منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

تكامل العلوم اللغوية وعلوم الشريعة

تكامل العلوم اللغوية وعلوم الشريعة/ ثورية البوكيلي

0

تكامل العلوم اللغوية وعلوم الشريعة

بقلم: ثورية البوكيلي

الناظر في مسارات العلوم الشرعية، لا بد أن يكتشف أن هناك حضورا قويا للغة العربية في مختلف مجالاتها، وهذا الحضور يؤكد حاجة العلوم الشرعية الماسة إلى اللغة العربية. إذ يعتبر الهدف الأساسي من وجودها هو فهم أحكام الشريعة الاسلامية. كما أن هذه الأحكام تبقى في حالة ركود إن لم يتم شرحها وتوضيحها، وهذا الأمر مرتبط بمجموعة من الأدوات التي يجب أن يتزود بها الباحث قبل أن يخطو خطوة واحدة لاكتساب هذه العلوم. وهذه الأدوات عبارة عن علوم مختلفة، سماها العلماء بعلوم الآلة، وهي العلوم التي تعين على دراسة علوم المقاصد وحسن فهمها، ومنهاما ذكره ابن خلدون رحمه الله في الفصل الخامس والأربعين، في علوم اللسان العربي: “أركانه أربعة وهي: اللغة، والنحو، والبيان، والأدب، ومعرفتها ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب، ونَقَلَتُها من الصحابة والتابعين عرب، وشرح مشكلاتها من لغاتهم، فلابد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد علم الشريعة”[1] .

ماهية علوم اللغة العربية وأهميتها

تعد أقسام اللغة العربية، من نحوها وصرفها وبلاغتها، من علوم الآلة؛ فهي اللسان الناطق المفصح عن الدلالات والفهم، حيث إن دراسات إعجاز القرآن في أسلوبه وبلاغته والاستنباط الفقهي والتفسير البياني يتكئ بالدرجة الأولى على اللغة العربية وعلومها. فالعلم الآلي هو عبارة عن العلم الــذي لا يكون مقصودا لذاته، بحيث لا يطلب إلا مــن أجل غيره، وبحيث لا ينال هذا الغير إلا بواسطته.   ومتى “كان العلم الآلي يتعلق به غيره، نزل منزلة العلم الأسبق ونزل هذا الأخير منزلة العلم الأشرف؛ لكونه مقصودا لذاته [2]. ففهم هذه العلوم إذن هو الباب الأول من أبواب فقه الشريعة؛ لذا ينبغي للمتعلم أن يبدأ بتعلم العربية أولا؛ إذ هي الأحق بالتقديم. ولذلك حرص سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه على هذا الأمر، فكان يذكر الصحابة الذين اختلطوا بالأعاجم ألا يغفلوا علوم العربية، فقد كتب إلى أبي موسى الأشعري رضي الله عنهما قال:” أَمَّا بَعْدُ؛ فَتَفَقَّهُوا فِي السُّنَّةِ، وَتَفَقَّهُوا فِي الْعَرَبِيَّةِ، وَأَعْرِبُوا الْقُرْآنَ؛ فَإِنَّهُ عَرَبِيٌّ” [3].

صور التكامل بين اللغة العربية والشريعة

النظر في العلوم الشــرعية بأصولها وفروعها يتبين أن العلوم اللغوية هي جزء من العلوم الشرعية، فحرص علماء العربية على دراسة اللغة ارتبط بحرصهم على فهم النصوص الدينية من جهة، وعلى دراسة لغتها من جهة أخرى باعتبارها اللغة الصحيحة التي تتضمن شرائع الدين وأحكامه؛ فكان من الطبيعي أن يحصل نوع من التأثير والتأثر بين مختلف العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية، فهناك من اعتبر علم العربية من علوم الآلة بالنسبة للعلوم الشرعية؛ ومن هؤلاء الشاطبي، الذي اعتبر العلوم المضافة إلى القرآن تنقسم إلى أقسام: “قسم هو كالأداة لفهمه واستخراج ما فيه من فوائد، والمُعين على معرفة مراد الله منه كعلوم اللغة العربية التي لا بد منها[4]. وعليه يمكن القول إن التفاعل بين العلوم الشرعية وعلوم اللغة العربية هو تفاعل قوي يسير في المسارين معا، كما أنه يتمظهر في صور عدة يمكن إبرازها من خلال الآتي:

علم النحو وأصول الفقه

يعتبر النشوء الأول لعلم النحو أول صورة من صور التكامل بين العلوم الشرعية والعلوم اللغوية، حيث تذكر أغلب الروايات أن الباعث وراء ظهور علم النحو كان من ” أجل خدمة القرآن الكريم، حفاظاً على فصاحته وحفظاً للألسنة من التردي في معرة اللحن[5]. كما أن المسائل الفقهية لا تتضح إلا بالكشف عن الفرق بين الدلالات من جهة الألفاظ، وهو من عمل النحو، ولذلك تم الاعتماد على قواعد النحو لمعالجة المواضيع الفقهية، واعتبرت علوم اللغة العربية أحد المصادر الثلاثة التي يستمد منها أصول الفقه علمه.

