منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الحسبة على المجال الصحي في التراث المغربي والأندلسي

فاتحة الأنصاري

0

 

مقدمة

تعتبر خطة الحسبة من أهم الولايات الإسلامية التي ترتكز على أصل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وهي مهمة دينية كان معمولا بها في مؤسسات الدولة الإسلامية طيلة القرون التي شهدت ازدهارا ونماء في ظل الحكم الإسلامي، مما ساهم بشكل كبير في ضمان استمرارية الحياة الاجتماعية والاقتصادية والثقافية بشكل عام، وتحقيق قيم العدل وإحقاق الحق ونشر الفضيلة، والإنصاف، حيث ينصف المظلوم على الظالم، والمضرور على من تسبب في الضرر، والمغشوش على الغاش.

فكانت هذه الخطة الدينية بمثابة أداة حماية ووقاية من مظاهر الشر في المجتمع الإسلامي.

ويعتبر القطر الأندلسي والمغربي خير مثال يمكن من خلاله لمس مظاهر تطبيق هذه المهمة على أرض الواقع طيلة الحكم الإسلامي فيهما، وذلك من خلال بعض كتب الحسبة التي ألفت لهذا الغرض، والتي اصطلح عليها العلماء باصطلاحات عديدة منها كتب الحسبة مثل «كتـاب في الحسبـة» لابن فـرحـون (ت799ﻫ) (نيل الابتهاج بتطريز الديباج، 2004) و«آداب الحسبة» للسقطي (آداب الحسبة، 1931)، أو كتب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مثل كتاب «الأمر والنهي» لعبدالله أبي محمد الصدفي الطليطلي (ت424ﻫ) (الصلة في تاريخ علماء الأندلس،  2003) أو كتب السوق أو أحكام السوق مثل كتاب ـ أحكام السوق ليحيى بن عمر الكناني (ت289ﻫ) (أحكام السوق، 1432)، باعتبار أن التجارة والصناعة هي التي تحوز النصيب الأكبر من اهتمام المحتسب، ولذلك تجد من يطلق على المحتسب اسم صاحب السوق (ديوان الأحكام الكبرى،  1997).

وتركيزها على هذا الجانب لا يعني بالضرورة إهمال جوانب أخرى، بل إن هذه المهمة شملت تقريبا جميع الحياة العامة في المجتمع الإسلامي من معمار، وصحة، وتعليم، وتجارة وصناعة، وغيرها من المجالات.

ويعتبر المجال الصحي والبيئي من أهم مهام المحتسب منذ القدم، لما يعتري هذا المجال من مخاطر تهدد سلامة وصحة الناس عامة، ولهذا كان تركيز المحتسب عند مراقبة الأسواق والتجار والباعة منصبا على النهي عن التلاعب أو التدليس في الطعام أو الدواء أو التطبيب، أو التهاون في نظافة المرافق العامة التي يرتادها كل الناس باستمرار من مطاعم وفنادق وحمامات وغيرها.

فالصحة نعمة من أهم نعم الله تعالى على عباده لقوله صلى الله عليه وسلم: (نعمتان مَغْبون فيهما كثيرٌ من الناس: الصِّحة والفَراغ) (البخاري، 1422) فبالصحة يعبد المسلم ربه وبها يسعى في مصالحه وأسباب بقائه ووجوه مكاسبه. لذلك حث الإسلام الفرد المسلم على العناية بصحته، وبمأكله ومشربه وملبسه ومحيطه، وأن يجتنب الخبائث والنجاسات، ويعتني بنظافة جسمه وثوبه ومكان وجوده.

وباعتبار هذه الأهمية للجانب الصحي والبيئي، سيتم التركيز في هذا البحث عليه، لبيان ما مدى مساهمة الحسبة في الحفاظ على الصحة والبيئة والفضاء العام؟ من جهة، ومن جهة ثانية تسليط الضوء على أهم ما ألف في الحسبة في كل من المغرب والأندلس، ومن جهة ثالثة لبيان مقدار اهتمام علماء وفقهاء الأندلس والمغرب بهذه الخطة الدينية ومدى براعتهم في معالجة أهم قضاياها وإشكالاتها.

المحور الأول: مفهوم الحسبة:

ترد الحسبة في اللغة بمعان كثيرة، أهمها: العد أو الحساب، والتدبير، وطلب الأجر والثواب.

فنقول حسبه حسبة أي عده (القاموس المحيط،  2005)،  ويقال فلان حسن الحسبة في الأمر أي يحسن تدبيره (لسان العرب) ويقال فعلته حسبة أو احتسب فيه احتسابا أي طلب الأجر (لسان العرب).

وكما تعددت معاني الحسبة في اللغة فقد تعددت أيضا تعاريفها عند العلماء والفقهاء والمؤرخين، إلا أنها كلها تشترك في مبدأ واحد، وهو أن هذه الولاية هي من قبيل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر (الماوردي)، ولعل أقرب تعريف وأشمله هو تعريف العلامة ابن خلدون في مقدمته حيث قال: «الحسبة: وظيفة دينية من باب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، الذي هو فرض على القائم بأمر المسلمين، يعين لذلك من يراه أهلا له فيتعين فرضه عليه، ويتخذ الأعوان لذلك، ويبحث عن المنكرات ويعزر ويؤدب على قدرها، ويحمل الناس على المصالح العامة في المدينة» (مقدمة ابن خلدون،  1992).

  • الحسبة والقضاء:

ولأهمية هذه الولاية فقد عدها كثير من العلماء بمنزلة ولاية القضاء، وذلك لما بينها وبين خطة القضاء من أوجه التقارب والتشابه في بعض اختصاصات كل منهما، فكلاهما يحتكمان إلى الشرع في الحكم، وكلاهما يعتمدان على أحكام زجرية رادعة لكل من سولت له نفسه التسبب في ضرر غيره من الناس.

