منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

أهمية أصول النحو في فهم الإعجاز القرآني من خلال (الخصائص) و(دلائل الإعجاز).

أهمية أصول النحو في فهم الإعجاز القرآني من خلال (الخصائص) و(دلائل الإعجاز). / د. رشيدة مصلاحي

2

أهمية أصول النحو في فهم الإعجاز القرآني

من خلال (الخصائص) و(دلائل الإعجاز).

بقلم: د. رشيدة مصلاحي

 مقدمة:

كان علماء الإسلام القدامى لا يتوانون عن توظيف مناهج العلوم المختلفة واستثمارها من أجل مقاربة النّص الدّيني وفهمه، واعتُبِر النّص القرآني من أكثر النّصوص والخطابات التي تستلزم مقاربتها تنزيل فكرة التّكامل المعرفي؛ إذ كان الحفاظ على سلامته، والإبقاء على صفاء لغته من الهواجس التي راودت علماء المسلمين عامّة، وعلماء اللّغة بصفة خاصّة، و”كانت العناية الأولى باللّغة استجابة إلى ما توجبه المحافظة على القرآن الكريم وتفهم معانيه من حفظ مادته اللغوية وما ترمي إليه من دقيق الدلالة والمغزى وصحيح المبنى والمعنى”[1].

وقد تولّد عن محورية النّص القرآني في الثقافة العربية الإسلامية وحدة متكاملة من العلوم، من فقه وأصول وحديث وسنّة وتفسير وقراءات، وغيرها من علوم القرآن، بالإضافة إلى علوم العربية التي تُعرف بعلوم الآلة، من نحو وصوت وصرف ومعجم وفقه ولغة وبلاغة، وهي –في رأي ابن خلدون- عبارة عن وسائل في يد عالم الشريعة تساعده على التوفية بمقاصد الكلام، وتعينه على استنباط الأحكام الشرعية من النصوص الدينية[2].

ويمكن تلخيص مرامي التّأليف في مجال علوم اللّسان العربي[3] في الحفاظ على اللّغة وتسهيل منالها على طالبيها، إذ في اكتساب ملكتها ومعرفة قواعدها وقوانينها، والعلم بأصولها وتقنياتها امتلاك لنواصي العلوم كلّها وعلى قمّتها علوم الشريعة والدّين[4]. ولعلّ هذا ما كان يعيه تمام الوعي سائر أسلافنا من العلماء؛ إذ كانوا يعتبرون كتاب سيبويه[5] -مثلاً- كتاباً في علوم العربية: نحواً ولغةً وبلاغةً ومنطقاً؛ كتاباً يُمكّن من استوعبه من الإمساك بمفاصل العلوم العربية كلّها.

ولقد بلغ من إعجاب أبي عمر الجرمي (ت225هـ) أنّه كان يقول: “أنا مذ ثلاثين سنة أفتي الناس في الفقه من كتاب سيبويه”[6]؛ إذ كان كتاب سيبويه يُتعلَّم منه النظر والتفتيش[7]. قال المبرّد (ت285هـ) عن الجرمي: “كان صاحب حديث فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث؛ إذ كان كتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفسير”[8].

ويعلّق أبو إسحاق الشاطبي على كلام الجرمي الفقيه الذي كان يفتي النّاس في الفقه من كتاب سيبويه شارحاً السرّ في ذلك: “وكتاب سيبويه يتعلم منه النظر والتفتيش[9]. والمراد بذلك أن سيبويه وإن تكلم في النحو فقد نبه في كلامه على مقاصد العرب وأنحاء تصرفها في ألفاظها ومعانيها، ولم يقتصر فيه على بيان أن الفاعل مرفوع والمفعول منصوب ونحو ذلك، بل هو يبين في كل باب ما يليق به حتى إنه احتوى على علم المعاني والبيان ووجوه تصرفات الألفاظ في المعاني”[10].

والكتاب يُتعلّم منه النّظر والتّفتيش، وهو مستغن في علمه عن غيره من الكتب، “وذلك أن الكتب المصنّفة في العلوم الأخرى مضطرة إلى غيرها وكتاب سيبويه لا يحتاج من فهمه إلى غيره..”[11]؛ بل احتاج غيره إليه بصفته كتاب نظر وتفسير، والمراد بالنظر والتفسير الارتقاء من حفظ النص إلى فقهه؛ لذلك قال أبو حيان النحوي: “فالكتاب هو المرقاة إلى فهم الكتاب إذ هو المطلع على علم الإعراب والمبدي من معالمه ما درس والمنطق من لسانه ما خرس..”[12].

ولقد كان الطّابع العام للعلوم العربية الإسلامية كلّها هو: وحدة المنهج؛ لذلك نجد السّماع والقياس والتّعليل وغيرها من الأدوات المنهجية التي مكّنتهم من تأصيل العلوم الإسلامية في الفقه والنّحو، وذلك لأنّ منهج النّحاة العرب لم يكن مستقلّاً عن المناهج الأخرى[13]، ويكفي أن نعلم أن طرق الاستنباط عند الفقهاء تقارب إلى حدّ كبير -إن لم نقل هي نفسها- طرق الاستنباط عند النّحاة، وتلك خاصّية الدّرس اللّغوي القديم وهي التّداخل المنهجي بين المعارف أو التكامل المعرفي بين العلوم.

وهذا ابن الأنباري يؤكّد خاصّية التّداخل المنهجي بين مختلف العلوم الإسلامية في حدّه لعلم أصول النّحو حين يقول: “أصول النحو أدلّة النحو التي تفرّعت منها فروعه وفصوله، كما أن أصول الفقه التي تنوّعت عنها جملته وتفصيله. وفائدته التعويل في إثبات الحكم على الحجّة والتعليل”[14]. ولعلّ هذا التّداخل المنهجي بين المعارف أو التّكامل المعرفي بين العلوم هو الذي أدّى إلى تأسيس علم خاصّ، وهو علم أصول النّحو على غرار علم أصول الفقه. وأصول النّحو وأصول الفقه كلاهما ينحصر في دراسة الأدلّة؛ إلّا أنّ أصول الفقه يدرس الأدلّة التي تمّ بها بناء علم الفقه؛ بينما يدرس أصول النّحو الأدلّة التي تمّ بواسطتها تكوين النّظام النّحوي.

ومما لا شك فيه أنّ تصوّر القدماء لعلم النّحو حدّدته طبيعة الإشكالية التي واجهت المجتمع العربي في عصر التدوين كإطار مرجعي للفكر العربي؛ لذلك فبالرجوع إلى القرن الثاني الهجري يمكن أن نهتدي إلى الخطوات المنهجية التي سلكها النّحّاة لتأسيس علم النّحو، والذي يشكّل مع العلوم الإسلامية الأخرى وحدة متكاملة، وقد جاءت هذه الوحدة كإجابة عن أسئلة العصر، وقد كان من بين هذه الأسئلة: تسهيل اللّغة على المُعْتنقين الجُدُد، وفهم النّص الدّيني، ودفع اللّحن..

ولا ريب أيضاً في كون فكرة وحدة العلوم أو قضية التكامل بين المعارف قد أضحت ضرورة من ضرورات البحث العلمي في عصرنا الحديث، حتّى تنفتحَ العلوم على بعضها البعض، وتنتقلَ الأفكار من حقل علمي إلى آخر، سعياً إلى تحقيق رؤية شمولية وعميقة، ومن ثمّ استنتاج الحلول الممكنة لمعظم الإشكالات المطروحة في مختلف مجالات البحث العلمي ومشاريعه.

ورغبةً في المشاركة في هذا الملتقى الذي يسعى إلى تنزيل آليات التكامل المعرفي بين علوم العربية، خدمة لكتاب الله العظيم، وسعياً إلى لفت الانتباه إلى أهمية فكرة التكامل المعرفي في مشاريع البحث العلمي التي تتمحور حول القرآن الكريم؛ جاءت فكرة كتابة هذا المقال؛ ليكون فرصة لتبادل الأفكار ووجهات النظر حول موضوع بعنوان: أهمية آليات التكامل المعرفي بين علمي أصول النحو وأصول الفقه، ودورها في إدراك إعجاز القرآن الكريم من خلال الخصائص ودلائل الإعجاز.

ويبدو أنّ هذا المقال يتفرَّع إلى محورين رئيسيين:

– الأول: عرض مسألة التكامل المعرفي بين علمي أصول النحو وأصول الفقه من خلال كتاب الخصائص لابن جني.

– الثاني: إبراز أهمية أصول النحو في فهم إعجاز القرآن الكريم من خلال دلائل الإعجاز لعبد القاهر الجرجاني.

ويمكن القول إنّ هذا المقال يحاول تسليط الأضواء على دور ابن جني[15] الرّائد في تطوير آليات التكامل المعرفي بين علمي أصول النحو وأصول الفقه من خلال بلورته لمعظم الأصول ومن بينها دليلي الإجماع والاستحسان، ومن ثمّ إبراز مركزية أصول النحو، وخصوصاً دليل الاستحسان في إدراك مدارج الإعجاز القرآني ومنازله.

ملاحظة: حرصاً على الاختصار وتجنباً لفضول الكلام؛ سنقوم بوضع بعض الخطاطات البيانية والترسيمات التوضيحية لتحديد بعض المفاهيم والمصطلحات، وتعيين بعض موضوعات المقال. والهدف الأوّل على أي حال هو إقامة هذه الدّراسة على نوع من الضّبط والإيجاز.

تنبيه: لقد تمّ الاكتفاء بذكر اسم الكتاب ورقم الجزء والصفحة في الإشارة إلى مصادر الدّراسة (مثل كتابي: الخصائص والدلائل).

الفصل الأول:أهمية أصول النحو (الاستحسان) في فهم الإعجاز القرآني من خلال (الخصائص) و(دلائل الإعجاز).

 المبحث الأول: الخصائص كتاب في علم “أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه”

إذا رجعنا إلى خطبة الخصائص ألفينا ابن جني يقدّمه بقوله: هذا “كتاب (…) من أشرف ما صنّف في علم العرب، وأذهبه في طريق القياس والنظر (…) وأجمعه للأدلّة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة من خصائص الحكمة، ونيطت به من علائق الإتقان والصنعة (…) وذلك أنا لم نر أحداً من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه (…) فأما كتاب أصول أبي بكر[16] فلم يلملم فيه بما نحن عليه، إلا حرف أو حرفين في أوّله (…) على أن أبا الحسن قد كان صنّف في شيء من المقاييس كتيبا، إذ أنت قرنته بكتابنا هذا علمت بذاك أنا نبنا عنه فيه، وكفيناه كلفة التعب به”[17].

يظهر من خلال النّظر في هذا النّص أن الخصائص من الكتب الرّائدة في علوم العربية إلى جانب أصول أبي بكر ابن السّرّاج محمد بن السّري (ت316هـ)[18]، وكتاب تلميذ سيبويه أبي الحسن الأخفش الأوسط سعيد بن مسعدة (ت210هـ)؛ إذ يؤكّد ابن جني أنّ كتابه الخصائص ناب عنه وكفى كُلْفة التّعب به، وذلك لأنّه تجاوزه وشمل ما ورد فيه، وأغنى الباحث عن الرّجوع إليه.

وأوّل ما يتعيَّن مناقشته والبحث فيه هو المجال المعرفي الذي صنّف في نطاقه ابن جني مؤلَّفه، وهو مجال “أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه”. ومعنى أصول الفقه[19]: أي “أدلّته[20] كالكتاب والسنّة والإجماع والقياس وغيرها”[21]، والأصولي في مجال الفقه: “هو العارف بقواعد الاستنباط، الواقف على طرق الاستدلال”[22].

ويمكن أن نستنتج من خلال هذين التعريفين تعريفاً للأصولي في مجال النحو؛ فنقول: إنّه العالم بقواعد الاستنباط، والعارف بطرق الاستدلال. ولا نظنّ ما قام به ابن جني في كتابه الخصائص يخالف ما يقوم به الأصوليون في باقي العلوم مثل الكلام والفقه وغيرهما.

ثم إنّ النّاظر في خُطبة الخصائص ومَثْنه لا يستغرب من استعارة صاحبه للعديد من المفاهيم والمصطلحات التي تنتمي إلى أصول الفقه، إلّا أنّه لا ينسى الإشارة إلى خصوصيّات استعمالها في مجال اشتغاله.

ولهذا كلّه، لا نجد بدّاً من تبني الافتراض الذي مفاده: أنّ الخصائص كتاب في أصول النّحو تخصّص في استنباط المبادئ والتصورات العامّة التي بنى عليها النحاة العرب قواعدهم. وفي الخصائص نصوص عدّة يصرّح فيها ابن جني بالهدف المتوخّى من مؤلّفه:

يقول في أحدها: “إنّ هذا الكتاب ليس مبنيا على حديث وجوه الإعراب، وإنّما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بُدئ وإلام نُحي”[23].

ويقول في نص آخر: “هو كتاب يتساهم ذوو النظر: من المتكلّمين والفقهاء والمتفلسفين والنّحاة والكتّاب والمتأدّبين التأمّل له، والبحث عن مستودعه، فقد وجب أن يخاطب كل إنسان منهم بما يعتاده، ويأنس به، ليكون له سهم منه وحصّة فيه”[24].

