النظام الليبرالي وأفق تسليع الأسرة
بقلم: د. فؤاد هراجة
باحث في الفلسفة والأخلاق
إن من أهم الأسس التي تقوم عليها الليبرالية الجديدة “الحرية الفردية” والتي تعني فيما تعنيه التحرر من كل القيود والضوابط سواء التشريعية على مستوى الدولة أو القيمية الثقافية على مستوى المجتمع أو الأخلاقية على مستوى الأسرة. فمن أجل رفع كل الضوابط على حركة رؤوس أموال الخواص تعمل الليبرالية على تجريف كل القوانين المقيِّدة، ومحاربة كل التنظيمات والهيئات والمؤسسات ذات التوجهات الاجتماعية. هكذا، فبعدما تمكنت الليبرالية الجديدة من اختراق الحكومات الوطنية في معظم بقاع العالم، وتمكنت من تدجين النقابات المهنية و من سحق الأحزاب السياسية المناهضة للخوصصة، وبعدما قلصت من دور الدولة وجعلتها رهينة في يد الاقتصاد المحلي والعالمي، توجهت الليبرالية إلى آخر المعاقل التي تشكل مقاومة هادئة واستراتيجية في وجه التغلغل الليبرالي الفاحش، وهذا المعقل هو “الأسرة” باعتبارها أقدم مؤسسة اجتماعية على الإطلاق. لقد قامت الأسرة عبر التاريخ بأدوار متعددة ومختلفة ومتكاملة جعلت منها ضامنا لاستمرارية الجنس البشري من جهة، وضامنا لاستمرار الأخلاق والقيم من جهة أخرى.
لقد سقطت دول كبرى وإمبراطوريات عظمى، واندثرت ديانات ومذاهب، وبقيت مؤسسة الأسرة صامدة وصمام أمان وفرت لأفرادها بكل مسؤولية من الرعاية والتكافل والتضامن الاجتماعي ما عجزت عنه الدول بكل ما تمتلك من إمكانيات مادية ومعنوية. هذه القوة والصلابة التاريخية التي تتمتع بها الأسرة كنواة للمجتمع، دفعت بالليبرالية الجديدة أن تتبرم من فكرة القضاء على نظام الأسرة من خلال تفجير هذه النواة، وأن تخطيط في المقابل لتفكيك بنيتها من الداخل، بحيث تضمن التشريعات المنظمة لها الحرية الفردية لكل أطرافها، مع سلب الجميع القدرة على أداء وظيفة القطب الذي تدور عليه رحى الأسرة.
ولتحقيق هذا الغرض ذي البعد الاقتصادي، عمدت الليبرالية إلى القضاء على الأسرة الكبيرة (macro family) التي كانت توفر الأمن الاجتماعي والاقتصادي على الأقل لأربع حتى خمس أسر في كنفها، حيث كنا نجد في البيت الكبير المفتوح هندسيا من الداخل، ذي الغرف العديدة، ما يزيد أحيانا عن ثلاثين فردا؛ جد وجدة، و أربعة إلى خمسة أزواج وأبناء، كلهم يعيشون تحت سقف واحد ومطبخ واحد. هذا النمط من العيش أولا يشكل عائقا في وجه الاستهلاك، إذ تشترك العائلة في متاع البيت ويكون مشاعا بينها، كما أن الوجبات الجماعية ونمط الأكل يقلص من درجة الاستهلاك. ثانيا تمثل هذه البنية الاجتماعية نمطا مغلقا من القيم والأخلاق يستعصي اختراقه. لهذا سعت الليبرالية الجديدة إلى تشجيع نمطها الأسري الجديد المتمثل في الأسرة المجهرية (micro family) التي تتشكل من أب وأم وطفلين أو ثلاث، وكرست عمرانيا المباني الصغيرة بين 50 و100 متر، بهذا نجحت الليبرالية في تحقيق هدفين اثنين، الأول يتمثل في ضرب الأسرة الكبيرة الحاملة القيم والأخلاق الحميدة، والثاني يتجلى في تحريك عجلة الاستهلاك على كل المستويات، ولكم أن تتصوروا حجم المقتنيات والسلع التي ستحتاجها كل أسرة صغيرة والتي كانت تستغني عنها وهي في كتف الأسرة الكبيرة. لكن طموح النظام الليبرالي وأطماعه لن تتوقف عند تفكيك الأسرة الكبيرة إلى أسر مجهرية بل ستتعداه إلى جعل الأسرة المجهرية مجرد شكل بلا مضمون، أي يتم السماح ببناء أسرة مفرغة من كل الضوابط الأخلاقية والقيمية التي تحكمها؛ أسرة بأشكال جنسية مختلفة، أسرة لا حق لها في تقرير دين الأبناء، بل لا حق لها حتى في تقرير جنسهم، فوظيفة الأسرة المجهرية تكمن فقط في توفير علاقات بين أشخاص تتكفل المدرسة بتربيتهم والقوانين بحمايتهم حتى من آبائهم. أما الزوجان فهما مرتبطان بخيوط العنكبوت!