وفي ذلك يقول الإمام محمد بن عبدون التجيبي الإشبيلي في رسالته في الحسبة حيث قال: «والاحتساب أخو القضاء؛ فلذلك يجب أن يكون إلا في أمثال الناس، وهو لسان القاضي، وحاجبه ووزيره وخليفته، وإن اعتذر القاضي فهو يحكم مكانه فيما يليق به وبخطته…والحاجة إليه ضرورية لأن الناس معوجون مخالبون أشرار» (رسالة الحسبة، 1955م).

لذلك وجد في بعض الفترات من الحكم الإسلامي في الأندلس من القضاة من يتولى مهمة الحسبة أيضا، لأنها كانت داخلة في اختصاص القاضي، وأحيانا يقوم هو بنفسه بتعيين المحتسب واختياره بدل الأمير أو سلطان البلاد.

والدليل على ذلك ما أورده ابن خلدون في مقدمته حيث قال: «وقد كانت في كثير من الدول الإسلامية مثل العبيديين بمصر والمغرب، والأمويين بالأندلس داخلة في عموم ولاية القاضي، يولى فيها باختياره، ثم لما انفردت وظيفة السلطان عن الخلافة وصار نظره عاما في الأمور السياسية اندرجت في وظائف الملك وأفردت بالولاية» (مقدمة ابن خلدون،  1992).

ورغم وجود أوجه تشابه في الخطتين، وأحيانا تكون الحسبة داخلة في اختصاص القضاة في بعض الأزمنة، إلا أن الكثير من العلماء والفقهاء آثر التفريق بينهما، منهم ابن فرحون في تبصرته، وابن سهل في أحكامه، والماوردي في كتابه الأحكام السلطانية، حيث قال ابن فرحون: «وأما ولاية الحسبة فهي تقصر عن القضاء في إنشاء كل الأحكام، بل له أن يحكم في الرواشن([1]) الخارجية بين الدور، وبناء المصاطب في الطرق؛ لأن ذلك مما يتعلق بالحسبة، وليس له إنشاء الأحكام ولا تنفيذها في عقود الأنكحة والمعاملات… وأما القاضي فلا يحكم إلا فيما رفع إليه» (تبصرة الحكام،  1986)

ومن خلال كلام ابن فرحون يتبين الفرق بين ولاية القضاء وولاية الحسبة وذلك من وجهين:

الأول: أن القاضي له النظر في جميع أنواع القضايا أو الدعاوى، بينما يقتصر نظر المحتسب في أنواع القضايا الخاصة بالمنكرات فحسب. وهذا ما عبر عنه الناصري في جوابه الذي ألفه للتفريق بين خطة الولاية وخطة الحسبة وخطة القضاء حيث قال: «فالمحتسب ينظر في المناكر العامة في الأسواق من غش وتدليس ومماطلة ومشاجرة وفي المساجد وما يحصل لها من امتهان…  ومجامع السفهاء المتجاهرين بها في الأسواق والشوارع لا المستترين بها في أماكن الريبة، فهذه ينظر فيها الوالي لأنها من جملة الجرائم…ومن أراد استيفاء ذلك فعليه بكتب الأحكام خصوصا القسم الثالث من تبصرة ابن فرحون» (جواب في الفرق بين خطة القضاء وخطة الولاية وخطة الحسبة باعتبار عرف زماننا).

الثاني: أن للمحتسب أن ينظر في النزاع حتى بغير وجود الشاكي، كما يجوز له أن يطبق القانون بدون أن ينتظر المدعي، وليس للقاضي ذلك. فموضوع الحسبة الرهبة، وموضوع القضاء النصفة كما قال القرافي (الذخيرة، 1994).

وهو ما عبر عنه ابن خلدون بقوله: «وله أيضاً حمل المماطلين على الإنصاف وأمثال ذلك مما ليس فيه سماع بينة ولا إنفاذ حكم» (مقدمة ابن خلدون،  1992).

المحور الثاني: مشروعية الحسبة

أمر الله تعالى الأمة بالقيام بواجب الاحتساب بصيغة الوجوب قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾(آل عمران:104).

وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكرا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان) (صحيح مسلم)

لذلك نجد أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يقومون بهذه المهمة، امتثالا لأمر الله تعالى، ومن قبلهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث روى أبو هريرة رضي الله عنه من فعله صلى الله عليه وسلم أنه مَرَّ عَلَى صُبْرَةٍ مِنْ طَعَامٍ فَأَدْخَلَ يَدَهُ فِيهَا، فَنَالَتْ أَصَابِعُهُ بَلَلًا فَقَالَ: يَا صَاحِبَ الطَّعَامِ مَا هَذَا؟ قَالَ: أَصَابَتْهُ السَّمَاءُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ: أَفَلاَ جَعَلْتَهُ فَوْقَ الطَّعَامِ حَتَّى يَرَاهُ النَّاسُ. ثُمَّ قَالَ: مَنْ غَشَّ فَلَيْسَ مِنَّا) (صحيح مسلم).

إلا أن المصلحة اقتضت فيما بعد أن يتكلف شخص واحد بهذه المهمة، تتوفر فيه الأهلية لهذا الأمر.  وعلل الناصري ذلك في جوابه قائلا: لأن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لو أطلق لكل واحد وسوغ له الاختلاط المرعي بالهمل وظن كل واحد من نفسه أنه أهل لذلك، فأدخل نفسه فيما ليس له الدخول فيه، ورتب على ذلك من المفاسد أكثر مما أريد تغييره، ولذا قال العلماء:  الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر له شروط لا يقدم عليه إلا بعد توفرها، فلهذا قضى الملوك والأمراء خطة الحسبة على شخص متأهل لها ولم يتركوها لسائر الناس» (جواب في الفرق بين خطة القضاء وخطة الولاية وخطة الحسبة باعتبار عرف زماننا ).

ولعل أول من  فعل ذلك الخليفة الراشد عمر بن الخطاب رضي الله عنه، حيث كان يقوم بنفسه بالرقابة الفعلية، ويمارس دور المحتسب في الأسواق فيأمر وينهى، ويزجر المخالفين بسوطه، ثم عين محتسبين على الأسواق، منهم السائب بن يزيد وغيرهم (الاستيعاب في معرفة الأصحاب، 1992).