ويبقى الخصائص كتاباً جامعاً لجلّ مباحث العربية فضلاً عن كونه كتاباً في الأوضاع والمبادئ والأصول[25]، لذلك يمكن القول إنّه كتب متعدّدة في كتاب واحد؛ بل يمكن اعتباره موسوعة لغوية ودائرة معارف علمية؛ لم يكن مُوجّها من طرف صاحبه إلى عموم طلّاب العلم، بل خصّ به جمهور الباحثين على اختلاف مشاربهم وتعدّد اهتماماتهم.

يقول ابن جني في باب (ذكر علل العربية العربيّة أكلاميّة هي أم فقهية؟): “وإنما أزيد في إيضاح هذه الفصول من هذا الكتاب لأنّه موضع الغرض: فيه تقرير الأصول، وإحكام معاقدها، والتنبيه على شرف هذه اللغة وسداد مصادرها ومواردها، وبه وبأمثاله تخرج أضغانها، وتبعج أحضانها، ولا سيما هذا السمت الذي نحن عليه، ومرزون[26] إليه؛ فاعرفه؛ فإن أحدا لم يتكلف الكلام على علة إهمال ما أهمل، واستعمال ما استعمل. وجماع أمر القول فيه، والاستعانة على إصابة غروره ومطاويه، لزومك محجة القول بالاستثقال والاستخفاف، ولكن كيف، وعلام، ومن أين، فإنه باب يحتاج منك إلى تأن، وفضل بيانٍ وتأت. وقد دققت لك بابه، بل خرقت بك حجابه. ولا تستطل كلامي في هذا الفصل، أو ترين أن المقنع فيه كان دون هذا القدر؛ فإنك إذا راجعته وأنعمت تأمّله علمت أنه منبهة للحس، مشجعة للنفس”[27].

والمُلاحظ أنّ ابن جني يحاول أن يبرز –من خلال هذا النص الجامع- أهمية ما توصّل إليه من منهجية متميّزة، وما تميّز به من معرفة متفوّقة على جميع المستويات، وخاصّة ريّادته البارزة في مسألة تعليل الظواهر اللّغوية والنّحوية والصّرفية وغيرها؛ ممّا جعله إماماً لسابقيه ومعاصريه، وحتّى لاحقيه من النّحويين واللّغويين.

ولعلّ هذا ما أكّده من احتذى حَذْوه ممّن جاء بعده أمثال: أبي البركات بن الأنباري (ت577هـ)، وجلال الدّين السيوطي (ت911هـ) اللّذان يعترفان بفضل ابن جني ويصرّحان بتقدُّمه في نطاق علم أصول النحو موضوعًا ومنهجًا ومفاهيم. يقول صاحب كتاب الإقتراح: “واعلم أنّي قد استمدْدتُ هذا الكتاب كثيراً من كتاب “الخصائص” لابن جني فإنه وضعهُ في هذا المعنى، وسمّاه أصول النحو (…) فلخّصتُ منه جميع ما يتعلق بهذا المعنى..”[28].

المبحث الثاني: تأثّر ابن جني بالفقه وأصوله

يعتبر ابن جني من أوائل النحاة الذين استخدموا المصطلحات الفقهية في الدّرس اللّغوي، وإذا ما قمنا باستعراض أبواب الخصائص ألفينا مجموعة من الأبواب مستعارة من أبواب الفقه ومصطلحاته، إلاّ أنّ ابن جني يصرّح بأنّ ما قام به النّحويّون في مجال العلّة النّحوية فاقوا به علل المتفقّهين رغم أنّهم انتهجوا مناهجهم[29].

ويذكر ابن جني -في أماكن متناثرة من الخصائص- أنّ اللّغويين قد اقتفوا أثر الفقهاء في استخراج العلل والأقيسة، وذكر على وجه الخصوص محمد بن الحسن الشيباني (ت189هـ) صاحب أبي حنيفة، والذي كانت كتُبه مرجعاً أساسياً لأهل النحو، يقول ابن جني: “وكذلك كتب محمد بن الحسن رحمه الله ينتزع أصحابنا منها العلل، لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه، فيجمع بعضها إلى بعض بالملاطفـة والرفق”[30].

لقد أفاد ابن جني من جهود علماء اللّغة والفقه والكلام والحديث والمنطق في درسه اللّغوي المتميّز، فاستفاد من طرق بحثهم ومناهجهم، واستخدم مصطلحاتهم وطبّقها على الدّرس اللّغوي، وقد اعترف بهذا الأثر للمناهج المتّبعة في هذه العلوم كلّها في خطبة خصائصه، وأنّه تعرض فيه “لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه”. كما أنّه يصرّح غير ما مرّة بأنّه كان يضع مصطلحات فرعية لمسائل في اللّغة محاكاة لبعض فروع الفقه.

وهكذا كان ابن جني على وعي كبير بمسألة التّكامل المعرفي، ولم يكن يتوانى عن توظيف مناهج العلوم المختلفة في درسه النّحوي واللّغوي، واستثمارها من أجل مقاربة النّصوص وفهمها؛ ففي نظره أنّ مقاربة أيّ نصّ تستلزم تفعيل فكرة التّكامل المعرفي؛ سواء تعلّق الأمر بنصوص القرآن أو الحديث أو كلام العرب شعره ونثره.

وبناء عليه؛ فأيّ نصّ –في نظر ابن جني- تتجاذبه معارف عديدة، وتتعاور مضامينه علوم مختلفة؛ لذلك اشترط على من رام فكّ مغاليق النّصوص وإدراك معانيها، والنّفاذ إلى مقاصدها ومراميها؛ الاستعانة بتلك العلوم كلّها؛ إذ تُعتَبر كلّها منارات ساطعة تُشعّ على جوانب النّص المظلمة، وتقوم بكشف خباياه المُبْهمة.

ثمّ إنّ هذه العلوم الموظّفة جميعها -في تفسيرات ابن جني-  تتكامل وتتعاون بهدف بناء معرفة صحيحة وشاملة تبنى من النّص نفسه، ويكون دورها هو التّحصين من التأويلات الخاطئة للنّص المقروء والمتناول بالتحليل. وبذلك حدث تعانق حميم بين مناهج العلوم المختلفة وبين معاني النصوص؛ بحيث يكون الفهم الصحيح لهذه المناهج هو الفهم الصحيح للأساس المعنوي الذي تقوم عليه النصوص.

كما أنّ أيّ عنصر في النّصوص يمثّل جزءاً أساسياً في بناء معناه، سواء أكان عنصراً صوتياً أم صرفياً أم نحوياً أم لغوياً أم دلالياً. فالتفسير المعنوي لكل نصّ يقوم على مفرداته المؤلّفة لجمله، والمعنى لا يمكن الوصول إليه من خلال الكلمات منفردة؛ لذلك صرّح ابن جني في مواطن كثيرة من كتابه الخصائص أنّ الفائدة “لا تُجْنى من الكلمة الواحدة، وإنما تجنى من الجمل ومدارج القول”[31].

والمُلفت للنّظر أنّ ابن جني قد وظّف -في الخصائص- مجموعة من الأدوات الإجرائية ذات الطبيعة المنهجية والصورية؛ إذ قام بتسليط ضوئها على النّصوص قصد النّفاذ إلى عمق معناها والإمساك بمرامي دلالتها. وإذا تأمّلنا طبيعة هذه الأدوات تراءى لنا طابعها الإجرائي التأويلي، وألفيناها تنتمي إلى مجموعة من العلوم والحقول المعرفية المختلفة في مقدّمتها علم أصول النحو وعلم أصول الكلام والفقه.

ومن خلال استقراء نصوص الخصائص انكشف جانب مهم من شخصية صاحبه ألا هو إحاطته بعلوم عصره، وعمق درايته بخمس اختصاصات متميزة وهي: علم الكلام والفقه والفلسفة والنحو والأدب. ومن ثم، جمع أبو الفتح في كتابه الخصائص مادة خصبة من علوم العربية؛ فلقد استفاد من العلوم التي وقع عليها الإقبال في عصره، واعتبر نفسه رائداً في هذا الأمر؛ لأن أحداً من النحويين واللغويين لم يقم بهذا العمل المتميّز قبله[32].

ويبقى الموضوع الأساس لكتاب الخصائص هو البحث في أصول النحو على غرار البحث في أصول الكلام والفقه، “وهو بحث فلسفي في اللّغة وأصولها واشتقاقها وأحكامها ومصادرها وما يجوز القياس فيه”[33].

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ ابن جني يعترف أن الخصائص ليس كتاباً في النحو، إذ نجده يقول: “وليكون هذا الكتاب ذاهبا في جهات النظر؛ إذ ليس غرضنا فيه الرفع، والنصب، والجر، والجزم؛ لأن هذا أمر قد فرغ في أكثر الكتب المصنّفة فيه منه”[34].

ويلاحظ قارئ الخصائص أن ابن جني لا يتناول المسائل النحوية إلا وهي مقترنة بالبلاغة والعروض والصرف وغيرها، ولا نحسب ابن جني إلا رائداً في هذا المجال، بالإضافة إلى محاولته المتميزة في إبراز العلاقة بين أصول النحو وأصول الفقه، وذلك حين عقد باباً سمّاه الاستحسان[35].

ويؤكّد شوقي ضيف أنّ ابن جني يطبّق قاعدة الاستحسان في الفقه الحنفي على بعض الأبنية. وكذلك نستشفّ أثر المباحث الفقهية حين يتحدّث عن حمل الفرع على الأصل والعكس، إذ يصرّح بأنّه يستضيء بأبي حنيفة في حديثه عن الدّور والوقوف منه على أوّل رُتْبة[36]، والحمل على الظاهر، وغلبة الفروع على الأصول، واختلاف اللّغات وكلّها حجّة على نحو ما يختلف الفقهاء، ويعود مراراً إلى مراجعة الأصول والفروع، ويدلّ ذلك على تأثّر ابن جني بأصول الفقهاء والمتكلّمين وغيرهم[37].

ولا يهمّنا معرفة تأثّر ابن جني بالأصوليين بقدْر ما يهمّنا أن نعرف أنّ أيّة أصول سواء كانت للفقه أم للنحو أم للأدب أم لأي فن آخر؛ ما هي إلا مناهج وأصول بحث تقوم عليها أحكام ذلك الفن وقضاياه، من أجل ذلك ينبغي أن تكون أصول البحث في مرتبة سابقة أو موازية للبحث أو المبحوث فيه، وهذه طبيعة كل أساس يُراد البناء عليه.

والمُلاحظ أنّ اللّغويات العربية القديمة قد ارتبطت بجملة أصول وأسس نظرية؛ غالباً ما لا يتم الكشف عنها والتّصريح بها[38]. يقول الإمام جلال الدين السيوطي: “النحو بعضه مأخوذ من كلام العرب (الوصف)، وبعضه مستنبط من الفكر والروية (وهو التعليلات أي التفسير)، وبعضه مأخوذ من صناعات أخرى (يقاطع أو يتكامل مع العلوم الأخرى من فقه وعلم كلام ومنطق)”[39].

ويتّضح أنّ اللّغويون العرب قد وضعوا مفاهيم نظرية، وحاولوا من خلالها إقامة دراساتهم للّغة[40]، وهذه المفاهيم النظرية لم يصرّحوا بها في مقدّمات أعمالهم، ربّما لأنّ طبيعة عصورهم لم تكن تحتاج إلى مثل هذه المقدّمات بقصد توضيح غاياتهم وموضوعات دراستهم ومناهجها، أو ربّما عدُّوا هذا الأمر من البدهيات؛ إذ كانوا يفترضون في القارئ درايةً وعلماً بالأمور، غير أنّ أقوالهم وتحاليلهم تكشف عن رؤية واضحة، ومقدّمات منهجية ومعرفية تفسّر أعمالهم؛ ممّا يجعلنا نظنّ أنّ الأعمال اللّغوية العربية تسمح بأكبر قدر ممكن من النّظر والتأمّل والتدبّر والاستنتاج.

وممّا لا شك فيه أن لكلّ علم فلسفة وأصول ومقوّمات منهجية لا يقوم إلا بها، والنحو العربي علم كباقي العلوم؛ إلّا أنّه لم يكن ذا منهج مستقلّ عن العلوم الإسلامية الأخرى، وتلك خاصيّة الدّرس اللّغوي القديم، وهي التّداخل المنهجي الذي أدّى إلى تأسيس علم خاص هو علم أصول النحو على غرار علم أصول الفقه.

وهذا ابن الأنباري يؤكّد خاصّية التّداخل المنهجي بين مختلف العلوم الإسلامية في حدّه لعلم أصول النحو حين يقول: “أصول النحو أدلّة النّحو التي تفرّعت منها فروعه وفصوله، كما أن أصول الفقه التي تنوّعت عنها جملته وتفصيله. وفائدته التعويل في إثبات الحكم على الحجّة والتعليل”[41].

