الانتقائية في قراءة السيرة النبوية: غزوة بدر نموذجاً(1) سلسلة دروس من غزوة بدر
إدريس قافو
الانتقائية في قراءة السيرة النبوية: غزوة بدر نموذجاً(1)
سلسلة دروس من غزوة بدر
بقلم: إدريس قافو
يميل كثير من الناس([1]) بطبيعتهم إلى “التبسيط” أو ما يشبه (نظام العَدِّ الثنائي0-1 système binaire)([2])؛ فيقسِّموا الأحكام إلى (يجوز/ لا يجوز)، أو (حق: (ما أنا عليه ومن معي) / باطل: (ما عليه الآخرون))، والمواقف إلى (مع / ضد)، والعالم إلى (نحن/ هم)… ومن النتائج المتطرفة لهذه الطبيعة تقديس الأشخاص أو شيطنتهم؛ لذلك: ﴿قَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ﴾ ([3])، بعد أن قالوا مثل ما قال الأخرون: ما نراك إلا بشراً مثلنا و ساحرٌ و مجنونٌ وكذابٌ… قفزاً من تطرف أقصى اليسار إلى تطرف أقصى اليمين. وقراءة السيرة النبوية والتاريخ عموما لم تسلم من هذه النزعة المتطرفة: إما التقديس أو الشيطنة، وهذه القراءة لا تتوافق مع منهج الاعتدال في القرآن والسنة النبوية، ولها نتائج عكسية خطيرة على صاحبها وعلى الدعوة والدولة معا.
أهلُ بدر ووَجْهَا القمرِ في القرآن والحديث
لقد حسم الوحي مكانة أهل بدر، وجعلهم من أفضل المسلمين؛ فقد »جاء جبريل إلى النبي ﷺ، فقال: ما تعدون أهل بدر فيكم؟ قال: من أفضل المسلمين -أو كلمة نحوها- قال: وكذلك من شهد بدرا من الملائكة« ([4]).
لكن هذه الأفضلية يجب ألا تحجب عنا بشريتهم التي يعتريها الضَعف، فقد حاول حاطب بن أبي بلثعة ٪ وهو من أهل بدر- إرسالَ خبر رسول الله ﷺ إلى قريش قُبَيلَ يوم الفتح، ليُسْدِي إليهم بذلك معروفا يحمون به قرابته، وحين أراد عمر بن الخطاب٪ أن يقتله قال له رسول الله ﷺ: »إنه شهد بدرا وما يُدريك؟ لعل الله عز وجل اطلع على أهل بدر فقال: اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم« .([5])
وصور التضحية والبذل؛ كتضحيةِ المهاجرين الأولين بالديار والوطن والأهل والمال نصرةً للإسلام، أو إيثارِ الأنصار الذي وصفه الله تعالى بقوله: ﴿وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالْإِيمَانَ مِن قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلَا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَىٰ أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ﴾ ([6])، يجب ألا تحجُب عنا رسوخ الطبيعة البشرية في سلوكهم، ففي يوم بدر الذي سماه الله تعالى يوم الفرقان، وجعله مصدر الهام للمجاهدين عبر الأزمان، والذي كان نصره المشهود جديرا أن ينسيهم أي غنيمة أخرى، اختلف بعضهم في الغنائم وكان ذلك سببا في نزول سورة الأنفال؛ فعن عبادة بن الصامت قال: (فينا معشر أصحاب بدر نزلت حين اختلفنا في النَّفل وساءت فيه أخلاقنا)([7]).
وصور الشجاعة كصورة عمير بن الحُمام وهو يرمي بما كان معه من التمر، ويقول: «لئن أنا عشت حتى آكل تمراتي هذه، جميعها، «إنها لحياة طويلة!»([8]) ، أو صورة سعد وهو يقول لرسول الله ﷺ» وَالَّذِي نَفْسِي بيَدِهِ، لو أَمَرْتَنَا أَنْ نُخِيضَهَا البَحْرَ لأَخَضْنَاهَا« ([9]) يجب ألَّا تحجبَ عن القارئ وجود لحظة من لحظات الخوف الطبيعي([10]) الذي اعترى الصحب الكرام قبل المعركة، والتي أشار إليها الله تعالى بقوله: ﴿كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ﴾ ([11]). وجدالهم: قولهم ما كان خروجنا إلا للعير، وهلا قلت لنا لنستعد([12])، وأما قوله تعالى:﴿كأنما يساقون إلى الموت وهم ينظرون﴾، فقد شبه حالهم من فرط فزعهم بحال من يساق إلى الموت ([13]).