وعليه؛ يكون حكم الحسبة أنها فرض عين على المحتسب لأجل الولاية، وهي على الناس فرض كفاي (الذخيرة، 1994).

المحور الثالث:شروط المحتسب:

وكون الحسبة ولاية دينية الهدف منها تحقيق مصالح الناس الدينية والدنيوية، فهذا يحتم على المحتسب أن تكون مهمته أكثر شمولية، تشمل جميع مجالات الحياة؛ الدينية، والاقتصادية، والاجتماعية، والصحية، والخلقية، وغيرها. فهذا يتطلب أن يتصف المحتسب بصفات، وتتوفر فيه شروط. لذلك وضع العلماء مجموعة من الشروط والصفات التي يجب أن تتوفر فيمن يتصدر لخطة الحسبة، وفصلوا في هذه الشروط، وأهم هذه الشروط:

 ـ أن يكون عالما بالدين متفقها فيه:

يقول  أبو عبد الله السقطي الأندلسي في كتابه «ويجب أن يكون من ولي النظر في الحسبة فقيها في الدين قائما مع الحق» (آداب الحسبة،  1931).

 ـ  أن يكون عفيف النفس، متصفا بالعدالة:

وهو ما عبر عنه ابن عبدون: «ويجب أن يكون المحتسب رجلا عفيفا، خيرا، ورعا، عالما، غنيا، نبيلا، عارفا بالأمور، محنكا، فطنا، لا يميل ولا يرتشي، فتسقط هيبته ويستخف به ولا يعبأ به ويتوبخ معه المقدم له» وقول الكرسيفي أيضا: “ولا توجد هذه الخصال إلا من الحازم الفطن اليقظان، المتصف بالعفاف والثقة ومطالعة السلطان” (رسالة في الحسبة، 1955م).

 ـ له دراية بأحوال المجتمع عارفا بالحرف والصنائع عالما بها.

وهو الذي ذكره الكرسيفي أيضا بقوله: عارفا بأصناف المعايش وحيل الباعة؛ إذ بذلك يتوصل إلى معرفة الغش والتدليس، ويميز بين التحقيق والتلبيس» (رسالة في الحسبة، 1955م).

المحور الرابع: أهم مؤلفات الحسبة في المغرب والأندلس:

اجتهد الفقهاء منذ القدم في تقنين هذه المهمة وبيان مهامها وأحكامها، وظهر ذلك جليا في مصنفاتهم الفقهية التي تعرضوا فيها إلى أحكام الحسبة إما في مباحث وأبواب من كتبهم أو أفردوها بالتأليف في كتب خاصة بهذا الغرض فقط، وقد اشتهر فقهاء المالكية بالتأليف في هذا الفن خاصة في المغرب والأندلس، وهذه أهم مؤلفاتهم فيها:

  • أحكام السوق ليحيى بن عمر الكناني (ت289ﻫ).
  • كتاب الأمر والنهي لعبد الله بن عبد الرحمن الصدفي الطليطلي أبي محمد (ت424ﻫ)(الصلة في تاريخ علماء الأندلس، 2003).
  • رسالة في القضاء والحسبة لابن عبدون محمد بن أحمد التجيبـي القاضي بإشبيلية (عهد المرابطين بالأندلس).
  • رسالة في آداب الحسبة والمحتسب لأحمد بن عبد الله بن عبد الرؤوف.
  • تنبيه ذوي الألباب على أحكام خطة الاحتساب للحافظ ابن خلف الغرناطي.
  • كتـاب في الحسبـة لابن فـرحـون إبـراهيم بن علي برهان الدين اليعمري المدني (ت799ﻫ).
  • تحفة الناظر في تغيير المناكر لمحمد بن أحمد بن قاسم بن سعيد العقباني (ت871ﻫ).
  • تأليف في الحسبة لأحمد بن سعيد المجلدي أبي العباس (ت1094ﻫ).
  • أرجوزة في علم الحسبة لعبد الرحمن بن عبد القادر الفاسي (ت1096ﻫ).
  • الميزان القويم والصراط المستقيم في الحسبة لسيديا الكبير (ت1284ﻫ).
  • مذاكرة الفضلاء المشاهر في ذكر وجوب تغيير المناكر لعبد السلام بن عبد الله حركات السلاوي (ت1230ﻫ).
  • رسالة في الحسبة لعمر بن عثمان بن العباس الكرسيفي.
  • كتاب في آداب الحسبة لأبي عبد الله محمد بن أبي محمد السقطي.
  • الاحتساب في الاحتساب لأبي عبد الله محمد بن أحمد المالقي.

المحور الخامس: دور المحتسب في الحفاظ على البيئة والصحة العامة في المغرب والأندلس.

يمكن رصد دور المحتسب في المجال الصحي والبيئي في مراقبته الأماكن العامة التي يرتادها الناس باستمرار، كالمستشفيات، والمطاعم، والفنادق، والحمامات، أو الحوانيت التي تبيع؛ كالخبازين، واللحامين، والطباخين، وصانعي الحلوى وغيرهم، والنظر في مدى توفر الشروط الصحية الضرورية التي تقوم عليها الحياة السليمة للناس، وضبط المخالفات من غش وتدليس وتجاوزات تضر بالصحة العامة.

وعند وقوفه على بعض هذه المخالفات يتخذ التدابير اللازمة لذلك؛ أولها نهي المتسبب في المخالفة، وأمره بالتوقف عنها والتزام الشروط السليمة والصحية في العلاج والطعام والإقامة، والنظافة وغيرها. فإن عاد لتلك المخالفة شدد عليه في العقوبة كأن يصادر السلع التي يراها ضارة بالصحة العامة، أو يعزره بالتأديب والضرب إن اقتضى الأمر، أو إخراجه من السوق في أقصى الحالات، كما يدل عليه قول الإمام مالك رضي الله عنه، حيث قال: «سألني صاحب السوق عن رجل يغش، فأمرته أن يخرجه من السوق ولا يضربه، ورأيت أن ذلك أشد عليه من الضرب»…قال ابن رشد: لأن أهل الفجور والغش قلما ينكلهم الضرب (البيان والتحصيل،  1988).

