منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

مفهوم الفقه الحضاري

لطيفة يوسفي

0

المطلب الأول: الفقه لغة واصطلاحا

  • الفرع الأول: الفقه في اللغة

تدور مادة ( فقه ) في اللغة على معنى الفهم والادراك ولبيان ذلك نورد النقول التالية:

ففي (مختار الصحاح ) للرازي ” (الفقه) (فقه) الرجل بالكسر (فقها) وفلان لا يفقه ولا ينقه. و (أفقهته) الشيء. هذا أصله. ثم خص بهعلم الشريعة. والعالم به (فقيه). وقد (فقه) من باب ظرف أي صار فقيها. و (فقهه) الله (تفقيها). و (تفقهه) إذا تعاطى ذلك. و (فاقهه) باحثه في العلم.”[1]

وفي (لسان العرب) لابن منظور ” فقه: الفقه: العلم بالشيء والفهم له، وغلب على علم الدين لسيادته وشرفه وفضله على سائر أنواع العلم كما غلب النجم على الثريا والعود على المندل، وفقه فقها: بمعنى علم علما. ابن سيده: وقد فقه فقاهة وهو فقيه من قوم فقهاء، والأنثى فقيهة من نسوة فقائه. وحكى اللحياني: نسوة فقهاء، وهي نادرة، قال: وعندي أن قائل فقهاء من العرب لم يعتد بهاء التأنيث، ونظيرها نسوة فقراء. وقال بعضهم: فقه الرجل فقها وفقها وفقه.”[2]

من خلال هذه التعريفات الواردة يمكن رصد ما يدل عليه لفظ ( الفقه ) عند أهل اللغة فيما يلي:

      • الفقه بالكسر: الفهم المطلق
      • والفقه بالضم: السبق إلى الفهم
      • والفقه بالفتح: أي صار سجية لصاحبه

فالفقه يراد به دقة الفهم والادراك، ومعرفة غرض المتكلم، وهذا المراد معروف في المدونة اللغوية والشرعية التي تطلق الفقه على كل علم دقيق وعلى أي معرفة عميقة وواعية وجامعة ومدركة، ولا تطلق على مجرد المعرفة العامة والسطحية والشكلية والظاهرية. ” فهو أخص من العلم.”[3]

وقد ورد ذكر الفقه في آيات كثيرة من القرآن الكريم تفيد هذه المعاني منها:

  • ﴿فَمَالِ هَؤُلَاءِ الْقَوْمِ لَا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثًا[4] أي: ” لا يكادون يعلمون حقيقة ما تخبرهم به.”[5]
  • ﴿لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ[6] أي “يتعلمون ما أنزل الله على نبيهم ويعلمونه السرايا إذا رجعت إليهم.”[7]
  • ﴿يَفْقَهُوا قَوْلِي[8] أي: ” يفقهوا عني ما أخاطبهم وأراجعهم بهمن الكلام.”[9]
  • ﴿وَهُوَ الَّذِي أَنْشــَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتــَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآيــاتِ لِقَوْمٍ يَفْقَــهُونَ[10]أي: ” مواقع الحجج ومواضع العبر، ويفهمون الآيات والذكر.”[11]﴿قَالُوا يَا شُعَيْبُ مَا نَفْقَهُ كَثِيرًا مِمَّا تَقُولُ[12] أي: ” ما نعلم حقيقة كثير مما تقول وتخبرنا به.”[13]
  • ﴿وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا[14]فإن معناه:” لهؤلاء الذين ذرأهم الله لجهنم من خلقه قلوب لا يتفكرون بها في آيات الله، ولا يتدبرون بها أدلته على وحدانيته، ولا يعتبرون بها حججه لرسله، فيعلموا توحيد ربهم، ويعرفوا حقيقة نبوة أنبيائهم. فوصفهم ربنا جل ثناؤه بأنهم: “لا يفقهون بها”، لإعراضهم عن الحق وتركهم تدبر صحة نبوة الرسل.”[15]
  • الفرع الثاني: الفقه في الاصطلاح

الفقه في الاصطلاح ليس ببعيد عن معناه في اللغة إذ في الاصطلاح كذلك يفيد الفهم والعلم بالشيء على وجه دقيق، وهذا ما أكده الكفوي فقال ” الفقه: هو العلم بالشيء والفهم له والفطنة وفقه، كعلم: فهم، وكمنع: سبق غيره بالفهم وككرم: صار الفقه له سجية.”[16]