فأصول النحو وأصول الفقه كلاهما ينحصر في دراسة الأدلّة، إلا أن أصول الفقه يدرس الأدلّة التي تمّ بها بناء علم الفقه؛ بينما يدرس علم أصول النحو الأدلّة التي تمّ بواسطتها تكوين النظام النحوي. وقد “كان ابن الأنباري أوّل من اعتبر “علم أصول النحو” أي مناهج البحث النحوي علماً قائماً بذاته، وقد ألّف فيه محتذياً حذْو المؤلّفين في علم أصول الفقه”[42].

فماذا يراد –إذن- بهذه الأصول التي جاءت متأخّرة عن النحو، باعتباره صناعة قائمة بذاتها؟ وما هو الفرق بين علم النحو وعلم أصوله؟ وما طبيعة الدّليل الذي يدرسه علم أصول النحو وقضاياه الكبرى التي يعالجها؟

المبحث الثالث: الفرق بين علم النحو وعلم أصوله

إذا كان النحو[43] علماً بالمقاييس المستنبطة من استقراء كلام العرب؛ فإنّ أصول النحو يدرس الأدلّة التي بواسطتها نتوصّل إلى تقرير القواعد والأحكام. فالفرق بين علم النحو وعلم أصوله هو الفرق بين مادّة العلم ومنهجه وطريقته. لذلك كان الدّليل موضوع علم أصول النّحو. وهو ينسجم مع تعريف ابن الأنباري في موضوع هذا العلم حين حدّد الدّليل[44] بقوله: “والدليل ما يرشد إلى المطلوب. وقيل معلوم يتوصّل بصحيح النظر فيه إلى علم ما لا يعلم في العادة اضطرارا”[45]. فالدّليل هو معلوم نتوصّل به إلى مجهول، أو هو مُعْطى معروف نصل به إلى حكمٍ غير معروف؛ كالوصول إلى معرفة ما لم يسمَّ فاعله انطلاقاً من المبني للمعلوم.

وننتهي ممّا سبق إلى أن علم أصول النحو ينحصر في دراسة الأدلّة. والسؤال الملحّ الآن هو: ما هي طبيعة الدّليل الذي يدرسه علم أصول النحو؟ هل هو الدّليل الكلّي أم الجزئي؛ التفصيلي أم الإجمالي؟

هذا ما ألقى عليه جلال الدين السيوطي الأضواء، وهو يعرّف علم أصول النحو بكونه العلم الذي “يُبْحَثُ فيه عن أدلة النحو الإجمالية من حيث هي أدلته وكيفية الاستدلال بها وحال المستدلّ”[46]. ولعلّ هذا الحدّ أشمل ممّا أعطاه ابن الأنباري لأنّه يبيّن طبيعة الدَّليل باعتباره موضوع علم أصول النحو؛ إنّه الدَّليل الإجمالي لا التّفصيلي إذ الفرق بينهما كالفرق بين أصول النحو وعلم النحو.

ويمكن القول إنّ الأدلّة الإجمالية هي التي جعلت النحو علماً يسعى إلى الاطّراد، وذلك عن طريق تجريد القواعد وتعميمها، ووسيلة النحاة في ذلك القياس؛ فدراسة الأدلّة الإجمالية دراسة للخطوات المنهجية التي نصل بها إلى الأدلّة التفصيلية.

ويحدّد السيوطي جهة البحث بقوله: “من حيث هي أدلّته” وهي متمثّلة في الكلام العربي الفصيح الذي يخرج عن حدّ القلّة إلى حدّ الكثرة، وكذلك القرآن والحديث بشروط. أمّا كيفية الاستدلال[47] فتتعلّق بتعارض دليلين كتعارض السّماع والقياس مثلاً، وبم يُؤخذ عند هذا التعارض؟

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ لابن جني رأي متميّز في حلّ هذه المسألة يُستشف من قوله: “واعلم أن الشيء إذا اطّرد في الاستعمال وشذّ في القياس فلا بدّ من اُتّباع السّمْع الوارد فيه نفسه ولكنه لا يُتّخذ أصلا يقاس عليه. ألا ترى أنك إذا سمعت استحوذ استصوب أدَّيتهما بحالهما ولا تتجاوز ما ورد به السماع فيهما إلى غيرهما”[48].

أمّا حال المستدل[49] فالمقصود بها: الشّروط التي يجب توفّرها في العالِم الذي يقوم بهذه العمليات الاستدلالية. وبناء عليه يمكن القول: إنّ الأدلة الإجمالية هي: السماع والقياس والإجماع وغيرها.

ومن خلال المقارنة بين تعريفي السيوطي وابن الأنباري يمكن أن نُعرّف القضايا التي يعالجها علم أصول النّحو، بكونها الأدلّة الإجمالية، وكلّها تتعلّق بالاستدلال الذي تمكَّن بواسطته النحاة من تجريد الأصول؛ أمّا تغيير الأصول فمجال التّعليل، وهو الموضوع الرئيسي الذي يهمّنا بقوّة، لأنّ ما خرج عن الأصل يتطلّب التّعليل، وعند وجود العلّة يمكن ردّ الفرع إلى الأصل.

ويبقى الاستقراء كما تبنّاه النحاة العرب -ومن بينهم ابن جني- متمثّلا في تتبّع بعض الجزئيات لاستخلاص حكم كلّي منها، وتعميمه على الباقي؛ ثم بعد ذلك يأتي دور القياس في الحالات التي لا يُعرف فيها الحُكْم، وبذلك يُقاس ما لم يُقل على ما قيل أي الفرع على الأصل. وهكذا، يمكن أن نَخْلُص إلى أنّ المرحلة الأولى في المنهج مرحلة حسّية تتمثّلُ في السّماع، وبعد ذلك يأتي دور القياس، وهو عملية عقلية تمتاز بالعموم والتّجريد.

المبحث الرابع: التعليل تقنية محورية في جميع العلوم العربية

لم يكن مفهوم العلّة وقفاً على النحاة وحدهم؛ بل نجده عند المتكلّمين والفقهاء وغيرهم. ومع نهاية عصر التدوين ظهرت أسس النحو المنهجية واستقلّت عليه، وظهر علم أصول النحو الذي سيعنى بتحليل هذه الأسس. وقد جعل التّعليلُ النحوَ عُرضة للتخريجات الذّهنية التي تتعارض مع طبيعة اللّغة، كما أنّ تعليلات النحاة جرّت عليهم إقحام الأفكار الفلسفية والدينية والكلامية. ولا مناص من التطرّق إلى قضية التعليل النحوي في علاقته بأضرب التعليل الأخرى.

إنّ علل النحويين ترجع إلى مقولتي الخفّة والفرق، وهو الذي جعلها أكثر اتّصالاً بعلل المتكلّمين. يقول ابن جني في باب العلل العربية “اعلم أن علل النحويين (…) أقرب إلى علل المتكلّمين، منها إلى علل المتفقّهين. وذلك أنهم إنما يحيلون على الحسّ، ويحتجون فيه بثقل الحال أو خفّتها على النفس؛ وليس كذلك علل الفقه. وذلك أنها إنما هي أعلام، وأمارات، لوقوع الأحكام، ووجوه الحكمة فيها خفيّة عنا”[50].

فابن جني يقرّر في هذا النص أن علل النحويين أقرب لعلل المتكلّمين وليست مطابقة لها، والسّبب في ذلك أن علل المتكلّمين يصعب نقضها. أما علل النحاة فمن الممكن نقضها يقول ابن الأنباري في كتابه الإنصاف وهو يعرض رأي البصريين في العوامل: “وأما البصريون فاحتجوا بأن قالوا: إنما قلنا إن العامل هو الابتداء وإن كان الابتداء هو التعرّي من العوامل اللّفظية لأن العوامل في هذه الصناعة ليست مؤثّرة حسّية كالإحراق للنار والإغراق للماء والقطع للسيف، وإنما هي أمارات ودلالات، وإذا كانت العوامل في محل الإجماع إنما هي أمارات ودلالات فالأمارة والدلالة تكون بعدم شيء كما تكون بوجود شيء، ألا ترى أنه لو كان معك ثوبان وأردت أن تميز أحدهما من الآخر فصبغت أحدهما وتركت صبغ الآخر لكان ترك صبغ أحدهما في التمييز بمنزلة صبغ الآخر؟ فكذلك ها هنا”[51].

أمّا علاقة العلّة النّحوية بالعلّة الكلامية فتكمن في كون النحويين يحتجّون بالثّقل والخفّة، وهو مظهر التّشابه بين العلّتين. ومن جانب آخر يمكن أن نسجّل أنّ ابن جني لا يلغي علاقة النحاة بالفقهاء، وإنّما يقرّر أنّ هذه العلاقة دون مرتبة علاقة النحاة بالمتكلّمين. لذلك يقول في سياق آخر: “واعلم أنا –مع ما شرحناه وعُنِينا به فأوضحناه من ترجيح علل النحو على علل الفقه، وإلحاقها بعلل الكلام- لا ندعي أنها تبلغ قدر علل المتكلمين، ولا عليها براهين المهندسين؛ غير أنا نقول: إن علل النحويين على ضربين: أحدهما واجب لابدّ منه؛ لأن النّفس لا تطيق في معناه غيره. والآخر ما يمكن تحمّله؛ إلا أنه على تجشّم واستكراه له”[52]. ويقول ابن جني في نفس الباب: “فأوّل ذلك أنا لسنا ندّعي أن علل أهل العربية في سمت العلل الكلامية البتّة، بل ندّعي أنها أقرب إليها من العلل الفقهية، وإذا حكّمنا بديهة العقل، وترافعنا إلى طبيعة الحس، فقد وفّينا الصّنعة حقّها، وربأنا بها أرفع مشارفها. وقد قال سيبويه: وليس شيء مما يضطرّون إليه، إلا وهم يحاولون به وجهاً”[53].

فإذا كانت علل المتكلّمين تنبني على الحسّ، وتطلب التّخفيف فعلل النحاة كذلك. أمّا علاقة النحاة بالفقهاء في مجال التّعليل؛ فتتّضح إذا ما علمنا أنّ ما بدا من علل النحاة شبيهاً بعلل الفقهاء، إنّما هو موافق للطّبع والحسّ، وإلاّ فتعليل الفقه لا يبحث في الغايات التي من شأنها أن تكون خفيّة عن العقل البشري، وهو الأمر المُفضي إلى النتيجة الآتية: علل النحاة متقدّمة على علل الفقهاء، ومتأخّرة عن علل المتكلّمين[54]. وينبغي أن نُدخل في الاعتبار أنّ مصطلح المتكلّمين ينصرف إلى التّعليل بمعناه الاعتزالي، وذلك انسجاماً مع قناعة ابن جني المذهبية، ولا يخفى علينا أنّ المعتزلة كانوا يعتبرون العلّة مؤثراً ذاتياً؛ على خلاف الأشاعرة الذين يعتبرونها مؤثراً بفعل فاعل.

وأمّا الجانب الآخر الذي يتمثّل فيه الشّبه بين العلّتين الفقهية والنّحوية، فيكمن في كون العلّة النّحوية أمارة على الحكم؛ ولا يهمّها الوصول إلى المرامي. وقد كان القدماء يدركون العلاقة بين النّحو والفقه، كما كانوا يدركون أن طرق الاستدلال في النّحو تشبه إلى حد كبير -إن لم نقل هي نفسها- طرق الاستدلال في الفقه. وبناء عليه، استنتجنا أن التعليل النحوي –عند ابن جني وغيره من النحاة واللغويين- ما هو إلا صياغة جديدة لما كان يتردّد على ألسنة أصحاب اللّغة أنفسهم؛ كما تشهد بذلك الرّوايات[55]، بل إنّ تعليل النّحاة ليس إلا بياناً لما قام في نفوس المتكلّمين وعقولهم كما قال الخليل ابن أحمد.

ثمّ إنّ ابن جني قد تفَرَّس في العلل من وجوهها المختلفة، وبذل جهداً كبيراً في البرهنة على أن علل العربية هي من العربية، وهي ضرب من الحكمة الصّامتة التي تُستنطق بالاستخراج والتّصنيف. وحسبنا الوقوف عند أوّل باب حول العلّة في كتاب الخصائص لكي نجد ابن جني يستهلّه، بالسؤال الآتي: علل العربية أكلامية هي أم فقهية؟ وتأتي إجابته على هذا السؤال لتظهر إدراكه الصحيح للعلل النحوية، وتثبت أن تمييزها عن غيرها لا يستطيعه إلا الحذّاق المتقنين من النحويين.

 

 

المبحث الخامس: الأسس والمبادئ التي قام عليها بناء علم أصول النحو

لقد تمّ بناء علم أصول النحو بالاعتماد على الأدلّة، خصوصاً منها السّماع والقياس. فكل استدلال ينطلق من السّماع فهو الأصل الأوّل، وعليه تجرى الملاحظة والاستقراء، ثم بعد ذلك تأتي مرحلة التّجريد، وهي الانتقال من المحسوس إلى المعقول؛ سعياً وراء تعميم القاعدة على بقية المادّة اللّغوية. فالأصول التي تمّ على أساسها بناء النظام النحوي هي السّماع والقياس والتّعليل.

