الفقهية

الأخلاق في النوازل الفقهية مركب من ثلاثة أجزاء، وسوف أقوم –بحول الله تعالى- بتعريف كل جزء لغة واصطلاحا في ثلاثة مباحث، كل مبحث يتكون من مطلبين.

المبحث الأول: تعريف الأخلاق لغة واصطلاحا

المطلب الأول: تعريف الأخلاق لغة

الأخلاق جمع خلق، والخُلُق -بضمِّ اللام وسكونها- هو الدِّين والطبع والسجية والمروءة، وحقيقته أن صورة الإنسان الباطنة وهي نفسه وأوصافها ومعانيها المختصة بها بمنزلة الخَلْق لصورته الظاهرة وأوصافها ومعانيها».
وقال الرَّاغب: «والخَلْقُ والخُلْقُ في الأصل واحد… لكن خص الخَلْق بالهيئات والأشكال والصور المدركة بالبصر، وخص الخُلُقُ بالقوى والسجايا المدركة بالبصيرة».

المطلب الثاني: تعريف الأخلاق اصطلاحا

عرف الجرجاني الخلق بقوله: «الخلق عبارة عن هيئة للنفس راسخة تصدر عنها الأفعال بسهولة ويسر من غير حاجة إلى فكر وروية، فإن كانت الهيئة بحيث تصدر عنها الأفعال الجميلة عقلا وشرعا بسهولة سميت الهيئة خلقا حسنا، وإن كان الصادر منها الأفعال القبيحة سميت الهيئة خلقا سيئا، وإنما قلنا إنه هيئة راسخة لأن من يصدر منه بذل المال على الندور بحالة عارضة لا يقال خلقه السخاء ما لم يثبت ذلك في نفسه، وكذلك من تكلف السكوت عند الغضب بجهد أو روية لا يقال خلقه الحلم، وليس الخلق عبارة عن الفعل، فرب شخص خلقه السخاء ولا يبذل إما لفقد المال أو لمانع، وربما يكون خلقه البخل وهو يبذل لباعث أو رياء».
وعرفه ابن مسكويه بقوله: «الخلق: حال للنفس، داعية لها إلى أفعالها من غير فكر ولا رويَّة، وهذه الحال تنقسم إلى قسمين: منها ما يكون طبيعيًّا من أصل المزاج، كالإنسان الذي يحركه أدنى شيء نحو غضب، ويهيج من أقل سبب، وكالإنسان الذي يجبن من أيسر شيء، أو كالذي يفزع من أدنى صوت يطرق سمعه، أو يرتاع من خبر يسمعه، وكالذي يضحك ضحكًا مفرطًا من أدنى شيء يعجبه، وكالذي يغتمُّ ويحزن من أيسر شيء يناله. ومنها ما يكون مستفادًا بالعادة والتدرب، وربما كان مبدؤه بالرويَّة والفكر، ثم يستمر أولًا فأولًا، حتى يصير ملكة وخلقًا»

المبحث الثاني: تعريف النوازل لغة واصطلاحا

المطلب الأول: تعريف النوازل لغة

عرف ابن منظور النازلة بأنها: «الشدة من شدائد الدهر»
وفي المعجم الوسيط، هي: «المصيبة الشديدة، جمعها نازلات ونوازل»

المطلب الثاني: تعريف النوازل اصطلاحا

النوازل جمع نازلة، وهي: «مسألة مستجدة وقعت بين الناس، وليس فيها قول خاص على أهل المذهب، فيعمد الفقيه إلى استنباط حكمها من الأدلة الشرعية او تخريجه على قواعد مذهبه، وجمعها الواقعات والنوازل»

المبحث الثالث: تعريف الفقه لغة واصطلاحا

المطلب الأول: تعريف الفقه لغة

عرف ابن منظور الفقه بأنه « العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم، كما غلب النجم على الثريا، والعود على المندل»
وعرف اليروزآبادي في القاموس المحيط بأنه»العِلْمُ بالشيءِ والفَهْمُ له والفِطْنَةُ وغَلَبَ علىْ عِلمِ الدينِ لشَرَفِهِ».

