عباد الله، اعلموا أن فراغ الإنسان وامتلاءه؛ يكون بالعلم النافع والعمل الصالح، لهذا لم يأمر الله الملائكة عليهم السلام – وهم أشرف المخلوقات – بالسجود لآدم عليه السلام تكريما له، إلا بعد أن أثبت لهم أنه ممتلئ بالعلم النافع الذي يقيه من الفساد وسفك الدماء، ويساعده على المحافظة على صلاح الأرض وعبادة الله وحده، قال تعالى في سورة البقرة: ﴿ وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلَائِكَةِ: إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً، قَالُوا: أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدُ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ وَنَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَنُقَدِّسُ لَكَ؟ قَالَ إِنِّي أَعْلَمُ مَا لَا تَعْلَمُونَ * وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا؛ ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلَائِكَةِ؛ فَقَالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْمَاءِ هَؤُلَاءِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * قَالُوا سُبْحَانَكَ لَا عِلْمَ لَنَا إِلَّا مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ * قَالَ يَا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ، فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمَائِهِمْ؛ قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَأَعْلَمُ مَا تُبْدُونَ وَمَا كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ * وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا، إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ﴾ [البقرة: 30 – 34]
عباد الله، إن كل واحد من بني البشر، إلا وخلقه الله فارغا لا يعلم شيئا، وأمده بوسائل اكتساب العلم النافع من سمع وبصر وفؤاد، ، وأمره بشكر الله تعالى على هذه النعم، وذلك بصرفها في طاعة الله تعالى ليكون الفرد صالحا ومصلحا وهذا هو العمل الصالح ، قال تعالى في سورة النحل: ﴿ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا، وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾ [النحل: 78]
عباد الله، حتى لا نعتقد أننا خلقنا عبثا دون هدف، فإن الله سبحانه وتعالى بين لنا أن الغرض من هذا الإيجاد للبشرية جمعاء على وجه الأرض؛ هو من أجل الامتحان والاختبار، على مدى عبوديتنا له سبحانه وتعالى، وسيكون الجزاء يوم القيامة بعد الموت، قال تعالى في سورة الإنسان: ﴿ هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا * إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا ﴾ [الإنسان: 1 – 3]
عباد الله، إننا في هذه الحياة الدنيا في دار امتحان واختبار، قال تعالى في سورة الملك: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا، وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ ﴾ [الملك: 1، 2]
في هذه الآية الكريمة من سورة الملك، يبين لنا الحق سبحانه وتعالى أن الموت خلق من خلق الله، مثل الحياة، وأنها ليست عدما، ويبقى التساؤل مطروحا، لماذا قدَّم الله في هذه الآية من سورة الملك؛ الموت على الحياة، مع أنه في الترتيب الزمني يحيا الإنسان ثم يموت؟ كثرت الأقوال والتفسيرات في ذلك، ومما قيل: إن حدث الحياة، أو حدث الولادة، يعطيك فرصتين؛ إما أن تكون سعيداً، وإما أن تكون شقياً، يعطيك فرصةً كي تتعرَّف إلى الله عز وجل، لكن حدث الموت حدثٌ مَصيريّ، يحدد السعادة الأبدية أو الشقاء الأبدي، لذلك حدث الموت أخطر في حياة الإنسان من حدث الولادة، ولا يسعد الإنسان في الدار الآخرة؛ إلا إذا صَلحَ عمله في الحياة الدنيا، ولا يَصْلُح عمله إلا إذا عرف ربه.