لماذا يُعرِض البعض عن ذكر بشرية الصحابة رضي الله عنه
إن الإعراض عن ذكر الطبيعة البشرية في حياة الصحابة يرجع إلى أصول منها:
– أن البعض يعتبر ذلك من مقتضيات توقيرهم الواجب على الأمة، أو من الغيبة المعرَّفة بقوله ﷺ:»ذِكْرُكَ أخاكَ بما يَكْرَهُ« ([14]) و المنهي عنها شرعا.
-والبعض يعتبر ذكرَ الخطإ انتقاصاً من المخطئ، في حين أن المجتهد المخطئ له أجر، مصداقا للحديث النبوي:»إذا حَكَمَ الحاكِمُ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أصابَ فَلَهُ أجْرانِ، وإذا حَكَمَ فاجْتَهَدَ ثُمَّ أخْطَأَ فَلَهُ أجْرٌ« ([15]).
-والبعض يلجأ إلى السكوت عن بعض الجوانب التي قد تبدو له سلبية حين لا يستقيم في منطقه القاصر الجمع بين الاصطفاء الرباني ومظاهر الطبيعة البشرية، كالجمع بين قوله تعالى: ﴿إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَىٰ آدَمَ وَنُوحًا وَآلَ إِبْرَاهِيمَ وَآلَ عِمْرَانَ عَلَى الْعَالَمِينَ﴾ ([16]) وقوله تعالى: ﴿وَعَصَىٰ آدَمُ رَبَّهُ فَغَوَىٰ﴾ ([17])، وقد يفعل ذلك مغالبةً للذين ينتقصون من مكانة الصحابة ٪.
ما الهدف من التأكيد على الطبيعة البشرية في حياة الصحابة رضي الله عنه
إن الأصل في كل مسلم ذي عقل ألا يشتغل إلا بما فيه خلاصه في الآخرة، وخلاص أمة رسول الله ﷺ في الدنيا، وانطلاقا من هذا الأصل نعتبر أن الهدف من ذكر جوانب الضعف البشري في حياة الصحابة رضي الله عنه هو أن نقول:
–إن مقدمة أي نصر يمكن أن يحققه الإنسان، في ميدان الاستقامة أو ميدان التدافع في الأرض، هي الانتصار على نفسه، والانتصار على النفس لا يتأتى إلا بمعرفة طبيعتها ودورانها وروغانها. واختيار سِيَرِ الصحابة رضي الله عنه لفهم طبيعة النفس البشرية يعود إلى أسباب منها: ما يجمعنا معهم من وحدة الغاية، واعتبار أن الوحي كان يكشف بما لا يدَعُ مجالا للجدل ما تخفيه تلك النفوس في مسيرتها لتحقيق تلك الغاية. واعتقاد أن كل ما وقع في حياة رسول الله ﷺ وأصحابه من أحداث هو لتعليم الأمة وتربيتها.
–إن مثالية الإسلام مثالية واقعية، وإن أولئك الذين حققوا ذلك النموذج السامي هم أناس كباقي البشر يعتريهم الضَعف والخوف والخطأ، فمهما كانت زلاتك وضعفك أيها المسلم، فعليك أن تُوقن أن ذلك النموذج الخالد لازال قابلا للتكرار، مصداقا لقوله ﷺ:»… ثُمَّ تكونُ مُلكًا جَبريَّةً، … ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ نُبوَّةٍ، النبوة« ([18]). وإن فاتك شرف أن تكون من أصحاب رسول الله ﷺ فأمامك فرصة أن تكون من إخوانه الذين عبر عن شوقه إليهم بقوله:» ودِدْتُ أنَّا قدْ رَأَيْنا إخْوانَنا قالوا: أوَلَسْنا إخْوانَكَ؟ يا رَسولَ اللهِ، قالَ: أنتُمْ أصْحابِي وإخْوانُنا الَّذِينَ لَمْ يَأْتُوا بَعْدُ« ([19]).