    • الحسبة على البيئة والفضاء العام:

ولعل أبرز مظاهره منع الناس من طرح الأزبال والقاذورات في الأزقة والأسواق ودور الطهارة والعبادات، ومختلف الأماكن التي يرتادها الناس باستمرار، وأمر الناس أو المكلفين بها بتعهدها بالنظافة والتطهير والإصلاح والترميم إذا استدعى الأمر ذلك، ومراقبته ذلك باستمرار.

وفي ذلك تفصيل نجده في كتب الحسبة، خاصة الكتب التي ألفها علماء المذهب المالكي منهم على سبيل المثال لا الحصر: محمد بن عبدون التجيبي الإشبيلي، الذي خصص فصلا كاملا في كتابه للحديث عن المباني وإصلاح الطرق والمزابل وإماطة ما فيه ضرر للمسلمين حيث قال: «أما البنيان، فهي المكان، لمأوى الأنفس والمهج؛ والأبدان، فيجب تحصينها وحفظها، لأنها مواضع رفع الأموال وحفظ المهج» (رسالة الحسبة، 1955م).

وقال أيضا: «وأما الطرق فيجب أن يؤمر أهل الأرباض بحمايتها عن طرح الزبول والأقذار والكناسة فيها، وإصلاح المواضع المتطأمنة التي تمسك الماء والطين… أما المزابل، فيجب ألا يطرح شيء من الزبل داخل المدينة، ولا تنقية الكنف إلا خارج الأبواب، في الفدادين وفي الجنات، أو في مواضع معلومة، معدة لذلك. ويجب أن يؤكد على أهل الأرباض في تنقية ما اجتمع عندهم من ذلك، من مزبلة تكون بين أظهرهم”.

ثم أعقبه بالحديث عما تتسبب به بعض المهن والحرف من الأذى أو التلوث في الفضاءات العامة، حيث قال: “ويجب أن يؤكد أيضا على الذين يبيعون الحشو، والدوم، والربيع، وكل ما له زبل، أن ينقوا مواضعهم، ويجبروا على ذلك؛ وأن لا يمنعوا الجلوس فيها وبيع ذلك فيها…الكنافون: يؤمرون أن لا يؤذوا الناس في الطرق، ولا تكون القفف ترشح؛ ولو اتخذوا أكوابا، لكان أحسن. يجب أن يكون لبيع الحطب موقف، ولا يترك أحد منهم يمشي في الأسواق؛ فإنهم يؤذون الناس ويمزقون الثياب؛ و إن عثر على من يمشي بالحطب في الأسواق، أدب؛ وكذلك بائعو الجير وغير ذلك؛ يتخذ لهم مواضع يغترفون فيها، فتقصدهم الناس…بائعو الفحم، يجب أن تكون لهم مجارد، لا مجارف؛ فإنها تجرف التراب والغبار، و يتعمدون ذلك؛ ويؤمروا بعزل الغبار عنه، ويباع بجهة لمن شاء أن يشتريه» (رسالة الحسبة، 1955م).

وأكد على وقاية دور العبادة ومرافقها وما حولها من الأوساخ والتلوث قائلا: «يجب للمحتسب أن لا يترك في رحاب الجامع دابة واقفة: فربما راثت، أو بالت؛ فتنجس الناس؛ وتخرج خارج الأسواق حتى تتم الصلاة؛ ويجتهد في ذلك، فهو أمر أكيد» (رسالة الحسبة، 1955م).

وقال أيضا: دار الوضوء، يجب أن يؤمر أحد الكنافين أن يتعاهد بيوته كل يوم وينظفها، ويكون راتبا لذلك؛ ويجعل له أجرة من الأحباس (رسالة الحسبة، 1955م).

وقوله أيضا: «يجب أن تكون صهاريج الحمامات مغطاة؛ فإن كانت مكشوفة، لم تؤمن نجاستها؛ فهو موضع طهارة» (رسالة الحسبة، 1955م).

وفي هذا الشأن أيضا يقول أحمد بن عبد الرؤوف في رسالته التي عقد فيها فصلا كاملا تحدث فيه عن الحسبة في الطرق والفضاءات العامة التي يرتادها الناس، وفصل في مواطن نظر المحتسب فيها حيث قال: «ويمنع عن طرح الأزبال والجيف وما أشبهها في المحجات؛…  ويمنع الصباغون ومن في معناهم عن نشر الثياب المصبوغة المبلولة على الطرق؛ فإنها تؤذي الخاطرين بتغيير ثيابهم. وينهون عن اتخاذ أفرانهم على الطرق؛ فإنهم يؤذون المجتازين بالدخان. ويكلف من فتح سربا وأخرج ما فيه أن ينقله إلى خارج البلد، ويسوي موضع السرب، ويعدل الطريق، وينظفه من الأذى لئلا يضر بذلك المار عليها”.

ثم تحدث عن بائعي الخضر والفواكه بقوله: “ويمنع الخضارون والحصارون عن طرح أزبالهم في الطرق.» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

وقال الكرسيفي أيضا في هذا السياق: «ويجب على ولي الحسبة أن يحتاط جهده في الطهارة في المأكول والمشروب والملابس وغير ذلك، ويتأكد الأمر في المساجد وأفنيتها، وفي الطرق المتصلة بها والأنهار الموضوعة للطهارة في العادات والعبادات ومواضع الاجتماع» (رسالة في الحسبة، 1955م).

من خلال هذه النقول الكثيرة وغيرها تظهر عناية المحتسب البالغة بالبيئة والفضاء العام من جهة، ومن جهة ثانية إحاطته الشاملة بكل ما يعتري الطرقات والأسواق والفضاءات العامة من تلوث أو ضرر يلحق بمرتادي ومستعملي هذه الأماكن، فلا يترك صغيرة ولا كبيرة إلا وتنبه لها، فمهمته لم تقتصر فقط على الأمر بإزالة الضرر بل تمتد إلى الحرص على الوقاية من كل المشاكل والآفات الضارة للبيئة والمجتمع.