المطلب الثاني: تعريف الفقه اصطلاحا

الفقه عند علماء الأصول هو: «العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية».

الفصل الثاني: القيم الأخلاقية المبثوثة في نماذج تطبيقية من النوازل الفقهية

في هذا الفصل سوف نتناول -بحول الله تعالى- أربع نوازل تتضمن جملة من القيم الأخلاقية الإسلامية، الأولى نزلت برجل في حياة رسول الله –صلى الله عليه وسلم- وكان هو المفتي فيها، وقد بدأت بها باعتبار رسول الله –صلى الله عليه وسلم- إسوة المفتين، وقدوة العلماء العاملين والناس أجمعين.
والثانية نزلت بصحابي جليل من أهل الفتوى، فتصرف فيها وفق ما أخذه عن المعصوم –صلى الله عليه وسلم- فأعطى بذلك النموذج دليلا عمليا على نجاح رسول الله –صلى الله عليه وسلم- في كونه مربيا ومعلما.
والثالثة فنزلت ببجاية، واختلف في أمرها فقيهاها العالم الأشهر أبو عبد الله سيدي محمد بن بلقاسم المشدالي، والفقيه المدرس أبو العباس أحمد بن سعيد بن الشاط، حيث اتحد مقصدهما في طلب الحق، واختلفت أنظارهما في الطريق الموصل إليه.
والقاسم المشترك بين الثانية والثالثة أنهما وقعتا في زمن الوباء، ونحن نكتب هذا في زمن وباء covid-19 نسأل الله تعالى العافية.
أما الرابعة فنزلت بنا بسبب فيروس كورونا، وهي إغلاق المساجد وتعطيل الجمع والجماعات، قديما لكلية حفظ النفس، على جزئية إقامة الشعائر التعبدية في المساجد.

المبحث الأول: النازلة الأولى: وتتضمن قيم الرحمة والرفق والتيسير والتبشير

تعتبر قيم الرحمة والرفق والتيسير والتبشير من الأخلاق الإسلامية التي حض عليها الشارع ورغب فيها، ورتب لها ثوابا معتبرا، ففي الحض على خلق الرحمة نورد هنا ما رواهعبد الله بن عمرو يرفعه إلى النبي صلى الله عليه وسلم قال: « الراحمون يرحمهم الله، ارحموا أهل الأرض يرحمكم أهل السماء، الرحم شجنة من الرحمن، فمن وصلها وصله، ومن قطعها قطعه».
وفي أمر الشارع بالتيسير والتبشير ونهيه عن ضدهما نقف مع ما رواه سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده، أن النبي صلى الله عليه وسلم بعث معاذا وأبا موسى إلى اليمن، قال: « يسرا ولا تعسرا، وبشرا ولا تنفرا، وتطاوعا ولا تختلفا».
وفي الأمر بالرفق والحرص عليه حتى مع المخالف ما ورد عن عائشة -رضي الله عنها- زوج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: دخل رهط من اليهود على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقالوا: السام عليكم، قالت عائشة: ففهمتها فقلت: وعليكم السام واللعنة، قالت: فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «مهلا يا عائشة، إن الله يحب الرفق في الأمر كله»، فقلت: يا رسول الله أولم تسمع ما قالوا؟ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « قد قلت: وعليكم».
وإننا لنجد كل هذه القيم الأخلاقية حاضرة في أجوبة رسول الله –صلى الله عليه وسلم-على النوازل التي كانت تعرض عليه للفتوى وبيان حكم الله فيها، فعن أبي هريرة -رضي الله عنه- قال: بينما نحن جلوس عند النبي صلى الله عليه وسلم إذ جاءه رجل، فقال: يا رسول الله هلكت. قال: «ما لك؟» قال: وقعت على امرأتي وأنا صائم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «هل تجد رقبة تعتقها؟» قال: لا، قال: «فهل تستطيع أن تصوم شهرين متتابعين»، قال: لا، فقال: «فهل تجد إطعام ستين مسكينا». قال: لا، قال: فمكث النبي صلى الله عليه وسلم، فبينا نحن على ذلك أتي النبي صلى الله عليه وسلم بعرق فيها تمر – والعرق المكتل – قال: « أين السائل؟ « فقال: أنا، قال: « خذها فتصدق به» فقال الرجل: أعلى أفقر مني يا رسول الله؟ فوالله ما بين لابتيها – يريد الحرتين – أهل بيت أفقر من أهل بيتي، فضحك النبي صلى الله عليه وسلم حتى بدت أنيابه، ثم قال: « أطعمه أهلك».
فنجد هنا التيسير النبوي باديا وهو يعرض على المستفتي أنواعا من الكفارات، ثم يتدرج به برفق نبوي من الأعلى إلى الأدنى، حتى ذكر عجزه عنها جميعا فلم يوبخه أو يعنفه، حتى إذا جاءه –صلى الله عليه وسلم- تمر أعطاه إياه ليكفر به عن فساد صومه، وكأن تيسيره ورفقه –عليه السلام- أطمع السائل في مزيد فضل المسؤول فأخبره أنه لا يوجد في المدينة من هو أفقر منه، وهنا تجلت مظاهر الرحمة النبوية، والرفق المحمدي، فأمره أن يطعمه أهله، فاستفاد من جهتين: من جهت أنه كفر عن نفسه وخرج من ذنبه، ومن جهت أن الكفارة نفسها صارة طعاما يوسع به على أهله، فهل وجدت قيم أخلاقية في الدنيا تضاهي هذه الرحمة الإلاهية، والرفق النبوي، والتيسير المحمدي؟.