–إن التنظير لمستقبل الإسلام يقتضي قراءة موضوعية لتاريخه؛ قراءة تتعلم من أخطاء من سبقونا كما تتعلم من صوابهم؛ قراءة تستهدف استخلاص القوانين التي تحكم الأفراد والمجتمعات… وهذه القراءة قد تقتضي “كشف جانب من ذلك الستر بمقدار ما نتبين كيف تجري قوانين الله ونواميسه في الكون”([20]) ، تماما كما يضطر الطبيب عند تشخيص بعض الأمراض العضوية إلى كشف بعض العورات، وكما اقتضى الحفاظ على الدين تأسيس علم الجرح والتعديل([21]).
-إن الكمالَ البشري في نسبيته المجبولة على الخطإ والنقص بعيدٌ عن دركات الشيطنة التي تفلسف الخطأ أو تبرره، لكنه دون درجات العصمة والملائكية (نسبة للملائكة).
ما هي خطورة القراءة الانتقائية
إن تعمُّدَ ذكرِ أنصاف الحقائق هو تزويرٌ لها، بل إن أنصاف الحقائق هي أمهات الجهل بالرضاعة، ومن أنصاف الحقائق الاقتصار على ذكر جوانب الإيجابية والفاعلية فقط. والقراءة الانتقائية للأحداث وللتاريخ، خصوصا ما يتعلق بالسيرة النبوية، من شأنها أن ” تُغَطّي عن عقولنا المتعطشة للسيادة والعدل والقوة جوانب الضعف البشري في النموذج النبوي الصحابي لتُبْرِزَ جوانب الإيجابية والفاعلية، فتترسخ في أذهاننا صورٌ لامعة يكتسي فيها الجهاد الأول كسوة العصمة أو ما يشبهها. هذه القراءة المكبوتة المحروسة … تُخفي تهديدا مباشرا وخطيرا لمستقبل الدعوة والدولة”([22]) ، تهديدا يتمثل في نشدان مثالية غير قابلة للتحقق.
أ- خطورة المثالية على مستقبل الدعوة
إن باب الدعوة هم الدعاة؛ لأن الناس لا يتبعون القضايا النبيلة في البداية، بل يتبعون القادة الأكفاء الذين يؤيدون قضايا يمكنهم الإيمان بها، فالناس يقتنعون بالقائد أولا ([23])، وقد اقتضت حكمة الله الخبير بطبيعة خلقه ألا يكتفيَ بإنزال الكتب والصحف وأمْرِ الناس بتطبيق ما تتضمنه من مبادئ وأحكام، بل أرسل مع الكتب والصحف نماذج بشرية تتحرك في بيئة واقعية، وتأخذ بكل الأسباب الأرضية، لأن “النصوص وحدها لا تصنع شيئا، وان المصحف وحده لا يعمل حتى يكون رجلا، وان المبادئ وحدها لا تعيش إلا أن تكون سلوكا”([24]). وخطورة المثالية على الدعوة تتمثل في أنها من أسباب الإعراض عن كل من ظهرت أوصاف بشريته، “وقد أخفى المولى الحكيم سبحانه سرَّه في أجساد عباده المصطفين… فهم بشر كالبشر فيمَا تراه العين من غالب أحوالهم”([25]) والوقوف عند الأوصاف البشرية للدعاة هو فتنة تمنع الناس من اتباع ما معهم من الهدى. قال تعالى: ﴿وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوٓاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰٓ إِلَّآ أَن قَالُوٓاْ أَبَعَثَ ٱللَّهُ بَشَرًا رَّسُولً﴾ ([26])
ب: خطورة المثالية على مستقبل الدولة
إن أكبر مهمة للدولة “والسياسة هي فن الممكن” هي الترجيح بين المصالح والمفاسد، أو درء المفاسد وجلب المصالح، وآفة القراءة الانتقائية أنها ترسخ في أذهان البعض مثالية سابحة في عالم الخيال ترفض في زَعْمِها السلبيات، فهي:
– لا تريد أن تتلوَّث مواقفها بالتنازلات التي يمليها الترجيح بين المفاسد والمصالح …
– لا تريد الاعتراف بإكراهات المسؤولية ومتطلبات العيش التي أرغمت يعقوب عليه السلام على إرسال ابنه الثاني مع إخوته رغم أنه بكى مما فعلوا بيوسف عليه السلام حتى ﴿ٱبْيَضَّتْ عَيْنَاهُ مِنَ ٱلْحُزْنِ﴾ ([27]).