فالسّماع هو الدّليل الإجمالي الأوّل الذي أجرى عليه اللّغويون العرب -ومنهم ابن جني- استقراءهم، واعتبروه من أهم الأدلّة على الإطلاق وإليه يُرجع في حالة تعارض دليلين. وقد تمّ تحديد مصادر السّماع في القرآن والحديث وكلام العرب. والملاحظ أن مراتب هذه المصادر تتفاوت في قيمتها من حيث الاستشهاد. ثم إنّ التّصرّف اللّغوي عند العرب كان محدوداً بشروط تاريخية معيّنة هي التي أملت عليهم ما فعلوه.

وبما أنّ اللّغة تستعصي على الحصر، ولا يمكن أن تكون كلها نقلاً بحكم تجدّدها وتطوّرها، اُلْتجأ اللّغويون -ومن بينهم ابن جني- إلى ضرورة استعمال القياس الذي اعتبُر أداة منهجية لتجريد قواعد الكلام وأحكامه النحوية. والملاحظ أن ابن جني يقدّر السّماع والقياس على حدّ سواء، إذ يجعلهما أصلين قويين، فهو يرى أنّ القياس لا يكون إلا على المطّرد الشّائع، وأساس الاطّراد عنده هو موافقة الشيء لنظائره الكثيرة في اللّغة وشيوع استعماله بين العرب.

ويبدو أنّ القياس عند ابن جني منهج متكامل له قوانينه الخاصّة به. وقد تبيّن أنّ ابن جني ذو ذوق متفرّد وصاحب منطق مقبول في اختياره للقياس الأفضل، وتمتاز طريقته في تتبّع القياس وتوسيع البحث في المسألة الواحدة، ولا يُصدر أحكامه إلا بعد التحليل وبعد استنطاق آراء النحاة قبله. وإذا تعارضت هذه الآراء حول المسألة الواحدة؛ وكان لكلّ رأيٍ دليلُه برز شخص ابن جني -العالم المجتهد- ليرجّح الرّأي الذي بدا له أقوى دليلاً من غيره مُعتمداً في ذلك على على قوّة الرّواية وما سُمِع عن العرب، ومبيّناً العلاقة القائمة بين السّماع والقياس كأصلين متكاملين فيما بينهما. إلاّ أنّه في حالة تعارضهما يطرح القياس ويتمسّك بالسّماع، لأنّ الهدف من القياس –غالباً- هو تمكين غير الناطقين بالعربية من النطق بها.

أمّا مبدأ التّعليل فقد عُقِدت له في الخصائص أبوابٌ كانت أشبه بآراء ونظريات، وأُشبع مبحث العلَّة دراسة نظرية. ويعتبر الخليل بن أحمد من أوّل علماء العربية السبَّاقين إلى الإشارة إلى التّعليل، وهو أعرق الأصول وأقدم الطّرق المنهجية التي التجأ إليها النحاة الأوائل لتفسير أسباب الظّواهر اللّغوية، والبرهنة على ما يوجد بينها من علائق وتناسق. كما اعتبر مبدأ العلّية محورًا مركزيًا في بناء النحو العربي ونظامه على الخصوص؛ لذلك كان النحوُ كلّه عوامل. فبالعلّة سعى النحاة إلى تفسير شامل للظّواهر اللّغوية، وبواسطتها تمكّنوا من جمع معطيات للمقارنة بينها، واستنباط حكم يعمّها أو قاعدة تجمع شتاتها. وبالعلّة أيضا تَسَنَّتْ ممارسة القياس باعتباره وسيلة للتّعميم.

ولم يكن النحاة العرب ليصلوا إلى تعميم الأصول التي جرّدوها إلّا بالاعتماد على العلّة النحوية؛ لأنّها رابطة بين الحسّي والعقلي، أو بعبارة أخرى: العلّة هي الصّفة التي تجعل حكم الأصل ينتقل إلى الفرع؛ أو تجعل بين المنقول وغير المنقول علاقة معيّنة. وبذلك تمكَّن النحاة من إيجاد تفسير سببي شامل للحالات الفردية التي تنطوي على قوانين عامّة، وتنتظم فيها كل المتغيرات. وبهذا انتهوا إلى نظرية العامل لتفسير أواخر الكلمات في السياق؛ فما العامل إلا مظهر من مظاهر التّعليل.

ولقد بحث ابن جني في طبيعة علل العربية أعقلية هي أم نقلية، وصرّح بأنّ العرب قد راعوْا في إهمال ما أهمل ما أدركه النحويون أنفسهم، وفرّق بين العلّة الموجبة التي عليها مَقادُ كلام العرب، وبين العلّة المجوّزة أو السّبب غير الموجب، وتكلّم عن تعارض العلل، واشترط تعدّي العلّة لكي تصح، وردّ على من اعتقد فساد علل النحويين، ثمّ أكّد من جديد أنّ العرب أرادت من الأغراض والعلل ما نسبه إليها النحويون وحملوه عليها، وذلك أدلّ على حكمتها من أن تُنسب إلى التكلُّف. فـ”العرب قد عللوا لنطقهم، ومن حقّ النحاة أن يأخذوا عنهم ما عللوا به”[56].

وتجدر الإشارة إلى أنّ لابن جني تصوّر خاصّ لمعظم الأصول النحوية؛ فهو يعتبر السّماع –مثلاً- آليةً منهجيةً تُوظّفُ لتوليد القواعد وإنتاج الأحكام والأوصاف في اللّغة إلى جانب القياس. وبذلك لم يعُد ممكناً اعتبار كلّ متكلّم لغوي مستمعاً لغوياً في نظره؛ خصوصاً حين اشترط توفّر بعض الخصوصيات في مواصفاته الضّرورية مثل: العلم والمعرفة المؤسّسين على الفصاحة وسلامة السّليقة.

ثمّ إنّ من يتأمّل رؤية ابن جني للأصول يدرك -تمام الإدراك- أنّها قد ارتبطت باستقراء المادّة اللّغوية، فهو لم يلتزم –في مسألة السّماع مثلا- بــ”المسموع” و”المنقول” فقط؛ بل تجاوز الأمر إلى ما وراء ذلك؛ إذ اعتبره أداةً نظرية وآلية منهجية تُوظّف لتوليد القواعد والأحكام والأوصاف إلى جانب القياس.

وهذا يدعو إلى القول بكثير من الثقة: إنّ علم أصول النحو في كتاب الخصائص قد بلغ ذروة نمائه وتطوّره بتكامل صورة البحث النحوي على يدي صاحبه، حتّى إنّ الأسس التي قام عليها نشاط من تلاه من اللّغويين والأصوليين من النحاة لم ينلها من التّعديل إلا النّزر القليل؛ فأغلب من تلا ابن جني طبّق الطرائق التي كانت أدواته في البحث، ولم يكن خلافاً في هذه الطرائق نفسها، وهذا يدلّ على أنّ ابن جني قد أوتي قدرة لغوية متميّزة وملكة نحوية منقطعة النّظير؛ حتّى أصبح تأثيره في لاحقيه، وأستاذيته لهم، وتعظيمهم لطريقته في التّنظير والتّفكير من الحديث المُعاد[57].

المبحث السادس: صلة أصول النحو بأصول الفقه

 

 

 

 

 

* تمت الاستعانة – في تركيب خطاطات هذا المبحث- بمقالة جمال الدين مصطفى، بعنوان: رأي في أصول النحو وصلته بأصول الفقه، مجلة تراثنا، العدد: 15.

الفصل الثاني:أهمية أصول النحو (الاستحسان) في فهم الإعجاز القرآني من خلال (الخصائص) و(دلائل الإعجاز).

 المبحث الأول: تصور ابن جني للمجتهد المبدع في علم العربية من خلال بلورته لدليل الإجماع

يمكن القول إنّ ابن جني قد فتح باب الاجتهاد على مصراعيه؛ حين أباح مخالفة إجماع أهل العربية؛ إذ أكّد غير ما مرّة –في ثنايا كتابه الخصائص- أن إجماعهم لا يكون حجّة دائماً، وذلك “أنه لم يرد ممن يطاع أمره في قرآن ولا سُنّة أنّهم لا يجتمعون على الخطأ، كما جاء النّص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم من قوله: “أمتي لا تجتمع على ضلالة” وإنما هو علم منتزع من استقراء هذه اللغة. فكل من فرق له عن علة صحيحة، وطريق نَهْجَةٍ[58] كان خليل نفسه، وأبا عمرو فكره”[59].

فابن جني يُفرِّق بين الإجماع في أصول النحو والإجماع في أصول الفقه؛ فهذا الأخير منصوص على كونه حجّة، أمّا الأوّل فباب الاجتهاد فيه مفتوح لكل من استطاع أن يقدّم تعليلاً مقبولاً؛ أو تبريراً صحيحاً أو أن يسلك طريقاً واضحة وبيّنة؛ إلا أنّ ابن جني لا يُبيح مخالفة الإجماع بصفة دائمة؛ لذلك يستطرد قائلاً: “إلّا أنّنا –مع هذا الذي رأيناه وسوَّغنا مُرتكَبه– لا نسمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة التي قد طال بحثُها، وتقدَّم نظرها، وتتالت أواخِرَ على أوائلِ، وأعجازا على كلاكِل (…) إلاَّ بعد أن يناهضه إتقانا ويثبته عِرفانا، ولا يُخْلد إلى سانح خاطره، ولا إلى نَزْوَةٍ من نَزَواتِ تفكّره. فإذا هو حذا على هذا المثالِ، وباشر بإنعام تصفُّحه أحناء الحال، أمضى الرأي فيما يريه الله منه غير معاز به، ولا غاضّ من السَّلَف -رحمهم الله– في شيء منه. فإنه إذا فعل ذلك سُدِّدَ رأيه. وشُيِّع خاطره، وكان بالصواب مِئَنَّة، ومن التوفيق مظنَّة”[60].

وإذا تمّ التأمّل في مضامين هذا النص يمكن الخروج بتصوّر ابن جني للمجتهد المبدع في علم العربية؛ إذ يشترط فيه عدّة ميزات علمية ومنهجية وأخلاقية متنوّعة. فباب الاجتهاد الذي فتحه (أو وجده مفتوحاً) لا يدخل منه كل من هبّ ودبّ، ولكن لا بدّ لمن رام الولوج في غمار العربية، والغوص في بحر علمها من أن تتوفر فيه مواصفات معيّنة.

ويظهر جلياّ أنّ ابن جني يُساهم -بنصه هذا- في بناء وصناعة العالم المجتهد المتفوِّق والموفَّق الذي يُسْمح له بالإقدام على مخالفة الجماعة؛ اختلاف تنوع لا سبيل فيه إلى الاعتراض أو المطاولة.

وهكذا فـ”للإنسان أن يرتجل من المذاهب ما يدعو إليه القياس، ما لم يُلْوِ[61] بنصّ أو ينْتهك حُرْمة شرع”[62]. و”أنه إذا أداك القياس إلى شيء ما، ثم سمعت العرب قد نطقت فيه بشيء آخر على قياس غيره، فدع ما كنت عليه إلى ما هم عليه. فإن سمعت من آخر مثل ما أجزته فأنت فيه مخير: تستعمل أيهما شئت. فإن صح عندك أن العرب لم تنطق بقياسك أنت كنت على ما أجمعوا عليه البتة، وأعددت ما كان قياسك أداك إليه لشاعر مولد، أو لساجع، أو لضرورة؛ لأنه على قياس كلامهم. بذلك وصى أبو الحسن”[63].

ولم يدْعُ ابن جني إلى الاكتفاء بنقل آراء السّابقين فحسب؛ بل طالب بتناولها بالدّرس والنّقد والتّوجيه، وذلك بعقلية العالم البصير والمفكّر القدير والمنظّر الخبير. وهكذا نجده يقول في أحد نصوص الخصائص: “ومعاذ الله أن جميع اللّغة تُستدرك بالأدلّة قياساً، لكن ما أمكن ذلك فيه قلنا ونبهنا عليه، كما فعله من قبلنا ممن نحن له متبعون وعلى مثله وأوضاعه حاذون”[64].

ويقول ابن جني في نصّ آخر: “فالخلاف إذن بين العلماء أعمّ منه بين العرب وذلك أن العلماء اختلفوا في الاعتلال لما اتفقت العرب عليه كما اختلفوا أيضا فيما اختلفت العرب فيه، وكل ذهب مذهباً وإن كان بعضه قويا، وبعضه ضعيفا”. ويقول في نصّ آخر: “نعم، وإذا كانت هذه المناقضات والمثاقفات[65] موجودة بين السلف القديم، ومن باء فيه بالمنصب العمي، ممن هم سُرُج الأنام، والمؤتم بهديهم في الحلال والحرام، ثم لم يكن ذلك قادحا فيما تنازعوا فيه، ولا غاضا منه، ولا عائدا بطرف من أطراف التبعة عليه، جاز مثل ذلك أيضا في علم العرب، الذي لا يخلص جميعه للدين خلوص الكلام والفقه له، ولا يكاد أهله الأنق به، والارتياح لمحاسنه (…) وهم عيار هذا الشأن، وأساس هذا البنيان”[66].

ويظهر من خلال استكناه مضامين هذا النصّ أنّ الخلاف النحوي لا يوجد فقط بين المدارس النّحوية، ولكن بين المدرسة الواحدة، لأنّ النّحاة واللّغويين لم يبلغوا مبلغ بعض الأصوليين والمتكلّمين الذين كفّروا منكري الإجماع.