المبحث الثاني:النازلة الثانية: وتتضمن قيمة إقامة العدل حتى في أشد الظروف صعوبة

إن الشريعة الإسلامية هي شريعة العدل، فبالعدل أمر الله عباده، وبالوفاء ألزمهم في قوله تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ».
وعندما شرع الله تعالى للرجل تعديد الأزواج لعلمه –جل وعلا- بحاجته لذلك، كان هذا التشريع مشروطا بالعدل، قال تعالى: «وَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتَامَى فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً أَوْ مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ ذَلِكَ أَدْنَى أَلَّا تَعُولُوا»، وقد كان رسول الله –صلى الله عليه وسلم- النموذج الكامل في هذا الباب، فعن عائشة أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقسم بين نسائه، فيعدل، ويقول: «اللهم هذه قسمتي فيما أملك، فلا تلمني فيما تملك ولا أملك».
بل جاء عنه –عليه السلام- تحذير شديد من مآل عدم العدل بين الضرائر، فعن أبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان له امرأتان يميل لإحداهما على الأخرى جاء يوم القيامة أحد شقيه مائل».
وقد كان الصحابة يتربون بين يدي رسول الله –صلى الله عليه وسلم- ويتعلمون منه أحكام الشرع، ويتلقون أمره بنية التنفيذ.
فهذا معاذ بن جبل –رضي الله- يعطي مثالا حيا في العدل بين زوجتيه، فعن يحيى بن سعيد قال: «كانت تحت معاذ بن جبل امرأتان، فإذا كان عند إحداهما لم يشرب من بيت الأخرى الماء».
ولم يكتف بالعدل بينهما في الحياة الدنيا، بل حرص على العدل بينهما حتى بعد الموت، والناس في بلاء، وهو الأمير الذي أنيطت به هموم الناس، فعندما أصيب الناس بطاعون عمواس في خلافة عمر بن الخطاب كان أميرهم أبو عبيدة ابن الجراح فأصيب بالطاعون ومات به، وقبل موته استخلف معاذ بن جبل فأقره عمر، فقام معاذ في الناس خطيبا وواعظا، فعن عثمان بن عطاء، عن أبيه، أن معاذ بن جبل رضي الله عنه قام في الجيش الذي كان عليه حين وقع الوباء فقال: «يا أيها الناس هذه رحمة ربكم، ودعوة نبيكم، ووفاة الصالحين قبلكم»، ثم قال معاذ وهو يخطب: «اللهم أدخل على آل معاذ نصيبهم الأوفى من هذه الرحمة» فبينا هو كذلك إذ أتي فقيل: طعن ابنك عبد الرحمن، فلما أن رأى أباه معاذا قال: يقول عبد الرحمن: يا أبت، الحق من ربك فلا تكونن من الممترين، قال: يقول معاذ: «ستجدني إن شاء الله من الصابرين»، فمات من الجمعة إلى الجمعة آل معاذ كلهم ثم كان هو آخرهم».
فمات في جمعة آل معاذ، وهم زوجتاه وابناه، فلما أراد أن يدفن زوجتيه لم ينس العدل بينهما في أيهما تقدم أولا في القبر، فعن يحيى بن سعيد: «أن معاذ بن جبل -رضي الله تعالى عنه- كانت له امرأتان، فإذا كان يوم إحداهما لم يتوضأ من بيت الأخرى، ثم توفيتا في السقم الذي أصابهما بالشام، والناس في شغل، فدفنتا في حفرة فأسهم بينهما أيتهما تقدم في القبر».
لقد تعلم معاذ –رضي الله- في المدرسة المحمدية أن العدل قيمة أخلاقية من القيم الإسلامية العليا، يبذل المؤمن في سبيل تحقيقه النفس والنفيس، فحرص على تطبيق العدل في أشد اللحظات قسوة، وبين أقرب الناس إليه، حتى وإن كانتا قد استغنيتا عن عدله بالموت.