عباد الله، جل الناس مشغولين بحياتهم الدنيا، والحياة الدنيا تأخذ كل ساحة نفوسهم، فهي أكبر همهم، ومبلغ علمهم، ومحط آمالهم، ومنتهى غايتهم، أما حدث الموت، فلا يدخل في حساباتهم اليومية، لذلك جاءت السور المكية التي نزلت قبل الهجرة من مكة إلى المدينة، لترسخ حقيقة الموت وما بعد الموت، ونتيجة البلاء تكون بعد الموت، إذن فالله تعالى هو الذي خلق الموت، والبلاء هو للموت ولما بعد الموت، ونتيجة الابتلاء تكون بعد الموت، كأنما ﴿ ليبلوكم أيكم أحسن عملاً﴾، هو للموت وليس للحياة، نتيجته للموت، وبعد الموت، لهذا جاء الغرض هو المتقدم، لأنه هو الدافع والمحفز والرافع للهمم. ونتيجته ستكون بعد الموت، قال تعالى: ﴿وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ﴾، فمتى يغفر سبحانه الذنوب؟ إن الغفران يكون بعد الموت، فإذا لم يكن هناك موت لا يكون هناك غفران. الموت عِلّة متقدمة، وغرض متقدم، الغرض من البلاء، يعني أن الله سبحانه وتعالى خلق الموت لكي نعرف نتيجة البلاء، لذلك يتعلق به، وقدم الموت على الحياة، لأن أقوى الناس داعيا إلى العمل، من نصب موته بين عينيه؛ فقُدّم الموت، روى الطبراني في معجمه الكبير، عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: (أتيت النبي صلى الله عليه وسلم عاشر عشرة، فجاء رجل من الأنصار فقال: يا نبي الله، من أكيس الناس وأحزم الناس؟ قال: أكثرهم ذكرا للموت، وأشدهم استعدادا للموت قبل نزول الموت، أولئك هم الأكياس، ذهبوا بشرف الدنيا والآخرة) [رواه الطبراني في معجمه الكبير ج12/ص417 ح13536]، قال السدي رحمه الله تعالى في قوله سبحانه : ﴿الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا﴾، أي أكثركم للموت ذكرا، وأحسن استعدادا، ومنه أشد خوفا وحذرا. وقال ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: (تلا النبي صلى الله عليه وسلم”تبارك الذي بيده الملك” حتى بلغ : “أيكم أحسن عملا”، فقال: أورع عن محارم الله، وأسرع في طاعة الله). وقيل: (خلق الله الموت للبعث والجزاء، وخلق الحياة للابتلاء . فاللام في ليبلوكم تتعلق بخلق الحياة لا بخلق الموت؛ ذكره الزجاج). وقال الفراء والزجاج أيضا: (لم تقع البلوى على ” أي ” لأن فيما بين البلوى و ” أي ” إضمار فعل؛ كما تقول: بلوتكم لأنظر أيكم أطوع. والمعنى: ليبلوكم فيعلم أو فينظر أيكم أحسن عملا. وهو العزيز في انتقامه ممن عصاه. فإن معنى الابتلاء مشعر بترتب أثر له، وهو الجزاء على العمل، للتذكير بحكمة جعل هذين الناموسين البديعين الموت والحياة في الحيوان، لتظهر حكمة خلق الإنسان، ويُفضِيا به إلى الوجود الخالد).
عباد الله، إن الله تعالى خلق الموت والحياة؛ ليكون منكم أحياء يعملون الصالحات والسيئات، ثم أمواتاً يَخلُصون إلى يوم الجزاء، فيجزون على أعمالهم بما يناسبها. وفي الكلام تقديرُ: هو الذي خلق الموت والحياة؛ لتحيَوا فيبلوكم أيكم أحسن عملاً، وتموتوا فتُجزوا على حسب تلك البلوى، ولكون هذا هو المقصود الأهم من هذا الكلام قدم الموت على الحياة.
و﴿ أحسن﴾ تفضيل، أي أحسن عملاً من غيره، فالأعمال الحسنة متفاوتة في الحسن إلى أدناها، فأما الأعمال السيئة فإنها مفهومة بدلالة الفحوى؛ لأن البلوى في أحسن الأعمال تقتضي البلوى في السيئات بالأوْلى، لأن إحصاءها والإِحاطة بها أولى في الجزاء لما يترتب عليها من الاجتراء على الشارع، ومن الفساد في النفس، وفي نظام العالم، وذلك أولى بالعقاب عليه، ففي قوله: ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملاً﴾ إيجاز واختصار.
وجملة: ﴿وهو العزيز الغفور﴾ تذييل لجملة: ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملاً﴾، إشارة إلى أن صفاته تعالى تقتضي تعلقاً بمتعلقاتها لئلا تكون معطلة في بعض الأحوال والأزمان فيفضي ذلك إلى نقائضها، فأما ﴿العزيز﴾ فهو الغالب الذي لا يعجز عن شيء، وذكره مناسب للجزاء المستفاد من قوله: ﴿ليبلوكم أيكم أحسن عملاً﴾، أي ليجزيكم جزاء العزيز، فعلم أن المراد الجزاء على المخالفات والنكول عن الطاعة. وهذا حظ المشركين الذين شملهم ضمير الخطاب في قوله ﴿ليبلوكم﴾.
وأما ﴿الغفور﴾ فهو الذي يكرم أولياءه، ويصفح عن فلتاتهم، فهو مناسب للجزاء على الطاعات، وكناية عنه، قال تعالى في سورة طه: ﴿وإني لغفار لمن تاب وآمن وعمل صالحاً ثم اهتدى﴾ [ طه : 82 ] فهو إشارة إلى حظ أهل الصلاح من المخاطبين .