علم الصرف وعلم التفسير

يؤدي علم الصرف دورا مهما في كشف دلالات القرآن الكريم، وبيان معانيه الدقيقة؛ حيث تأتي البنية الصرفية موضحة لدلالات القرآن الكريم. وهو من العلوم المهمة للمفسر، حيث يكشف له كثيرا من المعاني والأوجه التفسيرية، ويعينه على تفسير القرآن الكريم واستنباط دلالات أحكامه، التي منها ما يرجع إلى الصرف، وهي الدلالات الصرفية للصيغ والأبنية الصرفية، التي تستوعب المعاني التي يمكن أن تأخذ أكثر من معنى.  ولما كان التصريف هو سبيل الوصول إلى حقيقة الدلالات، قال الإمام السيوطي: “وأما التصريف فإن من فاته علمه فاته المعظم[6]. ويبرر ابن فارس هذه المقولة بأمثلة كثيرة تبين دور التصريف في التمييز بين المعاني التي تتغير بتصريف صيغها من الضد إلى الضد: “يقال: القاسِط للجائر، والمقسِط للعادل؛ فتحوّل المعنى بالتصريف من الجَور إلى العدل…”[7].

علم البلاغة وإعجاز القرآن

تعتبر البلاغة العلم الذي ارتبط إلى اليوم بالإعجاز القرآني، حيث أجمع جل علماء العربية على أن البلاغة هي أهم وجوه الإعجاز؛ يقول الخطابي: “اعلم أن القرآن إنما صار معجزاً لأنه جاء بأفصح الألفاظ في أحسن نظوم التأليف مضمناً أصح المعاني[8] ، وتتجلى بلاغة القرآن في فصاحة مفرداته، ومتانة نظمه، وانتظام دلالته، واستيفاؤه للمعاني، وحسن بيانه، ودقة تعبيره. وقد استعمل القرآن أقسام البلاغة الثلاثة في تعبيراته وسياقاته، ونظمه، أولها علم المعاني الذي يهتم بمعرفة أحوال تركيب الكلام وتناسبه مع الإطار المرافق له. وثانيها علم البيان الذي يُعرف به إيراد المعنى الواحد بطرق مختلفة في وضوح الدلالة عليه. وثالثها علم البديع الذي يعتني بمعرفة كيفية تجويد الكلام وجعله موافقا للنطاق الوارد فيه.

 وختاما فإن عملية رصد تكامل العلوم اللغوية وعلوم الشريعة عملية صعبة وشاقة، لا يمكن الإيفاء بها في مقال متواضع مثل هذا، لأن ذاك مجال فسيح لدراسات وبحوث واسعة، وحسبي أنني ذكرت بعض الخطوط العريضة لهذه المسألة، ومن شأن ذلك أن يعطي تصورا تقريبيا لذلك التكامل الهام الذي حصل بين العلوم اللغوية وعلوم الشريعة. وعليه لا بد من مراجعة شاملة لمنظومة علوم الآلة لنعرف الثابت  منها و المتغير حتى نتمكن من توسيع البناء لمنظومة متكاملة من هذه العلوم التي ستحدث قفزة متميزة ونوعية في مجال التعامل مع النصوص الشرعية.


[1]  مقدمة ابن خلدون، ص: 545

[2] طه عبد الرحمن، تجديد المنهج في تقويم التراث، ص 84

[3] أخرجه ابن أبي شيبة

[4] الشاطبي، – الموافقات، ج 4: ص 198

[5]  الإسنوي جمال الدين، الكوكب الدري فيما يتخرج على الأصول النحوية من الفروع الفقهية، ص42، 43.

[6] السيوطي، المزهر في علوم اللغة وأنواعها، ص: 330

[7] نفسه،

[8] الخطابي، أبو سليمان محمد، بيان إعجاز القرآن : ص27.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.