المبحث الثالث: النازلة الثالثة: وتتضمن قيمة الوفاء بالعهد وأداء الحقوق إلى أهلها

لقد ذم القرآن الكريم صنفا من بني إسرائيل يستهينون بحقوق الناس ويأكلونها بغير حق معتقدين أن ذلك جائز في حقهم، قال تعالى: «وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ»، وعندما ذم الحق جل وعلا هذا السلوك، ووصف مسوغاته بأنها افتراء للكذب على الله عز وجل، أمر المؤمنين بضده، أي بأداء الحقوق إلى أصحابها، والوفاء بالعهود، قال تعالى: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا».
في ضوء هذه المبادئ الإسلامية السامية كان المفتون يصدرون فتاواهم، إلا أن الحرص على أداء حق ما قد يعترضه حق آخر، فتختلف أنظار العلماء لذلك، وهذا هو الذي وقع في النازلة التي بين أيدينا، فقد مات شخص وترك مالا وترك وصية بثلث ماله واعتراف بدين في ذمته، فهل يخرج الدين من رأس المال مع ما فيه من إضرار بالوارث، أم يخرج من الثلث مع ما في ذلك من مصادرة حق الميت في الوصية بثلث ماله.
وهذا نص النازلة كما أورده صاحب المعيار: «وهي أن رجلا من أكابر التجار…كان عهد في زمن الوباء وهو بحال صحة وجواز أمر من قبل مدة وفاته بمدة قريبة بثلث بثلث جميع ما يخلفه ميراثا عنه على أن تخرج منه وصايا معينة، ويكون باقي الثلث وجه عينه أيضا. واعترف مع ذلك بأن في ذمته لرجل لم يعين اسمه ولا نسبه ولا بلده ولا حياته ولا موته مائة وخمسين ذهبا، وأنها كانت أمانة بيده ثم علقها بذمته وزعم أن ربها أمره أن يتصدق بها على الفقراء والمساكين. والمعترف المذكور ليس ممن يقصد في العادة بتفريق الصدقات على يديه، ولا تقرب منزلته من ذلك ببلده، وتضمن عهده واعترافه المذكورين رسم واحد متميز فيه العهد بصيغته وجد بدار المعترف المذكور بعد وفاته.
ولم يخلف من الورثة سوى أخوين شقيقين له، وبينه وبين أحدهما عداوة مشتهرة منذ زمان طويل متصلة بوفاته، والعدو منهما حاضر ببلد المتوفي المذكور زمن صحته ومرضه ووفاته، والآخر غائب عن البلد المذكور ببلاد المشرق نحو عامين اثنين متقدمين عن وفاة العاهد المذكور».
هذا نص النازلة ذكرته بطوله لأنه يتضمن تفاصيل مؤثرة في الحكم، هذه التفاصيل هي التي أنتجت الخلاف الذي حصل بين فقيهي بجاية، وهما: العالم الأشهر أبو عبد الله سيدي محمد بن بلقاسم المشدالي، والفقيه المدرس أبو العباس أحمد بن سعيد بن الشاط.
فذهب الأول إلى أن المائة والخمسين ذهبا تخرج من الثلث، لأن الميت هنا قد يكون متهما بأنه إنما أراد أن يضيق على الورثة، خصوصا وأن بينه وبين أحد الورثة عداوة مشتهرة طويلة ومتصلة بزمن وفاته، وقد «وقع في المبسوط لابن كنانة والمخزومي وابن أبي حازم ومحمد بن أبي سلمة أنه لا شيء له وإن أقر له في صحته إذا لم يقم عليه بذلك حتى هلك، إلا أن يعرف لذلك سبب مثل أن يكون باع له رأسا أو يكون أخذ له من موروثات أمه شيئا، وهو قول له وجه من النظر، لأن الرجل يتهم أن يقر بدين في صحته لمن يثق به من ورثته على أن لا يقوم به حتى يموت فيكون وصية لوارث».
وذهب الثاني إلى أن المائة والخمسين ذهبا تخرج من رأس المال، لأن «الإقرار في الصحة حكمه اللزوم والخروج من رأس المال، هكذا نص عليه أئمتنا. قال ابن حارث: وكل من أقر في صحته بدين فإنه يلزمه إقراره، كان المقر له أجنبيا أو وارثا…قال القاضي ابن رشد: هذا المعلوم من قول ابن القاسم وروايته عن مالك المشهور في المذهب».
فهذه النازلة تبين بجلاء حرص علماءنا على ضمان قيمة أداء الحقوق، والوفاء بالعهد في فتاواهم، كل من وجهة نظره لتعارض الأدلة وتضارب القرائن المتوفرة لديهم.