عباد الله، إذا كانت الملائكة قد سجدت لآدم عليه السلام تكريما لما امتلأ به من علم نافع، فما حظكم وأنتم في دار الاختبار، هل طلبتم العلم النافع الذي يقرب إلى الله، وينشئ فيكم الخشية منه، ويجعلكم تعمرون هذه الأرض بدل تخريبها، ويستغفر لكم الكون كله بما في ذلك الملائكة الكرام؟ روى البيهقي في شعب الإيمان، عَنْ أَبِي الدَّرْدَاءِ رضي الله تعالى عنه قَالَ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: (مَنْ سَلَكَ طَرِيقًا يَطْلُبُ فِيهِ عِلْمًا، سَلَكَ اللهُ بِهِ طَرِيقًا إِلَى الْجَنَّةِ، وَإِنَّ الْمَلَائِكَةَ لَتَضَعُ أَجْنِحَتَهَا لِطَالِبِ الْعِلْمِ رِضًا بِمَا يَصْنَعُ، وَإِنَّهُ لَيَسْتَغْفِرُ لَهُ دَوَابُّ الْبِرِّ حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ)، [رواه البيهقي في شعب الإيمان (3/ 221)،ح 1574].
وروى أبو نعيم في حلية الأولياء وطبقات الأصفياء، عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ قَالَ: « تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ؛ فَإِنَّ تَعَلُّمَهُ لِلَّهِ تَعَالَى خَشْيَةٌ، وَطَلَبَهُ عِبَادَةٌ، وَمُذَاكَرَتَهُ تَسْبِيحٌ، وَالْبَحْثَ عَنْهُ جِهَادٌ، وَتَعْلِيمَهُ لِمَنْ لَا يَعْلَمُ صَدَقَةٌ، وَبَذْلَهُ لِأَهْلِهِ قُرْبَةٌ؛ لِأَنَّهُ مَعَالِمُ الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ، وَمَنَارُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَالْأُنْسُ فِي الْوَحْشَةِ، وَالصَّاحِبُ فِي الْغُرْبَةِ، وَالْمُحَدِّثُ فِي الْخَلْوَةِ، وَالدَّلِيلُ عَلَى السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ، وَالسِّلَاحُ عَلَى الْأَعْدَاءِ، وَالدِّينُ عِنْدَ الْأَجِلَّاءِ، يَرْفَعُ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَقْوَامًا، وَيَجْعَلُهُمْ فِي الْخَيْرِ قَادَةً وَأَئِمَّةً، تُقْتَبَسُ آثَارُهُمْ، وَيُقْتَدَى بِفِعَالِهِمْ، وَيُنْتَهَى إِلَى رَأْيِهِمْ، تَرْغَبُ الْمَلَائِكَةُ فِي خِلَّتِهِمْ، وَبِأَجْنِحَتِهَا تَمْسَحُهُمْ، يَسْتَغْفِرُ لَهُمْ كُلُّ رَطْبٍ وَيَابِسٍ، حَتَّى الْحِيتَانُ فِي الْبَحْرِ وَهَوَامُّهُ، وَسِبَاعُ الطَّيْرِ وَأَنْعَامُهُ، لِأَنَّ الْعِلْمَ حَيَاةُ الْقُلُوبِ مِنَ الْجَهْلِ، وَمِصْبَاحُ الْأَبْصَارِ مِنَ الظُّلْمِ، يَبْلُغُ بِالْعِلْمِ مَنَازِلَ الْأَخْيَارِ، وَالدَّرَجَةَ الْعُلْيَا فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ. وَالتَّفَكُّرُ فِيهِ يَعْدِلُ بِالصِّيَامِ، وَمُدَارَسَتُهُ بِالْقِيَامِ، بِهِ تُوصَلُ الْأَرْحَامُ، وَيُعْرَفُ الْحَلَالُ مِنَ الْحَرَامِ، إِمَامُ الْعُمَّالِ، وَالْعَمَلُ تَابِعُهُ، يُلْهَمُهُ السُّعَدَاءَ، وَيُحْرَمُهُ الْأَشْقِيَاءِ» [رواه أبو نعيم حلية الأولياء وطبقات الأصفياء (1/ 239)].
عباد الله، إن الامتلاء المطلوب منكم في الحياة الدنيا والذي يكون بالعلم النافع، والعمل الصالح، يسمى صناعة الحياة، فهل صنعتم حياتكم كما يريد الله منكم، فعشتم سعادة الدارين، أم عشتم كالبهائم الذين قال تعالى فيهم في سورة الأعراف: ﴿ وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ، لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا، وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا، وَلَهُمْ آذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا، أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ، بَلْ هُمْ أَضَلُّ، أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ﴾ [الأعراف: 179]