فلك أيها القارئ الكريم أن تتخيل مدى نظافة الطرقات، والتنظيم المحكم الذي عليه الأسواق في الأندلس والمغرب في ظل رعاية مثل هؤلاء المحتسبين.

    • الحسبة على  المواد الغذائية:

إن من طالع كتب الحسبة، يلحظ بشكل جلي مدى تركيز المحتسب على مراقبة المواد الغذائية والأطعمة والأشربة التي تقدم للعموم، بشكل يلفت نظر القارئ، حتى يظن أن المحتسب لا يبرح حوانيت الأطعمة والدكاكين التي تبيعها، ويظل حارسا عليها من كل خلل أو غش أو مخالفة مهما صغرت، وأن طرفه لا يغمض لحظة عن الطباخين والخبازين واللحامين والسقائين وغيرهم ممن يقدمون الطعام ويبيعونه للناس، ويظل متتبعا لكل مهنة منها بكل تفاصيلها وجزئياتها الدقيقة من توفر المواد الغذائية الصحية والسليمة، ونظافة الأواني التي توضع فيها أو تطبخ، فيتأكد من جودتها وسلامتها من الفساد، إلى  أن تقدم للمشتري سليمة صالحة للأكل أو الشرب.

فمما يبين عناية المحتسب بالماء وطهارته وصفائه وحمايته من التلوث، ما ذكره ابن عبدون حيث قال في معرض الحديث عن سقاية الماء والسقائين: «ويحد لهم المحتسب أن لا يستقى من بين أرجل الدواب على الحمأ والماء المكدر. يجب أن يمنع النساء أن يغسلن بالقرب من موضع السقاية…يجب أن يمنع هرق الزبول والأقذار على ضفة الوادي، لكن خارج الأبواب، في الفدادين، أو في الجنات، أو في مواضع معلومة لذلك، لا تكون بالقرب من الوادي» (رسالة الحسبة، 1955م).

ـ وأما ما يتعلق بجودة الخبز وصلاحيته فيتم مراقبة مراحل إعداده كلها من طرف المحتسب، من مرحلة طحن القمح وغربلته وتنقيته إلى أن يصبح خبزا ناضجا صالحا للأكل، حيث يقول ابن عبد الرؤوف في شأن الهراسين للمواد الغذائية: «يؤمر الهراسون بدرس القمح وتقشيره وغسله وغسل المهراس والقدر التي تطبخ فيه وتنظيفها» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

وقال ابن عبدون في شأن الخبازين والذين يعدون الخبز: «يجب أن يؤمر الخبازون بغسل قصاري العجين كل يوم، وجرد الألواح ومسحها؛ فإن الحشرات تدب عليها» (رسالة الحسبة، 1955م).

وعند بدأ إعداده يقول ابن عبد الرؤوف: «يطالبون بإنعام طبخ الخبز، ويؤمرون ألا يكثروا فيه عند العجين من الماء، لأن ذلك هو التعليق عندهم» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

ويلحق بالخبز الكعك أيضا، حيث يقول ابن عبدون «يجب أن يجيد طبخه ولا يكون إلا عريضا؛ فإن الرقيق منه لا خير فيه للمرضى» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

كما يمنع أن يمتهن الخباز أو بائع الخبز مهنة أخرى مع بيع الخبز، خاصة إذا كانت مهنة فيها قذارة ووساخة، مثل بيع الحوت، أو الحجامة أو غيرها، وفي ذلك يقول ابن عبد الرؤوف: «ولا يمكن من بيع الخبز حوات ولا جزار ولا من تستقذر حرفته. ويؤمرون بتغطية الخبز بين أيديهم، ويمنعون من مجاورة أهل الحرف القذرة كبياع السردين وسائر أصناف الحوت والبياطرة والحجامين وما أشبه ذلك. ويؤمرون بتنظيف ساحاتهم والبعد عن المواضع الوسخة القذرة» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

وبعد مرحلة إعداد الخبز تأتي مرحلة طهوه في الفرن، يقول ابن عبد الرؤوف: «يمنع الفرانون عن حرق ما يحتطب من الأزقة والمواضع القذرة التي لا تؤمن من نجاستها وإضرارها بالمطبوخ. وينهون عن كشف الخبز قبل إدخاله في الفرن، لئلا يسقط عليه ما يفسده. ويؤمر بحفظه وتعهده بعد إدخاله في الفرن، لئلا يغلب عليه النار، فيحرقه؛ وكذلك القدور والطواجين يفسد بذلك أمتعة الناس. ويؤمرون بطبخ البيات عند وصولها إلى الفرن، ولا يتركونها تجتمع ليخبزوها، فيغلب عليها الخمير، فتحمض وتتخلل؛ فإن خبزوها، عرفوا عند بيعه أنه مما يقع في الفرن من البيات.  ويميزون بين خبز القمح وغيره؛ ولا يخلط ذلك. ويؤمرون بتنظيف البالة، التي يفرنون بها، وجردها، وغسلها، وكنس الفرن من الرماد والتراب، وحرق الأحطاب الجبلية كلها» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

وتظل مراقبة المحتسب مستمرة إلى أن يعرض الخبز للبيع في السوق، يقول ابن عبدون: «لا يباع الخبز إلا بالميزان، ويتفقد طبخه ويتفقد فتاته؛ فربما كان ملبسا، أعني أنهم يأخذون من عجين طيب قليلا ويلبسون به وجهة الخبز، وهو من دقيق غير طيب. لايصنع من البيات خبز كبير، بل يطبخ على حدته كما يوجد» (رسالة الحسبة، 1955م).

