منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

“أخطاء التوجيه.. ليست أخطاء ! : اللِّماذات الخمس – The 5 Why’s” | أفكار في التوجيه (المبدأ 5) 

مصطفى شقرون

0

“أخطاء التوجيه.. ليست أخطاء ! : اللِّماذات الخمس – The 5 Why’s” | أفكار في التوجيه (المبدأ 5) 

بقلم : مصطفى شقرون

في مدرج مدرسة معروفة في العاصمة الاقتصادية.. حضر اكثر من مائتي تلميذ وتلميذة من الثانوي والاعدادي.. حضروا نشاطا سنويا يؤطره “كوتش”..

جزى الله عنا الدعاة الحقيقيين الذين استدعونا إليه..

قدمت نفسي على أنني لست “كوتشاً” بالمعنى الذي تدخل فيه كل “التخصصات السريعة” (“fast food specialities”) من “لا-علوم التنمية الذاتية”.. مُأسلمة ومشركة، وكافرة.. و”البرمجة العصبية الكلامية”.. والطاقة والشاكرا واليوغا وجذبة “لا-قانون الجذب” وهرطقة “العلاج بالنور الإلهي” (أستغفر الله!!!).. وما لا يحضرني الآن من همزات الشياطين المتعددة الألوان والأشكال والأضواء…

لست منهم.. بتاتا.. مطلقا..

بعد هذا التبرؤ ضروري.. ذكرنا بنجاحات قادة العالم الحقيقيين.. الأكثر اتباعا.. والأدوم أثرا.. والأسلم أخلاقا.. والأمثل قدوة : أنبياء الله عليهم السلام..

“كيف” فعلوا ؟ ليصلوا إلى ما وصلوا إليه.. ماهي “طريقتهم” في العمل؟.. ما هو “منهاجهم النبوي” في “النجاح الحقيقي”؟

حي على الفلاح..

سألت التلاميذ حول ما يودون فعله عندما ينجحون.. تخصصهم.. وعملهم.. واستعملت لذلك تقنية بسيطة : إعادة سوال “لماذا؟” خمس مرات… على الأكثر.. (5 the five why’s)..

أجابت إحدى التلميذات :
– “مضيفة طيران”
– لماذا ؟ [الأولى] – لأنني أحب السفر
– كلنا نحب السفر.. وكمضيفة قد لا يبقى لك وقت كثير للسفر بين رحلتين.. وعمل المضيفة هو بالأساس يشبه عمل النادل في مطعم غير ان عدد الزبائن الذي يقدم لهم الأكل والمشروبات أكبر.. فلماذا ؟ [الثانية] بالظبط.. اخترت هذه المهنة؟
– لأنني أحب أن أزور الفنادق الفخمة..
– إذا، فالسبب الأول هو منظر بهو الفنادق الفخمة وغرف الفنادق الجميلة.. لا السفر.. فلعلمك.. فإن الفنادق التي يذهب إليها عمال شركات الطيران لا تشبه فنادق الأفلام (كنت أفكر في فنادق أفلام مثل “جيمس بوند”..).. ليست من فئة 5 نجوم.. ثم إن عدد فترة تواجدك بها محدود قد لا تتجاوز اليوم الواحد أحيانا.. ويمكنك أن تسافري لأي فندق فخم إذا ما اشتغلت في مهنة أخرى وخططت لعطلتك.. لتستمتعي بمنظر الفندق.. – فلماذا ؟ [الثالثة].. مضيفة طيران بالظبط.. إن كان هذا فعلا هدفك.. ؟
– في الحقيقة أريد الفندق الفخم لأن به محلات تجارية راقية وجميلة..
– حسنا.. ما تبحثين عنه ليس مهنة مضيفة.. أنت تريدين التسوق.. كأية امرأة.. ورجل.. وصححي كلامي إن أخطأت.. لكن يمكنك التسوق في مراكز تجارية أكثر تنوعا.. ثم إن محلات الفنادق الفخمة معدودة جدا.. وأثمنتها أغلى من أثمنة المطارات.. لا يمكن لأجرة مضيفة أن تكفيك للتسوق فيها.. فإذا اشتغلت في شغل آخر.. ربما أمكنك أن تتسوقي من متاجر راقية في مدينتك.. أكثر تنوعا وأرخص أثمانا بالمقارنة.. ودون أن تسافري.. ودون أن تعملي نادلة في السماء.. (أي عملا مخالفا وليس تنقيصا معاذ الله)
إذا كان هدفك التسوق فلماذا [الرابعة] اخترت عمل مضيفة إذا ؟
– لن أشتري شيئا بالضرورة.. لكني أحب أن أعيش اللحظة.. وأن أدخل المحلات وأنظر إلى ما يعرضون..
– يا ابنتي.. أنت تريدين أن تعيشي للحظات حياة الثراء والترف.. ليس هذا عيبا.. فكل الناس يبهرهم الثراء والقوة.. لكن لا تجعلي توجيه دراستك ورغبة عملك من أجل هدف لا تعرفينه بالظبط.. لأنك لم تسألي نفسك بصدق.. “لماذا؟”.. بل “لماذات؟”.. فقد تعملين في وظيفة لم تخلقي لها لتلبية رغبة ثانوية..