وتجدر الإشارة إلى أنّ ابن جني يقدّم لقارئ الخصائص تصوّراً متميزاً للمجتهد المبدع في علم العربية؛ إذ يشترط فيه مجموعة من الصّفات الأخلاقية والميزات العلمية والمواصفات المنهجية. فالمجتهد عنده هو ذلك العالم المقتدر، والمنظّر الكبير الذي يستطيع بجرأته العلمية، وخبرته المعرفية أن يؤسّس بناء تأمّلاته، ويشيّد صرح اجتهاداته على ثلاثة أصول ثابتة وهي:

  • التمسّك بأدب الاختلاف مع الأسلاف.
  • امتلاك معرفة السابقين، وتمثُّل أفكارهم.
  • استشراف مستقبل أفضل للعلم الذي يُرام الاجتهاد فيه.

وبذلك لا بغيره يصل المجتهد المبدع –في نظر ابن جني- إلى ذروة الإنجاز، ويرتقي إلى قمّة الإبداع. وذلك بتطوير الآراء والأفكار السابقة؛ بل وتجاوزها في كثير من الأحيان.

ونستنتج ممّا سبق أنّ ابن جني قد استطاع -بتأليف كتابه الخصائص وغيره من المؤلّفات الرّائدة- أن يجعل من نفسه هو الآخر عالماً مجتهداً؛ إذ طوّر معارف سالفيه بعدم الاكتفاء بآرائهم وما جاء في مصنّفاتهم؛ فهو لم يعتبر كتاب سيبويه قرآناً؛ بل أثنى عليه في مواطن الثّناء، واستدرك عليه في مواطن كثيرة من خصائصه، ولم يمنعه اعترافه بفضل أستاذه أبي علي الفارسيّ، وتصريحه بالإعجاب بعلمه وشخصيته؛ من الاستطراد عليه في أماكن عديدة من مؤلَّفه؛ بل والتّفوّق عليه في مسائل وقضايا مختلفة.

ولقد اعتبر ابن جني مسألة الاغتراف من علوم السابقين، وتمثّل معارفهم، وتوصيل تجاربهم للاحقين هو قطب مدار العلم البشري على امتداد الزمان والمكان، “ولذلك قيل: لا يزال الناس بخير ما بقِيَ الأوَّلُ يتعلم منه الآخِرُ”[67].

و”قال أبو عثمان عمرو بن بَحْر الجاحظ: ما على الناس شيء أضرَّ من قولهم:

ما ترك الأوَّلُ للآخِرِ شيئاً (…) وقال الطائي الكبير:

يقول مَن تطرُق أسْمَاعَهُ  ***  كَمْ تَرَك الأوّلُ للْآخِرِ!

ويدحض ابن جني هذا القول الأخير برأي أبي عثمان المازني الذي يؤكّد فيه أنّه: “إذا قال العالم قولا متقدما فللمتعلم الاقتداء به والانتصار له، والاحتجاج لخلافه، إن وجد إلى ذلك سبيلا”[68].

وقد كانت لابن جني آراء متفرّدة وتأمّلات متميّزة في مسائل لغوية ونحوية كثيرة؛ خالف بها إجماع علماء العربية، يقول -في باب القول على إجماع العربيَّة متى يكون حُجَّة-: “فـممّا جاز خلافُ الإجماع الواقعِ فيه منذ بُدِئ هذا العلم وإلى آخر هذا الوقت، ما رأيته أنا في قولهم: هذا جُحْر ضَبٍّ خَربٍ. فهذا يتناوله آخِرٌ عن أوّلٍ، وتالٍ عن ماض على أنه غـَلَط من العرب، لا يختلفون فيه ولا يتوقـّفون عنه، وأنه من الشاذّ الذي لا يُحمل عليه، ولا يجوز ردّ غيره إليه. وأما أنا فعندي أن في القرآن مثل هذا الموضع نيـِّفاً على ألف موضع. وذلك أنه على حذف المضاف لا غير[69].

ويقول في باب في الردّ على من اُدّعى على العرب عنايتَها بالألفاظ وإغفالَها المعاني: “وسألت أبا عليّ –رحمه الله- عن تِجفافٍ أتاؤه للإلحاق بباب قِرطاس؟ فقال نعم. واحتجّ في ذلك بما انضاف إليها من زيادة الألِف..”[70]. ثم يعقب ابن جني على كلام أستاذه قائلا: “ويبعد هذا عندي[71]. ثم يبدأ في الكشف عن رأيه كالآتي: “لأنّه يلزم منه. أنّ باب إِعصارٍ وإِسنامٍ ملحَقا بباب حِدْبارٍ وهِلقامٍ، وباب إفعالٍ لا يكون ملحَقا؛ ألا ترى أنه في الأصل للمصدر؛ نحو إكرام، وإِحسان، وإجمال، وإنعام، وهذ مصدر فِعْلٍ غير ملحَق، فيجب أن يكون المصدر في ذلك على سمت فعله غير مخالف له..”[72].

ولقد اتّضح جليّاً أنّ ابن جني قد قام بجمع ما تشتّت من كلام القدماء، وحاول صياغة نظرية تنسحب على معظم الظّواهر اللّغوية، لذا بلغ كلامه من النُّضج ما فاق به أسلافه وأقرانه، وفي موضوع الاشتقاق -الذي تخصّص فيه- من الجدّة ما لم يسبق إليه.

ويمكن الجزم بأنّ ابن جني عالم مجتهد في مجال اللّغة والنّحو والأدب تمكّن من كشف أبعاد مختلفة لظواهر لغوية ونحوية وبلاغية لم تكن معروفة لدى سابقيه. وقد شكّلت معرفة ما يتعلّق بأسرار العربية جزءاً جوهرياً من اهتمامه، وربّما يلتقط الإشارة أو العبارة يعتقد غيرُه أنّها من البديهيات؛ فيواجهها هو مواجهة تحليل وتقييم وتوجيه تنمّ عن خصوصية رفيعة وعالية في تناول الأشياء. ويبقى ما أتى به ابن جني من استدراكات على العلماء، وابتداع لبعض المصطلحات اللّغوية والنحوية مؤكّداً على مبدأ التفرّد والابتداء.

وإذا كان هذا حال ابن جني مع أسلافه، وهو من هو رجاحة عقل ورحابة فكر وغزارة معرفة، كيف يكون الحال معه ونحن القطرة في بحر علمه؟ وما الموقف ممّا قدّمه وما زال يقدّمه لعلم العربية؟ وكيف يمكن قراءته وتأمّله كتراث –بعيون العصر الحالي- له وجوده المتميّز؟ خصوصاً وأنّه ما زال يطرح نفسه للتدبّر والنّقاش بصفة مستمرّة، وما زال نصّ كتابه الخصائص يتجدّد عبر العصور، ويحمل في طياته بذور الكثير من الأفكار الحديثة المصاغة بلغة قديمة؟

إنّ طرح أسئلة من هذا القبيل يمكّن من الاستفادة من التّراث اللّغوي، ومن أسئلته ولحظاته الإبداعية بشكل عميق ومتّسع؛ خصوصاً وأنّه يمكن اعتبار ابن جني وحده تراثاً لغوياً مستقلّاً بذاته، يمكن الاغتراف من معارفه العلمية العديدة، والمبثوثة في كتابه الخصائص على مستوى واسع النّطاق[73].

ويتّضح جليّاً أنّ من فضائل ابن جني أنّه كان جسراً ممتداً بين من سبقه وبين من أتى بعده؛ فلقد نقل علوم السابقين نقلاً فيه إبداع وإضافة وتقليب نظر إلى اللّاحقين الذين كان على رأسهم عبد القاهر الجرجاني؛ هذا الذي امتلك القدرة على تطوير علم أصول النّحو بالكشف عن مركزيته في عملية الإبداع اللّغوي والأدبي، وبذلك شكّل انعطافة كُبْرى في مسار علم اللّغة العربي[74].

ولقد انتهج صاحب الدلائل –في الغالب الأعم- نفس السبيل التي سلكها ابن جني في معالجة الكثير من الظّواهر اللغوية والقضايا البلاغية، وعرج على جوهر الأفكار التي وقف عندها صاحب الخصائص؛ مما يُثبت أنّ الجرجاني قد وقف على الكثير من آراء ابن جني في العديد من القضايا واستمدّ منه، وهذا –في نظري- استنتاج لا يقبل الردّ. ولعلّ الدّارس الباحث –لو دقّق النظر- يجد الكثير من الأمثلة التي يمكن حملها على كيفية خاصّة من التّناص بين الرجلين؛ إذ يصدران غالباً عن أفكار متقاربة وأصول معرفية متشابهة.

 

المبحث الثاني: دور دليل الاستحسان في عملية إغناء اللغة وتطويرها

يتّضح للمتأمّل في تصوّر ابن جني للأصول المودعة في الخصائص أنّ عمل الرّجل لم يقتصر على تقديم أصول النّحو بصفتها مراجع يرجع إليها خلاف الفروع[75]؛ بل تجاوز الأمر إلى ما وراء ذلك؛ حين ركّز على إبراز صفتها النظرية والمنهجية[76]، واجتهد في الكشف عن دورها الرّائد في عملية إغناء اللّغة وتطويرها.

وبذلك يظهر أنّ لابن جني تصوّر خاصّ لمعظم أصول النحو، إذ يعتبر السّماع –مثلاً- آليةً منهجيةً تُوظّفُ لتوليد القواعد وإنتاج الأحكام والأوصاف في اللّغة إلى جانب القياس. وبذلك لم يعُد ممكناً -في نظر ابن جني- اعتبار أيّ متكلّم لغوي مستمعاً لغوياً؛ خصوصاً حين اشترط فيه مجموعة من المواصفات الضّرورية مثل: العلم والمعرفة المؤسّسين على الفصاحة وسلامة السّليقة[77].

وقد اشترط ابن جني نفس الشّرط (الفصاحة والمعرفة) في العالم الذي يقوم بالعمليات الاستدلالية الأخرى، والتي اختلف علماء العربية في الأخذ بها مثل الإجماع والاستحسان وغيرهما؛ إذ مثّل دليل الاستحسان –مثلا- بالنّسبة لابن جني نوعاً من الاتّساع والتّصرّف الذي يُستخدم لإبداع صيغ جديدة ومبتكرة في العربية.

لهذا كلّه قدّم ابن جني دليل الاستحسان بكونه ضرباً من شجاعة العربية، ونوعاً من الاتّساع والتّصرّف الذي ساهم بشكل كبير في عملية إغناء اللّغة وتطويرها؛ لأنّه يمكّن المتكلّم اللّغوي من الجرأة على ابتكار الصيغ التعبيرية المختلفة، ويساعده على إبداع الأساليب الشّعرية المتنوّعة بالاعتماد على الرأي والذّوق؛ شريطة أن يكون عالماً بالعربية وعارفاً بأساليب تصرّف أهلها.

ولقد افتتح ابن جني “باب الاستحسان” بأن أقرّ “أن علّته ضعيفة غير مستحكِمةٍ”، غير أنّه بيّن الفائدة العملية منه وهي: “أنّ فيه ضرباً من الاتّساع والتصرّف”[78]. يقول ابن منظور في معجمه لسان العرب مبيّناً المعنى اللغوي لهذا المفهوم: “يستحسن الشيء يعدّه حسنًا”[79]. وقد استعمل هذا المصطلح الفقهي في مجال أصول الفقه، وهو أحد الأدلّة الفقهية عند الحنفية.

يقول علي بن محمد بن علي الحسيني الجرجاني الحنفي (ت816ه) في كتابه التعريفات: “الاستحسان

في اللّغة: هو عدّ الشيء واعتقاده حسنًا،

واصطلاحًا: هو اسم لدليل من الأدلّة الأربعة، يعارض القياس الجلي، ويعمل به إذا كان أقوى منه، سموه بذلك؛ لأنّه في الأغلب يكون أقوى من القياس الجلي، فيكون قياسًا مستحسنًا، قال الله تعالى: “فَبَشِّرْ عِبَادِ، اُلَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ اُلْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ” [الزمر: 18]. وترك القياس والأخذ بما هو أرفق للناس”[80].

ويضيف نصر الدين تونسي[81] “الاستحسان في اللغة: هو عد الشيء حسناً، وضدّه الاستقباح. وفي علم أصول الفقه، عرّفه بعض الحنفية بأنه: اسم لدليل يقابل القياس الجلي، يكون بالنص، أو الإجماع، أو الضرورة، أو القياس الخفي، كما يطلق عند الحنفية –في كتاب الكراهة والاستحسان- على استخراج المسائل الحسان، فهو استفعال بمعنى إفعال، كاستخراج بمعنى إخراج، قال النجم النسفي: فكأنّ الاستحسان هاهنا إحسان المسائل، وإتقان الدلائل”[82].