والفقه في العرف: ” الوقوف على المعنى الخفي يتعلق به الحكم، وإليه يشير قولهم: هو التوصل إلى علم غائب بعلم شاهد أعني أنه تعقل وعثور يعقب الإحساس والشعور.”[17]

وقيل:” هو علم مستنبط بالرأي والاجتهاد، ويحتاج فيه إلى النظر والتأمل، ولهذا لا يجوز أن يسمى الله تعالى فقيهًا، لأنه لا يخفى عليه شيء.”[18]

  • وفي اصطلاح العلماء الشرعيين: عرفه الباجي بأنه “معرفة الأحكام الشرعية.”[19]
  • وعرفه الغزالي بأنه ” العلم بالأحكام الشرعية الثابتة لأفعال المكلفين.”[20]
  • وعرفه فخر الدين الرازي بأنه ” العلم بالأحكام الشرعية العملية والمستدل على أعيانها بحيث لا يعلم كونها من الدين ضرورة.”[21]
  • وعرفه الآمدي بقوله بأنه” الفقه مخصوص بالعلم الحاصل بجملة من الأحكام الشرعية الفرعية بالنظر والاستدلال.”[22]
  • وعرفه القرافي بأنه “العلم بالأحكام الشرعية العملية بالاستدلال.”[23]

وهذه التعريفات متقاربة، إلا أن تعريف الإسنوي[24] أرجحها وأقواها اصطلاحا واضبط لما اصطلح على تسميته فقها. قال في تعريفه:

” العلم بالأحكام الشرعية العملية المكتسب من أدلتها التفصيلية.”[25]

وشرحه البدخشي[26] قائلا: ” قوله ( العلم ) كالجنس، (وبالأحكام ) يخرج العلم بغيرها من الذوات والصفات الحقيقية والاعتبارية والأفعال ( الشرعية ) يخرج العقلية كالحكم بأن العالم حادث، والحسية كالعلم بأن الشمس مشرقة والتجريبية والوضعية الاصطلاحية كالحكم بأن الفاعل مرفوع و(العملية) يخرج الشرعية النظرية وتسمى اعتقادية وأصلية كالحكم بحجية الأدلة وقوله (المكتسب) يخرج علم الله تعالى إذ هو غير مكتسب وعلم جبريل وعلم النبي عليهما السلام فإن علمهما بما أوحى إليه ضروري بخلاف علم المجتهد بها فإنه بالاستدلال والاستنباط من الأدلة وأيضا احتراز عن العلم بمثل وجوب الصلاة والصوم مما اشتهر كونه من الضرورة وقوله (من أدلتها التفصيلية) يخرج علم المقلد الحاصل من قول المجتهد علم الكلام.”[27]

المطلب الثاني: الحضارة لغة واصطلاحا

  • الفرع الأول: الحضارة في اللغة

لبيان مفهوم الحضارة نورد النقول التالية:

ففي ( كتاب العين ) للفراهيدي ” والحضرة: قرب الشيءتقول: كنت بحضرة الدار.”[28]

وفي( مقاييس اللغة ) لابن فارس” الحاء والضاد والراء إيراد الشيء ووروده ومشاهدته، وقد جيء ما يبعد عن هذا وإن كان الأصل واحدا فالحضر خلاف البدو وسكون الحضر الحضارة.”[29]

وفي ( مختار الصحاح) للرازي” ” ح ض ر ” (حضرة) الرجل قربه وفناؤه.”[30]

وفي ( لسان العرب ) لابن منظور” حضر: الحضور: نقيض المغيب والغيبة، حضر يحضر حضورا وحضارة، وكلمته بحضرة فلان وبمحضر منه أي بمشهد منه، وفي حديث عمرو بن سلمة الجرمي: كنا بحضرة ماء أي عنده.”[31]

وفي (المصباح المنير) للفيومي ” واحتضره أشرف عليه فهو في النزع وهو محضور ومحتضر بالفتح وكلمته بحضرة فلان أي بحضوره.”[32]

وبإعمال النظر في هذه المعاجم السابقة يتبين أن حضر يراد بها:

  • الحضر خلاف البدو
  • قرب الشيء
  • الحضور نقيض الغيبة

والحضور في القرآن على ثمانية ” أوجه:

 – أحدها: الكتابة، ومـنه قوله تعالى﴿يَـوْمَ تَـجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَـمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْـضَرًا[33]، ﴿وَوَجَـدُوا مَا عَمِــلُوا حَاضِرًا[34]