ـ وما يقال في صنع الخبز نجد مثله في اللبانين أو بائي اللبن والمواد الحليبية من جبن وحليب وسمن وغيره، وفي ذلك يقول ابن عبد الرؤوف: «ينهون عن بيع اللبن الحليب بالزبد والسمن، لأنه لا يجوز، ولا يجعلوا في الشراز من اللبن إلا على قدر الحاجة، ولا يخلطوا الحليب الطري بالقديم ولا بالماء إلا ليخرج زبده لا غير ذلك، ولا المخيض بالشراز، ولا الطيب بالردي… ويؤمرون بتنظيف أوانيهم وغسلها وتغطيتها بين أيديهم وتعاهدهم بالذب عنها، وعن تنظيف ساحاتهم التي يكونون فيها. ويمنعون أن يبيعوا معه ما يخالفه كالحوت ولا ما يقذره كاللحم والفحم. ويتباعدون عن أهل الحرف القذرة. ومن «الواضحة» قال مالك: ومن غش لبنا بالماء، فلا يهرق وليتصدق به أدبا له مع تأديبه بما ذكرنا؛ وأما الكثير من اللبن، فلا يتصدق به وليبع ممن يأتدم به بالبراءة» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

وقال ابن عبدون أيضا: «لا يبيع اللبن إلا ثقة؛ فإن الماء قد يزداد فيه و يمزج به، وهو غش للمسلمين. ويجب أن يقطع المخيض الذي في الخوابي من بقايا الرائب، فهو قذر. وأكيال اللبن: يجب أن تكون من حنتم، أو من خشب، ولا تكون من نحاس؛ فإنه يولد فيه سمية ضارة للمسلمين» (رسالة الحسبة، 1955م).

ـ أما الاحتساب في الخضر والفواكه فهو بمراقبة نضجها ونظافتها وعدم فسادها.

قال ابن عبدون: «ذكر الخضر مثل الخص و السريس والجزر وغير ذلك: لا يجب أن تغسل في البرك ولا في الصهاريج الأجنة؛ فإنها لا تؤمن نجاستها، إلا في الوادي؛ فإنه أنقى وأطهر» (رسالة الحسبة، 1955م).

وقال أيضا: «يجب أن لا يباع شيء من الفاكهة قبل نضجها؛ فهو فساد؛ إلا العنب وحده؛ فإنه صالح للحبالى والمرضى» (رسالة الحسبة، 1955م).

ـ ومما يلحظ أيضا تشدد المحتسب في بيع المنتجات الحيوانية وما يلحق بها للعموم، وذلك لإدراكه الجيد بحساسية هذه المواد للتلوث وسرعة فسادها وتسممها.

قال ابن عبد الرؤوف: «ويؤمرون أن يفرقوا بين لحم الضأن والمعز، وبين لحم البطون والرؤوس، ولحم البدن وغيره، وبتنظيف الرحاب، وكثرة الذباب، والبعد عن الأقذار. ويمنع من كان مجذوما أو مبروصا وسائر المرضى المستقذرين من بيع جميع الأطعمة واللحوم. ويؤمرون بأن يتخذوا عودا يقطعون عليه اللحم، يكون صليبا نظيفا، ويكلفون بتغطيته بالليل عن الهوام. ويضعون على موضع القطع ملحا، فإنه يمنع الهوام. ويؤمرون بتفريق أوضام اللحوم المختلفة الأصناف؛ فهو أبعد من الدلسة؛ وأن يفصلوا اللحم بالسكين لا بالساطور؛ وهكذا يفصل أهل المشرق اللحم بالسكين لا بالساطور، إلا أن يتعرض عظم لابد من قطعه بالساطور، لأن الساطور يهرس العظم ويخلطه باللحم. وكذلك يجردون اللحم عن العظم بالسكين. ويؤمرون أن يتول الذبح من يوثق به ويعلم فضله إن وجد؛ وإلا جعل أمين عليهم، يقف عليهم ويعلمهم سنة الذبح» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

ـ أما منتجات الدواجن فيقول ابن عبدون: «لا يباع الحجل والطير المذبوح إلا منتوفة المواخر، ليظهر فاسدها ورديها من جيدها؛ لا تباع القنليات إلا مسلوخة، ليظهر فسادها؛ فإنها إن بقيت في جلودها مرقدة، فسدت. بائعوا البيض: يجب أن تكون بين أيديهم مجابن مملوءة بالماء ليقاس فيها البيض الفاسد» (رسالة الحسبة، 1955م).

ـ وما يقال في اللحوم وبائعيها يقال أيضا في بائعي الحوت والأسماك البحرية، لسرعة تفشي العفونة فيها والفساد.

قال ابن عبد الرؤوف: «يجب على المحتسب أن يتخذ لبياعي الحوت مكانا يكون فيه سوقهم بمعزل عن الطريق، لما تعوده من الرائحة، ولما هم عليه من الهبة والحال. ويلزمون بتنظيف الساحة، ويمنعون عن طرح حوت البحر في الماء العذب فإنه يفسده، وعن خلط البائت بالطري، وعن بيعه بائتا، فإن عثر عليهم، طرح لهم. ولا يكثرون الرش؛ فإنهم يؤذون الحاضرين. ولا بأس أن يغمس في الماء ثم يخرج منه سريعا لئلا يفسده عليهم.

ويمنعون عن تمليح البائت من اليومين والثلاثة، لأنه تولد فيه عفونة. والأحسن تمليحه طريا، وبذلك يؤمرون» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

ـ إلا أن هناك مهنة أخرى يكثر فيها الغش والتدليس والتهاون في النظافة والجودة، وهي مهنة الطباخين التي تحتاج لتركيز كثيف من المحتسب وأعوانه الذين يساعدونه في هذه المهمة، فإعداد الطعام يحتاج إلى كل الأصناف التي سبق ذكرها وغيرها من المواد الغذائية كالملح والبهارات والزيوت وأنواع الأعشاب الغذائية، وكذا الأواني والأدوات المطبخية اللازمة لإعداد الطعام. وكذا نظافة الطباخ خاصة يديه اللتين يستخدمهما في الطبخ.