أنا لا أريد ثنيك عما تريدين.. لكنني أريدكم -جميعا من ملال هذا المثال الحي- أن تعرفوا ماذا تريدون بالظبط بتكرار سؤال لماذا.. حتى لا تحبطوا إن وجدتم ما اعتقدتم أنه مرادكم، مغايرا لما كنتم تتوقعون.. وحتى لا تنحبسوا فيه بدعوى أنه اختياركم..

كوني مضيفة إن أردت.. وإن كانت هناك فرص عمل متاحة في شركات الطيران.. لكن تذكري أنك لا تعرفين فعلا عمل المضيفة.. إنما بهرك مظهرها في الإشهار والأفلام.. ولباسها.. وتعظيم الفتيات للمهنة (تعظيمهم لدمية “باربي”).. وبهرك عالم الفنادق والثراء.. غي الأفلام أو في إشهارات وكالات الأسفار.. وهو عالم يبهر فعلا -كأي شيء جديد- وغير معتاد من هم أكبر منك سنا ومسؤولية.. لكنه يبتذله بعد فترة وجيزة من التكرار والتعب..

وليكن في علمك أنني اشتغلت خمسة عشرة عاما 15 كمحلل ومدير مالي وأنا أظن أن توجيهي مخطئ.. وأنني فاشل.. لأنني كنت أحلم أن أصبح عالم فلك.. فلما سألت نفسي : لماذا أريد أن أصبح عالم فلك؟.. كان الجواب صادما..

– كنت أحب النظر إلى السماء !

وهذا جواب غريب غير كاف تماما.. لأنني لست استثناء.. فكل الناس مجبولون على الانبهار بالسماء سيما لو كانت مزيّنة بالنجوم والكواكب والمجرات..

لست وحدك يا ولدي !

جواب غريب غير كاف تماما لأفني جزءا من حياتي في دراسة مواد لا تستهويني بالضرورة -كالرياضيات برغم نقطي الجيدة فيها-.. ولأنتظر أن يفتحوا لنا المنظار الكبير ثم ننتظر دورنا.. لنرى لدقائق معدودة وبغير وضوح كوكبا أو مجرة.. بعيدة.. في حين أن صلة رحم لعمتي في البادية -على بعد نصف ساعة من دخان المدينة- كفيل بإعطائي الفرصة للاستمتاع بصورة القمر الحقيقي وشقوقه وفوهاته بالعين المجردة.. بل وبمنظر مجرة “درب التبانة” الحقيقية بوضوح.. من على سطح المنزل.. في ليلة صافية وجو معتدل.. مع نشوة كأس من الشاي المنعنع بنعناع حقيقي مجني للتو من بستانها.. وصحن من العسل الحقيقي.. المصبوب فوق فوهات غرستها بحب أنامل عمتي على السمن المملح الحقيقي.. حتى تحمل كسرة الخبز الحقيقي.. المادتين المتداخلتين بتوازٍ كامل.. فلا يطغى مذاق العسل على السمن الذي كان سيغرق فيه لو كانت تركت سطح السمن مستويا.. علم.. وتجربة.. وذوق..

جزاها الله خيرا..

ثم إنه لم يثنني توجهي الذي اعتبرته خطأ أول الأمر.. عن متابعة دراستي لعلوم الفلك.. بل ولكتابة كتاب حول الموضوع.. لم أنشره بعد.. لأن الهدف من كتابته لم يكن النشر بقدر ما كان الاستجابة لنداء من أرشدني في “رابطة الكتبة”.. فوجدتها فرصة لأخرج رغبتي في النظر إلى السماء.. ولأنشغل بمهنتي التي أعطتني أشياء أكثر لخدمة للإسلام..

كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيرا ما يرفع عينيه إلى السماء ويطيل النظر إليها..

و كان سيدنا ابراهيم عليه السلام ينظر إلى السماء.. عندما يجن عليه الليل.. وقد يبقى في قيامه هذا إلى شروق الشمس..

لكن هذه المراقبة والتفكر لم يدفعاه ليشغل منصب عالم فلك في “ناسا” زمانه (وكان علم الفلك في زمنه متقدما جدا.. بل ولم يتقدم في حساباته الكبرى كثيرا منذ ذلك الوقت.. برغم إشهارات ناسا.. وبرغم بروز نظريات غير مؤكدة بعد..)..

بل كان الله يهيؤه -بعد هذه المراقبات الفلكية المتكررة- لمنصب أكبر.. : دعوة الناس إليه سبحانه..

{ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ.. فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ.. فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ.. فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ.. إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } (الأنعام 75-79)

كان علم الفلك وسيلة ومرحلة أساسية في التوجيه.. فقط..

وكانت الغاية.. الدعوة إلى خالق الفلك..

 

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.