المبحث الرابع: النازلة الرابعة: قيمة الحفاظ على النفس البشرية

في أواخر سنة 2019 للميلاد نزل بالناس وباء فتاك، انتشر بين الناس انتشار النار في الهشيم مطلع سنة 2020، فحظر على الناس بسببه بكل ما ألفوه من تجمعات، وتبادل للمصافحة والقبلات.
وكان أقسى أنواع الحظر هو غلق المساجد، وحظر الجمع والجماعات، فاختلفت أنظار العلماء في هذه النازلة فمن قائل إن تعطيل المساجد هدم لكلية الدين التي أمرنا بالحفاظ عليها، وقائل إنه يمكن الجمع بين الحفاظ على النفس البشرية بمنع التجمعات في المساجد مع عدم تعطيلها بأن تقام الجمعة والجماعات بالحد الأدنى من إمام المسجد والمؤذن وعمال النظافة…الخ، وقائل إن الحفاظ على النفس البشرية بغلق المساجد وتعطيل الجمع والجماعات هو حفاظ على كلية من الكليات الشرعية، مقابل تعطيل لجزئية من كلية الدين.
وبالقول الأخير قال جمهور العلماء، كالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين، والأزهر الشريف، وهيئة كبار العلماء بالمملكة العربية، ومجلس الإفتاء الأوروبي، والمجلس العلمي الأعلى للمملكة الغربية…الخ.
وقد كان القصد من هذا الحكم الشرعي هو الحفاظ على النفس البشرية وصيانتها من انتقال العدوى، خصوصا وأن عمار المساجد أغلبهم من كبار السن الذين يفتك بهم هذا الوباء أكثر من غيرهم.
وهذه الفتوى لها سندها الشرعي من كتاب الله، كقوله تعالى: «وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَأَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ»، وكقوله تعالى: «وَلَا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِكُمْ رَحِيمًا».
ومن سنة رسوله –صلى الله عليه وسلم- الذي نهى كل من يحمل أذى من الحضور إلى المسجد، فعن أبي النجيب مولى عبد الله بن سعد حدثه أن أبا سعيد الخدري حدثه أنه ذكر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم الثوم والبصل والكراث، وقيل: يا رسول الله وأشد ذلك كله الثوم، أفتحرمه؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: « كلوه، ومن أكله منكم فلا يقرب هذا المسجد حتى يذهب ريحه منه»، فإذا كان هذا في حق الروائح الكريهة، فإنه في حق الأمراض المعدية أوجب، فعن عمرو بن الشريد، عن أبيه، قال: كان في وفد ثقيف رجل مجذوم، فأرسل إليه النبي صلى الله عليه وسلم «إنا قد بايعناك فارجع»، وعن أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: « لا ضرر ولا ضرار، من ضار ضاره الله، ومن شاق شاق الله عليه».
وهناك نصوص شرعية كثيرة في هذا الباب، وقواعد فقهية تقرر هذا المعنى وتؤكد يسر الشريعة، وحفظها للنفس البشرية ولو بترك ما شق من التكاليف وعسر القيام به، وهنا تظهر حنكة الفقيه المتمكن من علم الشريعة، المحصل للملكة الفقهية التي تعطيه القدرة على الموازنة بين الأحكام، وترتيب الأولويات في صورة جذابة تبرز جمال الشريعة وسعتها ويسرها ورحمتها بالناس، وصلاحيتها لكل زمان ومكان، دون تعارض مع العلم، ولا تهور في الفهم.