قال ابن عبد الرؤوف: «يجب على صاحب الحسبة أن يتفقد الطباخين عند الغدو والعشي؛ فأما بالغدو، فيقف على اللحم الذي منه يطبخون لئلا يكون لحما رديا أو لحما من غير الصنف الذي يؤكل لحمه يبيعونه بيع الطيب؛ وأما بالعشي فلئلا تبقى لهم بقية فيزيدوا عليها غيرها ويخلطونها، ثم يعيدوا طبخها، فتتستر رائحته ويفسد طعمه…ويؤمرون أن يضعوا ما طبخوه في الصحاف والقدور الواسعة ليراه المشتري ولا يخفى عليه منه شيء.  ويمنعون من عقد البيض على وجه الطعام حتى يستر ما تحته. ويؤمرون بتنظيف الرحاب وتغطية القدور وتعاهد الذباب عنها (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

وقال أيضا: «وكذلك هريس الشحم يتفقد اللحم الذي يوضع فيها عند الطبخ وقبل وضعها في القدر لئلا يكون غير مرضي. وكذلك يتفقد الشحم الذي يذاب ويجعل على وجهها لئلا يكون ذلك زيتا محرقا يوهمون الناس أنه شحم. ويتفقد عليهم في كل يوم لئلا تبقى لهم منها بقية؛ فيضيفوا إليها أخرى. ويعاقبون بعد الإعذار إليهم».

وقال ابن عبدون: «لا يجب أن تكون قدور النحاس للهراسين ومقالي السفاجين والقلائين إلا مرصصة؛ فإن النحاس مع الزيت سمية» (رسالة الحسبة، 1955م).

وقال ابن عبد الرؤوف: «ويؤمر القلاؤون بتنقية الحوت، وإخراج ما في جوفه وحلقه، وغسله؛ ويبالغون في تنظيفه؛ ولا يقلوه بزيت ردي ويجتنبوه. وينهون عن كثرة الدقيق الذي يلث فيه الحوت عند القلي؛ وينهون عن غمسه عند خروجه من المقلي سخنا في الماء والملح، ويعرف ذلك بالشرمولة، ليحسن للناظر ويثقل في الميزان. ويؤدبون إن لم ينتهوا. ويؤمرون بتبليغ القلي وإنعام الطبخ. وكذلك يؤمرون قلاؤو الإسفنج بإنعام طبخها وانتخاب الزيت الطيب للقلي، ولا يضعوا في عجينها من الماء إلا الغلي ما يحتاجون إليه، ولا يعلقوه تعليقا كثيرا ويقللوا من الملح إلا المعلوم. وكذلك المجبنات.  ويؤمرون أن يعملوا لها من الجبن حدا معلوما يخلطونه بالعجين، ويبلغوا طبخ ذلك، ويجتنبوا قلي الفطير. ويؤمرون بغسل مقاليهم عند القلي ومسحها وتنظيفها ويعاقب من فعل منهم غير ما حد له» (رسالة في آداب الحسبة والمحتسب، 1955م).

والمتأمل لكل هذه النصوص، يجد أن المحتسب له خبرة ومعرفة دقيقة بكل الحرف والمهن التي تهتم بالمواد الغذائية، فعندما يتحدث عن الخبازين كأنه خباز أو بائع خبز ماهر ومحترف، وإن تحدث عن الطباخين كأنه طباخ له باع طويل في هذا المجال ونفس الأمر يقال للبانين والجزارين وغيرهم من الحرف والمهن، فالمحتسب يعرف كل صغيرة وكبيرة ولا يغفل عنه شيء فيها، سواء تعلق الأمر بالمواد المستعملة أو طريقة الصنع أو حجم المصنوع أو وزنه وكيله، أو مكان الصنع أو البيع أو غيرها، فلا أبالغ إذا قلت أن صحة المسلم كانت في مأمن من التسممات وأمراض البطون وغيرها من الآفات الصحية وهي بحراسة هذا المحتسب.

    • الحسبة في العلاج والتطبيب

وإلى جانب حراسته لطعام المسلمين وغذائهم، فهو كان حارسا أيضا على صحتهم وعلاجهم، حيث تعتبر مهنة الطب والصيدلة من أصعب المهمات التي يتولاها المحتسب بالمراقبة والرعاية، لكون هذا المجال يحتاج إلى علم ومعرفة واسعة ودقيقة بهذا المجال، حتى يتمكن المحتسب من الوقوف على أنواع الغش والتدليس والإهمال التي يمكن أن ترتاد هذا المجال الحساس. وقد كان محتسبو المغرب والأندلس على وعي ودراية بهذا الإشكال، لذلك وجد منهم من له علم بالطب وتركيب الدواء ووسائل العلاج المختلفة، إلى درجة يضاهون الأطباء ذوي الاختصاص في ذلك، فإن لم يكن المحتسب على علم بهذا المجال يقوم بتعيين أعوان له وأمناء لهم معرفة بالطب وما يتعلق به.

وقد عبر السقطي في كتابه آداب الحسبة عن هذا الأمر، حيث أبان فيه عن مدى وعيه كمحتسب بهذا المجال ودرايته به، عن طريق استعراض العديد من أوجه الغش والتدليس في صناعة الدواء والمواد المستعملة للعلاج، وعقد فصلا كاملا في العطارين والصيادلة فقال: «هؤلاء شغلهم أوسع الأشغال، وأمورهم مختلفة الأحوال، والكشف عنهم صعب المرام، وغش مفسديهم لا يكاد يحصر ولا يرام» (آداب الحسبة،  1931).

وقال أيضا: «وشأن المحتسب في هذا أن يقدّم عليهم في سوقهم من تعلم ثقته ودينه ومعرفته وبصره بالعقار وتمييزه له، واعتناؤه بلقاء الشيوخ العارفين بذلك والأخذ عنهم فيه، وكذلك ثقات التجار المتجولين في البلاد والأطباء العارفين، ويكون قد بلغت همته إلى أن يطالع أقوال المتقدمين في اختبار ما يوجد من ذلك، والكشف عنه، إذ توجد لتلك الأشياء أشباه تماثلها في الصفة والنوع، وتنافيها في الفعل والمنفعة سوى ما منها» (آداب الحسبة،  1931).