لا ضير إذن، في ظل الليبرالية الجديدة، من تكوين أسرة مجهرية خالية من الضوابط والقيود ولا يسمح لها بإعادة إنتاج القيم والأخلاق التقليدية(بالمفهوم الإيجابي للكلمة)، أسرة تفتقر إلى المناعة الاجتماعية، ولديها قابلية التأثر بكل المخططات الاستهلاكية، بكلمات أوضح “أسرة سوقية” تحولت من نواة للمجتمع إلى نواة للاستهلاك! كل هذه الأهداف والغايات الليبرالية دونها والتحقق في بلداننا الإسلامية قوانين أسرية تحكمها مرجعية دينية مناقضة لهذه الأطماع السوقية، قوانين وإن اعترتها بعض النواقص إما فهما أو اختيارا أو تنزيلا، إلا أنها استطاعت رغم ظروف الاستبداد والفساد والأمية والتفقير أن تحافظ على الأمن الاجتماعي، وأن تسد الخلل الهائل الذي خلفه فساد الدولة في التدبير والتسيير، ما يجعلنا اليوم في أمسِّ الحاجة إلى التشبت بقيمنا وأخلاقنا الإسلامية، وأن نسعى إلى تجويد تشريعاتنا وجعلها قادرة على مسايرة العصر ومجابهة تحدياته، وذلك من خلال فتح باب الاجتهاد والتجديد بما يحقق مصلحة الناس ويرفع عنهم الضرر أيا كان ماديا أو معنويا.
لهذا كله، يتوجب على المجتمعات العربية والإسلامية الانتباه إلى كل المخططات النيوليبرالية التي تسعى تحت مسمى الحقوق إلى تحويل الأسرة المجهرية من مؤسسة اجتماعية إلى مؤسسة استهلاكية من خلال إفراغ هذه الأسرة من وظائفها الثقافية والأخلاقية والدينية، وذلك بِسَنِّ ووضع مدونات للأسرة تسعى بالتدريج إلى تثبيت المنظومة الليبرالية من أعلى مؤسسة وهي الدولة إلى أصغر مؤسسة وهي الأسرة.
إن ما يثير استغرابي هو انخراط هيئات حقوقية وحزبية ذات توجهات يسارية في عملية تجريف الأسرة من الضوابط، لا لشيء إلا لعدم انفاقها مع المرجعية الدينية، ضاربة عرض الحائط عداءها للنيوليبرالية التي أصبحت تخدمها من حيث تدري أو لا تدري وهي تتماهى معها في الدعوة إلى الحرية الفردية والتحرر من الضوابط والقيود الأخلاقية. إن النقاش الجاري اليوم حول مدونة الأسرة لابد أن يستحضر من جهة، هذه الخلفية النيوليبرالية الساعية إلى تسليع الأسرة، ثم لابد له من جهة أخرى إدراك أن ما يعانيه المجتمع عامة والأسرة خاصة من بؤس وفقر وطبقية وبطالة وغلاء الأسعار…، سببه الرئيس هذه النيوليبرالية المقنعة التي تخرج لنا برؤوس متعددة من خلال المؤسسات المالية الدولية(صندوق النقد الدولي والبنك الدولي ومنظمة التجارة العالمية) وربيباتها من المؤتمرات والمعاهدات( بيكين وسيداو، والقاهرة…) ما يستوجب من كل القوى المناهضة للنيوليبرالية المتوحشة أن تتوحد من أجل حماية الأسرة من هذا السرطان وأفكاره الهدامة التي لا تخدم سوى أصحاب رؤوس الأموال.