خاتمة:

إن الشريعة الإسلامية لا وجود لها بغير أخلاق، فالحضور الأخلاقي في الأحكام الشرعية بارز، ومشاهد لكل منصف وإن كان مخالفا، والحضور الأخلاقي في الحكم الشرعي الذي تفرضه النوازل أشد ظهورا واكثر بروزا.
والمفتي الذي يغيب عنه ذلك لا يعتبر اجتهاده في النوازل حكما شرعيا وإن ألبسه لباس الشريعة، ودبجه بالنصوص القرآنية والنبوية، يظهر ذلك على سبيل القطع من خلال ما مضى، ويعرفه كل من له أدنى اطلاع على أحكام الشريعة الإسلامية.
وصلى الله وسلم على سيدنا محمد آله وصحب وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.


لائحة المصادر والمراجع:

القرآن الكريم.
الجامع للحديث النبوي
ابن قيم الجوزية، إعلام الموقعين عن رب العالمين،، تحقيق أبي عبيدة مشهور، الدمام، دار ابن الجوزي، الطبعة الأولى، 1423 ه.
ابن مسكويه، تهذيب الأخلاق، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 1985.
ابن منظور، لسان العرب، القاهرة، دار الحديثة، 2003.
أبو إسحاق الشاطبي، الموافقات في أصول الشريعة، تحقيق الشيخ عبد الله دراز، بيروت، دار الكتب العلمية، الطبعة الأولى، 2004.
أبو العباس الونشريسي، المعيار المعرب، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية للمملكة المغربية، 1981.
أبو ياسر سعيد بن محمد، فقه الواقع، الإسكندرية، الدار العالمية للنشر والتوزيع.
الأصفهاني، مفردات ألفاظ القرآن، تحقيق صفوان عدنان داوودي، دمشق، دار القلم، الطبعة الرابعة 2009.
برهان الدبن المرغيناني، الهداية شرح بداية المبتدي، تحقيق نعيم أشرف نور أحمد، كراتشي، إدارة القرآن والعلوم الإسلامية، الطبعة الأولى، 1417 ه.
الجرجاني، معجم التعريفات، تحقيق محمد صديق المنشاوي، القاهرة، دار الفضيلة.
السبكي، تقي الدين وولده، الإبهاج في شرح المنهاج، بيروت، دار الكتب العلمية، 1416 ه.
الفيروز أبادي، القاموس المحيط، القاهرة، مؤسسة الخلبي للنشر والتوزيع.
مجمع اللغة العربية بالقاهرة، المعجم الوسيط، طهران، المكتبة العلمية.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.