– قد تتحيز لحقيقة واحدة دون باقي الحقائق كما تحيَّز الصحابة٪ يوم الحديبية لموقف» ألَسْنَا علَى الحَقِّ وهُمْ علَى البَاطِلِ؟ أليسَ قَتْلَانَا في الجَنَّةِ، وقَتْلَاهُمْ في النَّارِ؟« ([28])، وكان من نتائج هذا التحيز “إعلان العصيان المدني”، ورفض الامتثال لأمر رسول الله ﷺ حين قال»قُومُوا فَانْحَرُوا ثُمَّ احْلِقُوا« ([29]).
أما خطورة هذه المثالية على صاحبها فتكمن في التباس أمرها عليه، فيعتقد أنها مظهر من مظاهر القوة، في حين أنها من مؤشرات الضعف الذي يعجز صاحبه عن استيعاب مقتضيات زمن الفتنة الذي “يختلط فيه الظلام بالضياء، ويختلط فيه حلال نطلبه بحرام نحن مضطرون لأكله كما يأكل الجائع اليائس الميتة ولحم الخنزير”([30]). وهذا العجز يوشك أن يعقبه يأس من التغيير، واضطراب في التفكير، ثم غُصة الإخفاق عندما يصدمه واقع ثقيل معقد لا يخضع لتصنيفات صاحبه.
الخلاصة
آفة القراءة الانتقائية أنها تقدم أنصاف الحقائق، وترسخ مثالية غير واقعية، وهذه المثالية خطيرة على الفرد وعلى والدعوة و(الدولة مستقبلا). لذلك، علينا أن نقبل تاريخنا بقلب مطمئن، لكن بعين فاحصة. ([31])
([1]) _ الناس: التعبير ((بلفظ الناس لظهور معنى النوس فيهم لاضطرابهم بين الحالين، لأن النوس هو حركة الشيء اللطيف المعلق في الهواء، كالخيط الذي ليس في طرفه الأسفل ما يثقله فلا يزال مضطربا بين جهتين)، أنظر البقاعي: نظم الدرر، ج1، ص100-101
([2]) _ النظام العد الثنائي: هو نظام عدٍّ يُستخدم لتمثيل الأعداد باستخدام (0 و1). أو تمثيل الحالتين (صحيح /خطأ) أو (تشغيل /إطفاء). وهذا النظام هو المستخدم عملياً في كل الحواسيب.
([7]) _ -الإمام أحمد، مسند الإمام أحمد بن حنبل. وفي تعليق الهيثمي على رواية أحمد لهذا الحديث قال: (ورجال الطريقين ثقات). انظر الهيثمي: مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
([10]) _ وصف الخوف بالطبيعي لأن موسى عليه السلام وهو من أولي العزم من الرسل قال: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّى قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْسًا فَأَخَافُ أَن يَقْتُلُونِ﴾ (سورة القصص: الآية 33)
([11]) _ سورة الأنفال: الآيتين 5-6
([12]) _ أنظر تفسير الآية عند النسفي: مدارك التنزيل
([15]) _ رواه البخاري في صحيحه
([18]) _ رواه الامام أحمد في مسنده، وقال الهيثمي رجاله ثقات، أنظر مجمع الزوائد ومنبع الفوائد.
([20]) _ ياسين، عبد السلام: نظرات في الفقه والتاريخ، ص28
([21]) _ علم الجرح والتعديل: أحد فروع علم الحديث، يبحث عن أحوال رواة الحديث من حيث اتصافهم بشروط قبول رواياتهم ه
([22]) _ياسين، عبد السلام: الإحسان، ج2، ص119
([23]) _أنظر ماكسويل، جون سي (JOHN C. MAXWELL): 21 قانونًا لا يقبل الجدل في القيادة، الترجمة العربية والنشر والتوزيع: مكتبة جرير، السعودية، الطبعة الثالثة، 2012. ص171. بتصرف
([24]) _ قطب، سيد: دراسات إسلامية، دار الشرق، الطبعة 11، 1427 ه/ 2006 م. ص 27.
([25]) _ ياسين، عبد السلام: الإحسان، ج2، ص199
([26]) _ سورة الإسراء: الآية 94
([28]) _ رواه البخاري في صحيحه
([29]) _ أنظر قصة الحديبية في صحيح البخاري
([30]) _ ياسين، عبد السلام: المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا، ص271
([31]) _ أنظر ياسين، عبد السلام: نظرات في الفقه والتاريخ، ص20. بتصرف