 – والثاني: العذاب، ومنه قوله تعالى﴿فَأُولَئِكَ فِي الْعَذَابِ مُحْضَرُونَ﴾،[35]﴿وَلَوْلَا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ[36]

والثالث: الاستيطان، ومنه قوله تعالى﴿لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حَاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ[37]

والرابع: الحلول، ومنه قوله تعالى﴿إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً حَاضِرَةً[38]

والخامس: المجاورة، ومنه قوله تعالى﴿وَاسْأَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كَانَتْ حَاضِرَةَ الْبَحْرِ[39]

والسادس: السماع، ومنه قوله تعالى﴿فَلَمَّا حَضَرُوهُقَالُوا أَنْصِتُوا[40]

والسابع: الحضور الذي يضاد الغيبة، ومنه قوله تعالى ﴿كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ[41]

الثامن: الإصابة بالسوء، ومنه قوله تعالى﴿وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ [42] أي: أن يصيبوني بسوء.” [43]

ومن الجذر اللغوي، وبحثا عن الدلالات القرآنية لمفهوم الحضارة يتضح أن حضر في الذكر الحكيم تفيد أيضا شهد ومنه قوله تعالى﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذَا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْرًا الْوَصِيَّةُ لِلْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ[44] وقوله تعالى ﴿وَإِذَا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُو الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَقُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفًا﴾.[45]

قال الراغب الأصفهاني ” الحضر: خلاف البدو، والحضارة: السكون بالحضر، كالبداوة، ثم جعل ذلك اسما لشهادة مكان أو إنسان أو غيره.”[46]

  • الفرع الثاني:الحضارة في الاصطلاح

أما الحضارة في الاصطلاح فقد عرفت بتعاريف عديدة متابينة فيما بينها، إذ عرفها ابن خلدون بأنها ” نهاية العمران وخروجه إلى الفساد ونهاية الشر والبعد عن الخير.”[47]

واعتبر أنها غاية في البداوة فقال: ” فخشونة البداوة قبل رقة الحضارة، ولهذا نجد التمدن غاية للبدو يجري إليها، وينتهي بسعيه إلى مقترحه منها ” [48] مقتصرا على الاشتقاق من ” حضر ” ” إذ أن ابن خلدون عندما تحدث عن الحضارة كان يقصد بها مرحلة التحضر أو ظهور المدن وهي مرحلة من مراحل عمر الدولة التي تحدث عنها، ومن تم لم يكن ابن خلدون يقصد فيما كتب مفهوم الحضارة بمعناه المعاصر المترجم عن لفظة ” civilisation ” ولم يقصد مفهوم الحضارة بمعناها اللغوي والقرآني الشامل، وإنما قصد فقط مجرد الاشتقاق من ” حضر.”[49]

ويرى مالك بن نبي أن الحضارة نتاج فكرة جوهرية تدفع بها في التاريخفقال:”إن حضارة ما هي نتاج فكرة جوهرية تطبع على مجتمع في مرحلة ما قبل التحضر الدفعة التي يدخل بها التاريخ ويبني هذا المجتمع نظامه الفكري طبقا للنموذج الأصلي لحضارته إنه يتجدر في محيط ثقافي أصلي يحدد سائر خصائصه التي تميزه عن الثقافات والحضارات الأخرى.”[50]

وهناك من الباحثين من حلل الحضارة إلى ” ثلاث أصناف:

  • الصنف الأول: ما يخدم الجسد ويمتعه من وسائل العيش، وأسباب الرفاهية والنعيم، ومعطيات اللذة للحس أو للنفس.
  • الصنف الثاني: ما يخدم المجتمع الإنساني، ويكون من الوسائل التي تمنحه سعادة التعاون والإخاء والأمن والطمأنينة والرخاء، وتمنحه سيادة النظام والعدل والحق، وانتشار أنواع الخير والفضائل الجماعية.
  • الصنف الثالث: ما يأخذ بيد الإنسان فردًا كان أم جماعة إلى السعادة الخالدة التي تبدأ منذ مدة إدراك الإنسان ذاته والكون من حوله، وتستمر مع نفسه وروحه الخالدتين إلى ما لا نهاية له في الوجود الأبدي، الذي ينتقل من حياة جسدية مادية يكون فيها الابتلاء، إلى حياة نفسية روحية برزخية يكون فيها بعض الجزاء، ثم إلى معاد جسدي نفسي وروحي يكون فيه كامل الجزاء.”[51]