وذكر علي النجّار أن في تحديد مفهوم الاستحسان اختلافاً كثيراً ثم أورد قول “السعد في حاشيته على شرح العضد لمختصر ابن الحاجب 2/289: <<اعلم أن الذي استقرّ عليه رأي المتأخرين هو أن الاستحسان عبارة عن دليل يقابل القياس الجليّ الذي تسبق إليه الأفهام>>”[83]. “وقد عرض السيوطي في الإقتراح للاستحسان، ونقل فيه بحث ابن جني في هذا الكتاب، ونقل عن ابن الأنباريّ الخلاف في الأخذ به في العربية”[84].

والمُلاحظ هو أنّ ابن جني قد وظّف مفهوم الاستحسان لتعليل ظواهر لغوية يرتبط أغلبها بمسألتي الإعلال والإبدال، وقسّمه إلى عدّة أنواع نذكر منها:

ترك الأخف إلى الأثقل، نحو: ألفاظ منها الفتوى والتقوى والشروى، ذلك أن هذه الألفاظ بوزن “فعلى” ويأتي هذا الوزن في العربية في الأسماء والصّفات. وأصل صيغة هذا الوزن أن يكون بالياء لا بالواو، ولكن العرب قلبوا الياء واواً “من غير استحكام علّة أكثر من أنهم أرادوا الفرق بين الاسم والصفة”[85].

و”يفيد الاستحسان في النص السابق، اتّساع نسق اللغة لاحتواء صيغ على غير قياس ومن دون علة قوية تسوغ استعمالها، غير استحسان الفصحاء لها”[86]. ويظهر لنا جلياً وكأنّ الاستحسان ضرب من القياس الخفي يلجأ إليه الفصحاء لإغناء اللغة. ولا يخالفنا ابن جني في ذلك، حين يقول: “إن العربي إذا قويت فصاحته وسمت طبيعته تصرّف وارتجل ما لم يسبق إليه”[87].

ومن الاستحسان إلحاق نون التوكيد اسم الفاعل تشبيهاً له بالفعل المضارع كقول الراجز:

أريت إن جئت به أملودا  ***  مرجلاً ويلبس البرودا

*  أقائلن أحضروا الشهودا *

والشاهد فيه (أقائلن)، إذ ألحقت نون التوكيد اسم الفاعل “لا عن قوة علة ولا استمرار عادة”، فهو إذن من الاستحسان.

وهناك نوع آخر من الاستحسان يتمثل في قلب الواو ياءً إذا وقع ساكن بين الكسرة والواو، نحو صبية وقنية، والأصل فيهما: صبوت، وقنوت[88].

ويؤكّد بعض الدّارسين المعاصرين[89] أنّ الاستحسان علّة استخدمها ابن جني في تأويله لظواهر اللّغة، واُلْتِمَاسه للحكمة الكامنة خلف ما تتّسم به من اتّساع. فالاستحسان هو ذلك الحكم المعتمد على الرّأي والذّوق الصّادرين عن عالم عارف، وهو في تصوّر ابن جني ضرب من التصرّف اللّغوي المؤسّس على فصاحة الشاعر وسموّ طبعه، إذ لا يجوز -في اعتقاده- أن يُقبل من ظنين ضعيف.

ويبقى الطابع الذي يميز الصيغ التعبيرية المستحسنة هو أنّها تجري على غير قياس. فهي تجافي القواعد الأصلية من غير علّة تسوغها، وهذا يفيد أنّ نسق اللغة العربية يتّسع لضروب من التصرّف استحسنها الفصحاء واستجادها البلغاء.

إنّ دليل الاستحسان وثيق الصّلة بشجاعة العربية، وهما معاً يكشفان عن طاقة العربية في توليد الإمكانات التعبيرية التي يلوذ بها الشّعراء. ولا يخفى علينا اعتداد ابن جني هنا بالذّوق والطّبع فيما يسمّى الإبداع اللّغوي، وهي فكرة سيكون لها آثار في تصوّره لعلاقة الشاعر باللغة فيما أسماه بالإصلاح؛ ويرى محمد مشبال أن هذا المفهوم يلتقي في أبعاده البلاغية والجمالية بمفهوم النظم الذي يشكل محور نظرية عبد القاهر الجرجاني.

ويظهر مما سبق تقديمه ومناقشته، أن غرض ابن جني الأساس هو إظهار وجوه حكمة اللغة العربية وشرفها. ويشعر قارئ الخصائص أن شغف صاحبه بالعربية ليس سوى ترجمة لإعجاب أصحاب اللّغة أنفسهم بلغتهم. يقول ابن جني: “والمروي عنهم في شغفهم بلغتهم وتعظيمهم لها واعتقادهم أجمل الجميل فيها أكثر من أن يورد أو جزءٌ من أجزاء كثيرة منه”[90]. لقد نصّب ابن جني نفسه عالماً مجتهداً، حمل على عاتقه مسؤولية تبيان مَكَامِن هذا الشّغف وإظهار أسراره؛ فكان نتيجة ذلك أن قام ببلورة وتطوير كثير من المبادئ والأصول التي تعكس “الأدلة على ما أودعته هذه اللغة الشريفة: من خصائص الحكمة[91]، وما نيطت به من علائق الإتقان والصنعة”[92].

 

المبحث الثالث: دور الاستحسان في إدراك مدارج الإعجاز القرآني ومنازله

ويبقى دليل الاستحسان من الأصول المعتبرة التي أسّس عليها عبد القاهر الجرجاني نظريته في النّظم إلى جانب أصول أخرى مثل الإصلاح وغيره؛ لذلك سنعرض للعديد من النّصوص المتناثرة في الدلائل؛ حتّى نتبيّن مركزية دليل الاستحسان في إدراك مدارج إعجاز القرآن الكريم ومنازله.

وهكذا يتمظهر دليل الاستحسان في الدّلائل بصفته باباً من أبواب العلم “إذا أنت فتحته اطّلعت منه على فوائد جليلة، ومعانٍ شريفة، ورأيت له أثراً في الدين عظيماً وفائدةً جسيمة، ووجدته سبباً إلى حسم كثيرٍ من الفساد فيما يعود إلى التّنزيل وإصلاح أنواعٍ من الخلل فيما يتعلّق بالتأويل”[93].

وتتمثّل فائدته ووظيفته في كونه “يؤمّنك من أن تغالط في دعواك، وتدافع عن مغزاك، ويربأ بك عن أن تستبين هدًى ثم لا تهدي إليه، وتدل بعرفانٍ ثم لا تستطيع أن تدل عليه، وتقول: “قد نظرتُ فرأيتُ فضلاً ومزيَّةً، وصادفتُ لذلك أريحيَّةً، فاُنظر لتعرفَ كما عرفتُ، وراجع نفسك، واُسْبُر وذُقْ، لتجد مثل الذي وجدتُ”، فإن عَرَف فذاك، وإلا فبينكما التَّنَاكُر، تَنْسِبُهُ إلى سوء التأمُّل، ويَنْسِبُك إلى فساد في التخيُّل”[94].

ثم يبرز عبد القاهر الجرجاني أهمية “الاستحسان” وقيمته وفضله بكونه على الجملة بحثًا “يَنْتَقِي لك من علم الإعراب خالصَه ولبَّه، ويأخذ لك منه أناسيَّ العيون وحبَّاتِ القلوب، وما لا يدفعُ الفضلَ فيه دافعٌ، ولا ينكر رُجْحانه في موازين العقول مُنْكر”[95].

وإذا تأمّلنا في مضامين هذه النّصوص تبيّن لنا أنّ تصوُّر عبد القاهر الجرجاني لمفهوم الاستحسان يوافق إلى حدٍّ كبير تصوُّر ابن جني؛ فالاستحسان –عنده- هو ذلك الحُكْم المُعتمِد على الرّأي والذّوق، والمُستند إلى دليلٍ، والصّادر عن عالم عارف.

يقول الإمام عبد القاهر: “وجملة الأمر (…) أن ههنا دقائق وأسراراً طريقُ العِلم بها الرَّوِيَّة والفِكْرُ، ولطائف مُسْتقَاها العقل، وخصائصُ معانٍ ينفرد بها قومٌ قد هُدُوا إليها، ودُلّوا عليها، وكُشِف لهم عنها، ورُفِعَت الُحُجُبُ بينهم ويبنها، وأَنَّها السببُ في أن عَرَضت المزِيَّة في الكلام، ووجب أن يَفْضُل بَعضه بعضاً، وأن يَبْعُد الشَّأْوُ في ذلك، وتمتدَّ الغاية، ويَعْلُوَ المرتقى، ويَعزَّ المطلب، حَتَّى ينتهي الأمر إلى الإِعجازِ، وإلى أن يخرج عن طَوْق البشر”[96]. 

والمُلاحظ أنّ الإمام عبد القاهر الجرجاني يُساهم –بنصّه هذا- في بناء وصناعة العالم المجتهد الذي يُسْمح له بالإقدام على ممارسة عملية الاستحسان. فباب الاستحسان المفتوح في كتاب “دلائل الإعجاز”؛ لا يدخل منه كلّ من هبّ ودبّ، ولكن لا بدّ لمن رام ولوجه من أن تتوفّر في شخصه عدّة مواصفات علمية ومعرفية معيّنة.

ويتّضح جليّاً أنّ الإمام عبد القاهر الجرجاني يحاول بناء تصوّر متميّز للمجتهد المبدع في علم العربية من خلال بلورته لدليل الاستحسان، وهو بذلك يقتفي خطوات ابن جني الذي فتح باب الاجتهاد على مصراعيه؛ حين طوّر مفهوم الإجماع، واجتهد في إبداع تصوّر خاصّ به.

وقد بالغ الإمام عبد القاهر الجرجاني في الكشف عن أهمية الإدلاء بالدّليل في القيام بعملية الاستحسان[97] في معرض حديثه عن دليل إعجاز القرآن الكريم حين قال: “وجملة ما أردتُ أَن أبيِّنه لك: أنه لا بد لكل كلام تستحسنه، ولفظ تستجيده، من أن يكون لاستحسانك ذلك جهة معلومةٌ وعلةٌ معقولةٌ، وأن يكون لنا إلى العبارة عن ذاك سبيل، وعلى صحة ما ادّعيناه من ذلك دليل”[98].

ويصرّح الإِمَام الفقِيهِ الأُصُولي أبو الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي بأنّه “لا فرق بين استحسان العامِّي والطِّفل والعالِمِ إلاَّ من جهة الدَّليل، وقد أجمعنا على استحسان العامِّي والطِّفل لا يجوز الحكم به؛ لأنَّه حكم عن غير دليل، فكذلك استحسان العالم إذا صدر عن غير دليل”[99].

يقول الإمام عبد القاهر “وإذْ قد عرفتَ ذلك، فَاُعْمِد إلى ما تواصفوه بالحسن، وتشَاهدوا له بالفضل، ثم جعلوه كذلك من أجل “النظم” خصوصاً، دون غيره مما يُسْتَحْسَنُ له الشعر أو غيرُ الشعر، من معنى لطيف (…) أو غير ذلك مما لا يدخل في النظم، وتأمَّلْه، فإذا رأيتَكَ قد ارتحتَ واهتززت واستحسنت، فاُنظر إلى حركات الأَرْيَحيَّة ممَّ كانت؟ وعندمَا ذَا ظهرت؟ فإنك ترى عِياناً أَن الذي قلتُ لك كما قلت”[100].

ويظهر -في النّص الموالي- أنّ للاستحسان درجات ومنازل؛ بل ربَّما أضحى الإعجاز أرقى درجات الاستحسان وأعلى منازله. يقول الإمام عبد القاهر في معرض حديثه عن سبب تأليف دلائل الإعجاز: “وأَنه كما يَفْضُل هناك النظمُ النظمَ، والتأليفُ التأليفَ، والنسجُ النسجَ، والصياغةُ الصياغةَ، ثم يَعْظُم الفضلُ، وتكثُر المَزِيَّة، حتى يفوقَ الشيء نظيرَه والمجانسَ له درجاتٍ كثيرةً، وحتى تتفاوت القِيَمُ التفاوتَ الشديد، كذلك يفْضُل بعض الكلام بعضاً، ويتقدَّم منه الشيءُ الشيءَ، ثم يزدادُ فضلُه ذلك ويترقى منزلةً فوق منزلةٍ، ويعلو مَرْقَباً بعد مَرْقَبٍ، ويُستَأنَفُ له غاية بعد غايةٍ، حتى ينتهي إلى حيث تنقطع الأطماع، وتَحْسَرُ الظنون، وتسقطُ القُوَى، وتستوي الأقدامُ في العَجْز”[101].

ويظهر للنّاظر في تصوّر الإمام عبد القاهر لمفهوم الاستحسان أنّ المُسْتحْسِن (العالم المؤهّل للإقدام على القيام بعملية الاستحسان) يجب أن يكون مجهّزاً بآليات معرفية، ومسلّحاً بتقنيات منهجية تؤهّله للقيام بهذه العملية المتميّزة. فقد كان يدرك -تماماً- أنّ الاستحسان من عمل المتكلّم، ولعلّ هذا ما جعل مهمّته تتأسّس على استكشاف ما دار في ذهن المتكلّم دون قصد أحياناً.

وسيكون لنا عدّة وقفات مع الدّلائل –فيما سيستقبل من بحوث ومقالات- لكي نظهر صلته الوثيقة بالخصائص، ونكشف بشكل واضح على قدرة صاحبه المُنقطعة النّظير في تطوير علم أصول النّحو، وذلك بإبراز مركزية هذا العلم المتميّز في عملية الإبداع اللّغوي والأدبي.