لذلك كان حرص المحتسبين على ألا يمتهن الطب والصيدلة إلا بشروط أهمها الاختصاص في هذا المجال ومعرفته به، ثم توفر العدالة والأمانة في الطبيب أو الصيدلي.

وفي هذا يقول ابن عبدون: «يجب أن لا يترك أحد يتسور في شيء لا يحسنه، لاسيما صناعة الطب الذي فيه إتلاف المهج؛ وخطأ الطبيب التراب يستره…ولا يبيع الشراب ولا المعجون ولا يركب الدواء، إلا الحكيم الماهر؛ ولا يشترى ذلك من عطار، ولا شرائبي؛ فإنهم حرصاء على أخذ الثمن بلا علم؛ فيفسدون الفتوى ويقتلون الأعلاء، لأنهم يركبون أدوية مجهولة مخالفة للعمل» (رسالة الحسبة، 1955م).

واهتمامهم البالغ بهذا المجال على الخصوص راجع إلى إدراكهم العميق بأهمية الحفاظ على مجال الطب والعلاج من كل غش أو تدليس على صحة الناس وحفظ حياتهم ومعاشهم، وهو مما لا تستقيم الحياة إلا به، وقد عبر ابن عبدون عن ذلك بقوله: «أحوج ما هم في العالم إلى قاض عدل، وإلى وثاق ثقة، وإلى قلفاط([2]) جيد، وإلى طبيب ماهر خير؛ فهذه الأربعة فيها حياة العالم؛ وهم أحوج إلى أن يكون فيهم الخير والدين من كل واحد؛ فإنهم أمناء الله على الأموال والمهج؛ فهم أحوج الناس إلى الدين» (رسالة الحسبة، 1955م).

خاتمة:

ومن هنا يتبين لنا أهمية المحتسب في حياة المسلم، خاصة ما يتعلق بالجانب الصحي ومدى حاجة المجتمع إليه، لاسيما في عصرنا الحاضر الذي كثر فيه الانحراف في المعاملات، والعبث بصحة الناس، واستفحل فيه الظلم والغش في البيع والشراء، وبالتالي أصبحت صحة عامة الناس وحياتهم في خطر مستمر، فكثرت التسممات الغذائية، والأمراض، والأوبئة الناتجة بشكل أو بآخر عن سوء الغذاء وتلوث البيئة، فما أحوجنا اليوم إلى إعادة تفعيل هذه المهمة الدينية، وربطها بأصلها الثابت وهو الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.


مراجع

  • (بلا تاريخ). تأليف أحمد بن خالد الناصري السلوي (ت1315ﻫ)، جواب في الفرق بين خطة القضاء وخطة الولاية وخطة الحسبة باعتبار عرف زماننا.  مخطوط بالخزانة الوطنية بالرباط عدد: 2295/2د، ضمن مجموع.
  • (بلا تاريخ). تأليف مسلم، و تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي (المحرر)، صحيح مسلم. بيروت: دار إحياء التراث العربي.
  • ( 1986). تأليف ابن فرحون، تبصرة الحكام.  مكتبة الكلياتالأزهرية.
  • (1955م). تأليف عمر بن عثمان الجرسيفي، و تحقيق ذ. ليفي بروفنسال (المحرر)، رسالة في الحسبة. القاهرة: المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية.
  • (1955م). تأليف أحمد بن عبد الله بن عبد الرؤوف، رسالة في آداب الحسبة والمحتسب. القاهرة:  لمعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية.
  • (1988). تأليف ابن رشد، و تحقيق محمد حجي (المحرر)، البيان والتحصيل.  دار الغرب الطبعة.
  • (1992). تأليف لابن عبد البر القرطبي، و تحقيق علي محمد البجاوي (المحرر)، الاستيعاب في معرفة الأصحاب. بيروت: دار الجيل.
  • (1994). تأليف القرافي، الذخيرة (صفحة 10/48). دار الغرب الإسلامي.
  • (2003). تأليف لابن بشكوال، و تحقيق صلاح الدين الهواري (المحرر)، الصلة في تاريخ علماء الأندلس.  المكتبة العصرية.
  • أحكام السوق. (1432). تأليف يحيى بن عمرالكناني، و إسماعيل الخالدي (المحرر). مركز الدراسات والأبحاث التابع للرابطة المحمدية للعلماء.
  • آداب الحسبة.  (1931). تأليف السقطي. إرنست لورو.
  • البخاري. (1422). كتاب الرقائق. تأليف صحيح البخاري، صحيح البخاري. دار طوق النجاة.
  • الصلة في تاريخ علماء الأندلس.  (2003). تأليف ابن بشكوال، و صلاح الدين الهواري (المحرر). المكتبة العصرية.
  • القاموس المحيط.  (2005). تأليف الفيروز ابادي. بيروت: مؤسسة الرسالة للطباعة والنشر والتوزيع.
  • الماوردي. (بلا تاريخ). الحسبة في الأحكام السلطانية.
  • ديوان الأحكام الكبرى،.  (1997). تأليف ابن سهل، و رشيد النعيمي (المحرر). شركة الصفحات الذهبية المحدودة.
  • رسالة الحسبة. ( 1955م). تأليف ابن عبدون التجيبي الإشبيلي. المعهد العلمي الفرنسي للآثار الشرقية بالقاهرة.
  • لسان العرب.  (بلا تاريخ). تأليف ابن منظور. 1414: دار صادر.
  • مقدمة ابن خلدون.  (1992). تأليف ابن خلدون. دار القلم.
  • نيل الابتهاج بتطريز الديباج. (2004). تأليف أحمد بابا التنبكتي، و علي عمر (المحرر). مكتبة الثقافة الدينية.

([1])  جمع روشن وهي الشرفة ينظر المعجم الوسيط (رشن)

([2])  قلفاط أو جلفاط وهو الذي يسد دروز السفينة الجديدة بالخيوط والخرق ينظر لسان العرب (جلفط)

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.