ويقول عبد المنعم نور أن الحضارة ” نوع من أنواع الحياة البشرية المتقدمة، عمادها بصفة أساسية معيشة الحضر، ما تتطلبه من تنظيم وما تسفر عنه من نتائج وتدابير، تتمثل في الكتابة والتشريع ونظم الحكم وأساليب التجارة والتدين، والحضارة على الأساس المتقدم ولا يمكن تصورها إلا في رحاب المدن.”[52] وهنا نجد الباحث يركز على الجانب المادي للحضارة.

وهناك من يركز على الجانب الروحي ” الحضارة في جوهرها تقوم على الكائن البشري لا على الأشياء المادية، والناس متحضرون أو غير متحضرين وفقا لبعض مزاياهم القلبية والروحية. وتدل كلمة الحضارة على جودة عقلية وروحية كما تدل كلمة صحة على جودة طبيعية أو جسدية.”[53]

بمنأى عن هذا المعنى التجزيئي لمفهوم الحضارة فقد حدد حسين مؤنس المعنى الشامل أو المفهوم العام للحضارة فقال ” الحضارة – فبمفهومها العام – هي ثمرة كل جهد يقوم بها الإنسان لتحسين ظروف حياته، سواء أكان اﻟﻤجهود المبذول للوصول إلى تلك الثمرة مقصودا أم غير مقصود، وسواء أكانت الثمرة مادية أم معنوية.”[54]

وحسين مؤنس يعتبر أن مفهوم الحضارة مرتبط أشد الارتباط بالتاريخ إذ يقول:” الحضارة والتاريخ مرتبطان أحدهما بالآخر أشد الارتباط، ولا يستطيع الإنسان أن يتحدث عن الحضارة حديثا معقولا إلا إذا عرف ماهية التاريخ معرفة معقولة أيضا.”[55]

معللا ذلك بقوله ” لان التاريخ كما سنرى هو الزمن، والثمرات الحضارية التي ذكرناها تحتاج إلى زمن لكي تطلع، أي أنها جزء من التاريخ، أو نتاج جانبي للتاريخ… فان ثمار الحضارة لا تظهر إلا بإضافة الزمن إلى جهد الإنسان.”[56]

أما محمد سعيد رمضان البوطي فلا يرى حاجة لتعريفها حيث يقول” لا أرى حاجة إلى الإطالة في تعريف الحضارة على نحو ما يصنع كثير من الباحثين، على إني لم أقف إلى الآن على تعريف علمي دقيق، على الرغم من كثرة ما ظهر من كتابات مختلفة عنها، وخير للقارئ من هذه الاطالة أن أضعه من حديث الحضارة وموضوعها أمام النقطتين التاليتين:

الأولى: أن مدار الحضارة على الجهود التي يبدلها الانسان في نطاق انتقاله من حياة البداوة وبساطتها الى حياة العمران وتعقيداتها وانما هي كلمة ” الحضر ” في اللغة ما يقابل المعنى الذي يراد بكلمة ” البداوة ” من حيث المدلول الذاتي لكل منهما وما قد يتبعه من مستلزمات.

الثانية: أن الحضارة يمكن أن تعرف انطلاقا من هذا الأساس، بأنها ثمرة التفاعل بين الإنسان والكون والحياة.”[57]

ومما سجله العلماء والباحثون كذلك – سواء من المسلمين أو الغربيين- حول دراستهم لمفهوم الحضارة أنها ذات صلة وثيقة بمكارم الأخلاق:

قال الزمخشري ” وقريش والأنصار وثقيف أهل حضر وهم أعرف بمكارم الأخلاق.”[58]

وقال جمال الدين الأفغاني ” هكذا جعل الله بقاء الأمم، ونماءها في التحلي بالفضائل التي أشرنا إليها، وجعل هلاكها ودمارها في التخلي عنها، سنة ثابتة لا تختلف باختلاف الأمم، ولا تتبدل بتبدل الأجيال.”[59]

ومن الغربيين غوستاف لوبون حيث قال: ” ونحن إذا بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم، وجدنا أن العامل الأساسي في سقوطها، هو تغير مزاجها النفسي تغيرا نشأ عن انحطاط أخلاقها.”[60] والمؤرخ أدوارد جيبون في حديثه عن أسباب سقوط الامبراطورية الرومانية.[61]