وتجدر الإشارة –في نهاية المطاف- إلى أنّ مبحث البلاغة كان جزءاً لا يتجزّأ من علم النحو، والذي تصوّره ابن جنّي –سابقاً- بكونه انتحاء لسمت كلام العرب في تصرّفه[102]. وإذا تدبّرنا مضامين قول ابن جني على النحو وأصوله ألفيناه يربط عملية إدراك كنه نحو العربية بفهم وإدراك معاني أربع كلمات بارزة وهي: الانتحاء والسّمت وكلام العرب والتّصرّف، وما نلاحظه هو أنّ لمعاني هذه الأخيرة ارتباط وثيق بمعاني أخرى أكثر شمولية، وأوفر عمقاً تتوارى خلف التّعبير اللّغوي لتستقرّ في ضمير المتكلّم اللّغوي.

حتّى إذا تتبّعنا منطق ابن جني في عرضه لأصول النحو بدت لنا رغبته الملحّة في الكشف عن ذلك الخيط الراّبط بين المتكلّم واللّغة، وظهر لنا -بشكل واضح- إصراره الصّارخ على إزالة الحجاب عن أمر هام، وهو: مركزية أصول النحو في الفعل الإبداعي في مجال اللّغة خصوصاً والأدب عموماً.

ففي نظر ابن جني لا يكون العالم المجتهد من أهل الإبداع في لغة ما بمجرّد امتلاكه لناصية النحو فحسب؛ بل لا بد له من معرفة كافية بأصول النحو كذلك. ومن ثمّ لا يكون الإنسان من أهل لغة ما إلاّ إذا أبدع فيها، ولا يمكن أن يبدع فيها إلا إذا أحبّها، ولا يمكن أن يحبّها إلاّ إذا عرفها -لأنّ الإنسان عدوّ ما يجهل- ولا يمكن أن يعرفها إلاّ إذا عَلِمَ أصولها، وَوَرَدَ مصادرها. لذلك فالمجتهد المبدع في اللّغة هو العارف بها والعالم بأصولها.

ولعلّ هذا ما جعل عبد القاهر الجرجاني يقول في مدخل دلائله: “هذا كلام وجيزٌ يطلع به الناظر على أصول النحو جملةً، وكل ما به يكون النظم دفعةً، وينظر في مرآةٍ تريه الأشياء المتباعدة الأمكنة قد اُلتقت له حتى رآها في مكانٍ واحدٍ”[103]. ويقول في بعض أبياته[104]:

فــــمـا لـنـــظـم كـلامٍ أنـت نــاظــمـــه  ***  مـــعــنىً سـوى حــكـم إعــرابٍ تـزجـيـه

وقد علمنا بأن النظم ليس سوى  ***  حكمٍ من النحو نمضي في توخـيه

 

فالنّظم عند الإمام عبد القاهر الجرجاني هو توخّي معاني النحو؛ لذلك يفسره بقوله: “اعلم أن ليس “النَّظْمُ” إلا أن تضع كلامك الوضعَ الذي يقتضيه “علم النحو” وتعملَ على قوانينه وأُصوله، وتعرف مَناهجه التي نُهِجَتْ فلا تزيغ عنها، وتحفَظَ الرسومَ التي رُسِمت لك، فلا تُخِلُّ بشيء منها”[105].

هكذا ارتبط التفكير البلاغي العربي بأصول النّحو، و”الذي نروم التنبيه عليه، هو أن البلاغة التي نتحدث عنها، نمط من التفكير نما في أحظان النحو في صورته الأولى عندما كان موصولًا بالبحث في خصائص العربية.

هكذا كان لنظر ابن جني في جملة من المقومات الصوتية والصرفية والتركيبية، أن أفضى به إلى الكشف عما تحمله من إمكانات أسلوبية تمثل خصائص هذه اللغة في التعبير البلاغي والجمالي. وبناء عليه، لم يكن ما انتهت إليه بلاغة الشّعر من مقوّمات سوى امتداد للتفكير في الخصائص الجمالية للغة العربية”[106].

وقد درس النحاة واللّغويون العرب –ومن بينهم ابن جني وعبد القاهر الجرجاني- كثيراً من الظّواهر اللّغوية مثل: التّقديم والتّأخير والزّيادة والحذف وغيرهما دراسة تربط بين فكر المتكلّم وكلامه، وإذا كانت بعض الاتّجاهات في علم اللّغة الحديث ترفض مثل هذا الرّبط؛ فإنّ ذلك لا يعدو أن يكون رأياً يمكن دحضه؛ خصوصاً من طرف رائد المدرسة التوليدية العالم الأمريكي (نوام تشومسكي) الذي ربط بين الواقع اللّغوي والفكر الإنساني في نماذجه اللّسانية المتميّزة.

ولقد كانت أساليب القدماء تربط بين التّركيب اللّغوي والواقع الفكري؛ أو قل: تجعل نُظُم اللّغة الخارجية مطابقة لترتيب الأفكار في ذهن المتكلّم. وهو قانون من القوانين الأساسية للعربية. فالتّركيب اللّغوي –كما هو معروف- علاقات معنوية ذات تأثير لفظي، وهذا موجود في العربية وفي غيرها من اللّغات[107].


 

قائمة المصادر والمراجع

  • إبرام الحكم النحوي عند ابن جني لشذى جرار، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع- عمان الأردن، الطبعة العربية: 2006.
  • إِحْكَامُ الفُصُول في أَحْكَامِ الأُصُول للإِمَام الفقِيهِ الأُصُولي أبي الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي (ت474ه)، تحقيق ودراسة: الدكتور عبد الله محمد الجبُّوري، مؤسسة الرسالة-بيروت، الطبعة الأولى: 1409ه/1989م، الجزء الأول.
  • أصول الجصَّاص المُسمَّى “الفُصُولُ في الأُصُولِ” للإمام أبو بكر أحمد بن علي الجصَّاص الرَّازي (ت370ه)، ضبط نصوصه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه: الدكتور محمّد تامر، دار الكتب العلمية: بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 2000م، 2/198.
  • أصول الفقه الإسلامي لوهبة الزحيلي، دار الفكر المعاصر- بيروت، الطبعة الأولى: 1986م، الجزء الأول.
  • أصول النحو العربي في نظر النحاة ورأي ابن مضاء القرطبي في ضوء علم اللغة الحديث لمحمد عيد، عالم الكتب- القاهرة، الطبعة الرابعة: 1979م.
  • أصول النحو لمحمد خير الدين الحلواني، مطبعة إفريقيا الشرق- الناشر الأطسي الدار البيضاء، الطبعة الثانية: 1983م.
  • الأساس المعرفي للغويات العربية، بحث في بعض المقدمات الكلامية والأصولية للنحو العربي في اتجاه وضع أساس إبستمولوجي للغويات العربية للدكتور عبد الرحمن بودرع، تطوان/ 1999م.
  • الأصول في النحو لأبي بكر محمد بن سهل بن السراج، تحقيق: الحسين الفتلي مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى: 1985م.
  • الإغراب في جدل الإعراب، ولمع الأدلّة في أصول النحو لأبي البركات عبد الرحمان كمال الدين بن محمد الأنباري، تحقيق: سعيد الأفغاني، مطبعة الجامعة السورية، 1957م.
  • الاقتراح في علم أصول النحو لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى: 1998م.
  • الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين للشيخ الإمام كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري، ومعه الانتصاف من الإنصاف: تأليف محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية- بيروت، طبعة: 1987م، الجزء الأول.
  • الإيضاح في علل النحو لأبي القاسم الزّجّاجي (ت338ه)، تحقيق: الدكتور مازن المبارك، دار النّفائس-بيروت، الطبعة السادسة: 1416ه/1969م.
  • البلاغة والأصول، دراسة في أسس التفكير البلاغي العربي، نموذج ابن جني للدكتور محمد مشبال، أفريقيا الشرق- المغرب: 2007م.
  • التعريفات لعلي بن محمد بن علي الحسني الجرجاني الحنفي، حقّقه وعلّق عليه: نصر الدّين تونسي مدرّس أوّل اللّغة العربية والعلوم الشرعية بمجمع معاهد العلم والإيمان الأزهري الخاص، شركة القدس للتصدير 8 شارع جوهر-الدراسة-القاهرة، الطبعة الأولى:2007م.
  • الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني (ت392ه)، تحقيق: الأستاذ علي النجار، دار الكتب المصرية- المكتبة العلمية، بدون طبعة.
  • العُلُومُ عِندَ العَرب: تبويب وتعاريف ونصوص للدكتور يوسف ق. خوري، منشورات دار الآفاق الجديدة- بيروت، الطبعة الأولى: 1403ه/1983م.
  • القياس في النحو للدكتورة منى إلياس، ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر، الطبعة الأولى: 1985م.
  • الكتاب وصناعة التّأليف عند الجاحظ للأستاذ الدكتور عباس أرحيلة، المطبعة والوراقة الوطنية- المغرب، الطبعة الأولى:2004م.
  • اللسانيات واللغة العربية نمادج تركيبية ودلالية للأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري، الكتاب الأول، دار توبقال للنشر- المغرب، الطبعة الأولى: 1985م.
  • المدارس النحوية للأستاذ شوقي ضيف، دار المعارف المصرية- القاهرة، الطبعة الرابعة: بدون تاريخ.
  • بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية للدكتور محمد عابد الجابري، كلية الآداب-الرباط.
  • تاريخ بغداد أو مدينة السلام منذ تأسيسها حتى سنة 423ه للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي (ت463ه)، نسخة مصورة بدار الكتب العلمية: بيروت-لبنان، بدون طبعة.
  • دلائل الإعجاز تأليف الإمام عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلّق عليه: الأستاذ أبو فهر محمود محمد شاكر، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الثانية: 1410ه/1989م.
  • علم اللغة العربية، مدخل تاريخي مقارن في ضوء التراث واللغات السامية، للأستاذ محمود فهمي حجازي، وكالة المطبوعات- الكويت، بدون طبعة.
  • كتاب سيبويه لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، تحقيق وشرح: الأستاذ عبد السلام محمد هارون، عالم الكتب- بيروت، الطبعة الثالثة: 1403ه/1983م، الجزء الأول.
  • لسان العرب للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، دار صادر- بيروت، الطبعة الثالثة: 1414ه/1994م.
  • معجم الأدباء لياقوت الحموي، تحقيق: رضا كحالة، دار الإحياء العربي، بيروت لبنان، الطبعة الثانية، المجلد الأول.
  • مقدمة ابن خلدون تأليف: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، تحقيق: عبد الواحد وافي، دار النهضة بمصر، الفجالة-القاهرة، الطبعة: الثالثة، الجزء الأول.
  • مقدمة الصحاح: عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1979م.

 


[1] ) مقدمة الصحاح: عبد الغفور عطار، دار العلم للملايين، بيروت-لبنان، الطبعة الثانية: 1979، ص: 35.

[2] ) مقدمة ابن خلدون تأليف: عبد الرحمن بن محمد بن خلدون، تحقيق: عبد الواحد وافي، دار النهضة بمصر، الفجالة-القاهرة، الطبعة: الثالثة، الجزء الأول، ص: 753، بتصرف.

[3] ) حدّد ابن خلدون علوم اللّسان العربي في أربعة علوم: علم النّحو وعلم اللّغة وعلم البيان وعلم الأدب، وهو يصرّح أنّ معرفة علم اللغة “ضرورية على أهل الشريعة إذ مأخذ الأحكام الشرعية كلها من الكتاب والسنة وهي بلغة العرب (…) فلا بد من معرفة العلوم المتعلقة بهذا اللسان لمن أراد الشريعة”. انظر المقدمة، الجزء نفسه، الصفحة نفسها.

[4] ) ولعل هذا ما جعل عمراً بن العلاء يقول في فترة متقدّمة: “لعلم العربية هو الدين بعينه”. (أورده ياقوت الحموي في كتابه معجم الأدباء، تحقيق: رضا كحالة، دار الإحياء العربي، بيروت لبنان، الطبعة الثانية، المجلد الأول).

[5] ) ولقد عُرِف مؤلَّف سيبويه باسم الكتاب، ولقد سماه الناس “قرآن النحو”. ومن طريف ما يروى أن أحد نحاة الأندلس وهو عبد الله بن محمد عيسى “كان يختم كتاب سيبويه في كل خمسة عشر يوما”، كأنما يتلوه تلاوة القرآن. انظر كتاب سيبويه لأبي بشر عمرو بن عثمان بن قنبر، تحقيق وشرح: الأستاذ عبد السلام محمد هارون، عالم الكتب- بيروت الطبعة الثالثة: 1403ه/1983م، 1/23. بتصرف.

[6] ) انظر مقدمة الكتاب: 1/5- 6.

[7] ) الكتاب: 1/23. قال أبو جعفر الطبري: فحدثت به محمد بن يزيد على وجه التعجب والإنكار فقال: أنا سمعت الجرمي يقول هذا –وأومأ بيديه إلى أذنيه- وذلك أن أبا عمر الجرمي كان صاحب حديث، فلما علم كتاب سيبويه تفقه في الحديث.