وبعد هذا التفكيك للمفهوم نشير إلى مسألة أساسية -قبل تعريفه كمركب إضافي – وهي أنه ليس المقصود بالفقه الأحكام الشرعية فحسب، وإنما نقصد به مطلق الفهم أي كيف نمتلك ناصية هذا الفقه الحضاري ونفهمه فهما عميقا؟

المطلب الثالث:الفقه الحضاري

إن القرآن الكريم باعتباره ” دستور نهضة إنسانية شاملة ” قد أكد في آياته على أن الله تعالى قد سخر ما في الكون لخدمة الإنسان وترشيد حركته في عمليات البناء والابداع والنهوض الحضاري قال تعالى﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا مِّنْهُ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ﴾.[62]

وقد حرص الأنبياء عليهم السلام في دعوتهم على ” صقل الإنسان وتهذيبه ليتحرك بوعي ومسؤولية في خط الخلافة ليكون صالحا منتجا للعمل الصالح، فبناء الإنسان الصالح هو فاتحة العمل الحضاري كما أن الذبول الذي يصيب الحضارة يبدأ به.”[63]

وفقه التحضر يبحث عن الذات في تفاعلها مع الوحي بغية تأسيس لشيء، وهذا الشيء ليس مرتبط بجنس معين ولا بدين معين وإن كانت له خصوصية هذا الدين وإنما يهم هذا الأمر تحقيق حضارة إنسانية عالمية وهو الذي يمكن أن نستشفه من خصائص الإسلام.

وبهذه العالمية والشمولية نظر العلماء إلى فقه التحضر، قال عبد المجيد النجار” إن جريان التحضر الإسلامي على عقيدة التوحيد كان يتم عبر قواعد تشكل فيما بينها شبكة مترابطة موجهة خيوطها من تلك العقيدة وتلك هي التي نعنيها بما اسميناه بفقه التحضر، وكأنما هو واسطة منهجية بين الفكرة التي هي عقيدة التوحيد وبين مظاهر التحضر العملية المتمثلة في المنجزات المادية والمعنوية.”[64]

ويعتبر ” أن التحضر ليس شيئا مجبولا في فطرةالانسان بحيث يمكن الحصول على سبيل اللزوم الذي تحتمه الفطرة، وإنما هو أمر كسبي للإنسان يستحدثه بإرادته الحرة وفق عوامل تفضي إليه.”[65]

وقال القرضاوي: “ونعني به الفقه الذي يعنى بنقل الإنسان من فهم سطحي بدائي إلى فهم أعمق للكون والحياة، من عقل راكد إلى عقل متحرك، من عقل مقلد تابع إلى عقل متحرر مستقل، من عقل خرافي يتبع الأوهام إلى عقل علمي يتبع البرهان، من عقل متعصب إلى عقل متسامح، من عقل مدع متطاول إلى عقل متواضع، يعرف حده فيقف عنده، ولا يبالي أن يسال فيقول: لا أعلم، وأن يعترف بخطئه إذا ظهر له.”[66]

فالمراد بفقه التحضر أمران اثنان:

 – الأمر الأول: ويتعلق بمجموع الأحكام الشرعية الفقهية للفعل الحضاري الإنساني، وهذه الأحكام هي بمثابة الموجه والمرشد إلى تأسيس الفعل وتفعيل عملياته.

 – والأمر الثاني: ويتعلق بالمعرفة الدقيقة والواعية بالفعل الحضاري الإنساني وبعملياته وآثاره ومآلاته.

وهو ما يستطيع الإنسان به أن يكون حاضرا في وسطه مؤديا لرسالة العبادة والاستخلاف والعمران، وهذا المضلع الثلاثي الذي خلق الإنسان من اجله لإنتاج حضارة شاملة مستوعبة لكافة المنجزات المادية والمعنوية قد ذكره الراغب الاصفهاني حينما تحدث عن مقاصد الخالق من الخلق وعن مقاصد وجود هذا الإنسان، فقال ” والفعل المختص بالإنسان ثلاثة أشياء:

  1. عمارة الأرض
  2. وعبادته
  3. وخلافته”[67]

مقتطف من كتاب:

”التأويل في الخطاب الأصولي وأثره في الفقه الحضاري للأمة”

رابط تحميل الكتاب:

https://www.islamanar.com/he-fundamentalist-discourse/

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.