[8] ) الأساس المعرفي للغويات العربية: عبد الرحمن بودرع، بحث في بعض المقدمات الكلامية والأصولية للنحو العربي في اتجاه وضع أساس إبستمولوجي للغويات العربية، تطوان: 1999م، هامش ص: 75.

[9] ) لقد جرت العادة على اعتبار كتاب سيبويه كتاباً في النّحو، ولكن لا النّحو كما نفهمه نحن اليوم، وكما هو معروف في اللّغات الأجنبية بوصفه: “مجموع القواعد التي تمكن من اتبعها من نطق لغة ما وكتابتها بصورة صحيحة”، فالنّحو العربي كما نقرأه في مرجعه الأول: الكتاب، ليس مجرد قواعد لتعليم النطق السليم، والكتابة الصحيحة باللغة العربية، بل هو أكثر من ذلك قوانين للفكر داخل هذه اللغة، وبعبارة بعض النحاة القدماء: “النحو منطق العربية”. انظر كتاب بنية العقل العربي، دراسة تحليلية نقدية لنظم المعرفة في الثقافة العربية للدكتور محمد عابد الجابري، كلية الآداب-الرباط، ص: 40، بتصرّف. ولقد أكّد الدكتور شوقي ضيف الفكرة نفسها حين اعترف بأنّ “كتاب سيبويه لا يعلم العربية وقواعدها فحسب، بل يعلم أيضاً أساليبها ودقائقها التعبيرية (…) فهو لا يسجل القواعد فقط، وإنما يفكر في العبارات ويلاحظ ويتأمل ويستنبط خواصها ومعانيها بحسه الدقيق المرهف (…) وبهذا الحس المرهف وما سنده من ملكات عقلية باهرة رسم سيبويه أصول العربية وصاغ لها قوانينها الإعرابية والصرفية”. انظر المدارس النحوية للدكتور شوقي ضيف، دار المعارف- مصر، الطبعة الرابعة، بدون تاريخ، ص:  77←93.

وهكذا، فقد اتّفق السلف والخلف قديما وحديثا على إمامة سيبويه وسبقه في تأسيس علم النحو، وتفوّقه في تأصيل وضبط قواعد وقوانين علوم اللسان العربي من لغة ونحو وبيان وأدب. وقد عني العلماء واهتم الدارسون والباحثون بكتابه، وتركّزت جهودهم حوله رواية وتدريساً، وشرحاً وتعليقاً.

[10] ) أبو إسحاق الشاطبي: الموافقات، 4/116. (نقلاً عن كتاب بنية العقل العربي للدكتور محمد عابد الجابري، مرجع سابق، ص: 40).

[11] ) الأساس المعرفي للغويات العربية، مرجع سابق، ص: 75.

[12] ) المرجع نفسه، الصفحة نفسها.

[13] ) ولقد “سُئِل الفرّاء عمّن سها في سجود السّهو فقال: لا حكم عليه. فقيل له من أين أتيت بهذا الحكم؟ فقال من العربية عندنا؛ فإنّ المصغّر لا يصغّر”.

[14] ) أبو البركات عبد الرحمان كمال الدين بن محمد الأنباري: رسالتان لابن الأنباري: الإغراب في جدل الإعراب، ولمع الأدلة في أصول النحو، تحقيق: سعيد الأفغاني، مطبعة الجامعة السورية/1957م، ص: 80.

[15]) يقول الخطيب البغدادي في ترجمته: هو “عثمان بن جني أبو الفتح الموصلي النحوي اللغوي، له كتب مصنّفة في علوم النحو أبدع فيها وأحسن؛ منها: التلقين، واللّمع، والتعاقب في العربية، وشرح القوافي، والمذكر والمؤنث، وسر الصناعة، والخصائص، وغير ذلك، وكان يقول الشعر، ويجيد نظمه، وأبوه جنّي كان عبداً رومياً مملوكاً لسليمان بن فهد بن أحمد الأزدي الموصلي. أنشدني يحيى بن علي التبريزي لعثمان بن جني من قصيدة طويلة:

فإن أصبح بلا نسب  ***  فعلمي في في الورى نسبي

(…) سكن ابن جني بغداد، ودرس بها العلم إلى أن مات، وكانت وفاته ببغداد -على ما ذكر لي أحمد بن علي بن التوزي- في يوم الجمعة لليلتين بقيتا من صفر سنة اثنتين وتسعين وثلاثمائة”. انظر كتاب تاريخ بغداد أو مدينة السلام منذ تأسيسها حتى سنة 423ه، للحافظ أبي بكر أحمد بن علي الخطيب البغدادي، المتوفى سنة 463ه، نسخة مصورة بدار الكتب العلمية: بيروت-لبنان، بدون طبعة، 11/311.

[16] ) الأصول عند أبي بكر بن السراج تعني القواعد النحوية، لا الأدلة التي تنبني عليها القواعد.

[17] ) انظر خطبة الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني (ت392ه)، تحقيق: علي النجار، دار الكتب المصرية- المكتبة العلمية، بدون طبعة، 1/1←3.

[18] ) يقول الحسين الفتلي مبينا أهمية كتاب ابن السراج: “كانت  لكتاب الأصول في النحو منزلة خاصة في نفوس النحاة وفي تاريخ النحو العربي، ولآرائه أهمية كبرى كتب لها من الذيوع والانتشار بين الدارسين ما لم يكتب إلا لقلة نادرة من المصنفات النحوية، مثل كتاب سيبويه والمقتضب لأبي العباس المبرد والتصريف لأبي عثمان المازني (…) فقد جمع ابن السراج أصول العربية وأخذ مسائل سيبويه ورتبها أحسن ترتيب (…) فقد اختصر فيه أصول العربية، وجمع مقاييسها، ونظر في دقائق سيبويه، وعول على مسائل الأخفش (…) حتى قيل: ما زال النحو مجنونا حتى عقله ابن السراج بأصوله. ولقد نسب كثير من الباحثين إلى ابن السراج أنه أول من وضع كتابا في أصول العربية”. أنظر مقدمة تحقيق الحسين الفتلي لكتاب “الأصول في النحو” لأبي بكر محمد بن سهل بن السراج، مؤسسة الرسالة، الطبعة الأولى: 1985م، ص: 21- 22.

[19] ) يقول الإِمَام الفقِيهِ الأُصُولي أبي الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي (ت474ه): “الفقه هو معرفة الأحكام الشرعية، وأصول الفقه: ما انبنت عليه معرفةُ الأحكام الشرعية”. انظر كتاب “إِحْكَامُ الفُصُول في أَحْكَامِ الأُصُول”، تحقيق ودراسة: الدكتور عبد الله محمد الجبُّوري، مؤسسة الرسالة-بيروت، الطبعة الأولى: 1409ه/1989م، الجزء الأول، ص: 47.

[20] ) ويعرِّف الإمام أبو بكر الجصَّاص الدليل بقوله: “الدَّليلُ: هو الذي إذا تأمَّلَه النَّاظِرُ المُستدِلُّ أوصَلَه إلى العلْمِ بالمدْلولِ، وسُمِّيَ دليلا لأنَّه كالمُنَبِّه على النَّظَرِ المُؤَدِّي إلى المعرفة والمُشيرِ له إليه، وهو مُشَبَّهٌ بِهادي القوم ودليلهم الذي يُرشدُهم إلى الطَّريقِ، فإذا تأمَّلوه واتَّبعوه أوصَلَهم إلى الغرض المقصود من الموضع الذي يَؤُمُّونَه”. انظر كتاب أصول الجصَّاص المُسمَّى “الفُصُولُ في الأُصُولِ” للإمام أبو بكر أحمد بن علي الجصَّاص الرَّازي (ت370ه)، ضبط نصوصه وخرّج أحاديثه وعلّق عليه: الدكتور محمّد محمّد تامر، دار الكتب العلمية: بيروت- لبنان، الطبعة الأولى: 2000م، 2/198.

[21] ) وهبة الزحيلي: أصول الفقه الإسلامي، دار الفكر المعاصر- بيروت، الجزء الأول، الطبعة الأولى: 1986م، ص: 16-17.

[22] ) المرجع نفسه، الجزء نفسه، ص: 502. يقول الإمام الجصَّاص في تعريف الاستدلال: “والاستِدْلالُ: هو طلبُ الدَّلالَة والنَّظَرُ فيها، للوُصولِ إلى العلم بالمدْلولِ”، انظر الفُصُولُ في الأُصُولِ، مرجع سابق: 2/200.

[23] ) الخصائص: 1/67.

[24] ) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[25] ) لهذا نجد ابن جني يقدّم مؤلّفه بقوله: “هذا كتاب مبنيّ على إثارة معادن المعاني، وتقرير حال الأوضاع والمبادئ، وكيف سَرَت أحكامها في الأحناء والحواشي”. انظر الخصائص: 1/32.

ويقول في موضع آخر: “وإنما هو مقام القول على أوائل أصول هذا الكلام، وكيف بدئ وإلام نُحِي”. انظر الخصائص: 1/67.

[26] ) مرزون: مستندون.

[27] ) الخصائص: 1/77.

[28]) انظر الاقتراح في علم أصول النحو لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، تحقيق: محمد حسن إسماعيل الشافعي، دار الكتب العلمية- بيروت، الطبعة الأولى: 1998م، ص: 11.

[29] ) الخصائص: 1/145.

[30] ) الخصائص: 1/163.

[31] ) الخصائص: 2/331.

[32] ) يقول ابن جني: “وذلك أنا لم نر أحداً من علماء البلدين تعرض لعمل أصول النحو على مذهب أصول الكلام والفقه…”. انظر النص كاملاً في خطبة الخصائص.

[33] ) شذى جرار: إبرام الحكم النحوي عند ابن جني، دار اليازوري العلمية للنشر والتوزيع، عمان الأردن، الطبعة العربية: 2006، ص: 33.

[34]) الخصائص: 1/32.

[35] ) الخصائص: 1/133←144.

[36] ) “الدور: أن تؤدي الصنعة إلى حكم ما، فإن أنت غيرت صرت إلى مراجعة مثل ما منه هربت، فإذا حصلت على هذا وجب أن نقيم على أول رتبة:

رأى الأمر يفضي إلى آخر *** فـصـيـر آخـره أولا”. انظر الخصائص: 1/208-209.

[37] ) شوقي ضيف: المدارس النحوية، دار المعارف المصرية- القاهرة، الطبعة الرابعة: بدون تاريخ، ص: 268، بتصرف.

[38]) وتصرّح الدكتورة منى إلياس: “على يدي الخليل تكامل منهج البحث، وتحدّدت أدواته ومذاهب التحقيق فيه، إلا أنّه لم يتناول هذا المنهج ببسط يبين عن جزئياته وكل أداة من أدواته. انظر القياس في النحو لمنى إلياس، ديوان المطبوعات الجامعية- الجزائر، الطبعة الأولى: 1985م، ص: 26.

[39] ) الإمام جلال الدين السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو، مصدر سابق، ص: 45.

[40] ) تتحدّد الأصول أو الأسس التي يقوم عليها علم من العلوم أو فن من الفنون في نوعين: أصول يصرّح بها صاحب العمل، وأصول ضمنية تستكشف استكشافا. ثمّ إنّ ابن جني كان يسعى إلى إنشاء علم أصول النحو، لذلك كان بحثه في الخصائص منصبّاً على الأسس النظرية والأدوات الإجرائية التي قام عليها تفكير اللّغويين والنحاة، وقامت عليها خلافاتهم المنهجية.

وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ التوجّهات العلمية –حديثا وقديما- قد قامت على تصورين اثنين في العلم: تصور يقوم على التجريب أي على الملاحظة والاستقراء وعدم تهميش الواقع، وتصور يعتبر الوقائع غالباً ما تكون خادعة في ظاهرها. وبالتالي سيؤدي مجرد وصفها واستقرائها إلى نتائج غير موضوعية. وإذا كان هذا الإشكال قائما اليوم في اللغويات الحديثة؛ فإننا نعتبر أن ما حرّك الاستدلالات النحوية العربية -ومن بينها استدلالات ابن جني في الخصائص- لا يشدّ عن هذا الإشكال.

[41] ) أبو البركات عبد الرحمان كمال الدين بن محمد الأنباري: رسالتان لابن الأنباري: الإغراب في جدل الإعراب، ولمع الأدلة في أصول النحو، مصدر سابق، ص: 80.

[42] ) محمود فهمي حجازي: علم اللغة العربية، مدخل تاريخي مقارن في ضوء التراث واللغات السامية، وكالة المطبوعات- الكويت، ص: 69.

[43] ) النّحو في اللّغة هو: القصد والطّريق (نحوت نحواً: قصدت قصداً)، وقد عرّفه ابن جني في باب (القول على النحو) بكونه: “انتحاء سَمْت كلام العرب في تصرّفه من إعراب وغيره“.

ويتفرّع دور النّحو –حسب رأي ابن جني- إلى ثلاث وظائف رئيسية:

الأولى: إلحاق من ليس من أهل العربية بأهلها في الفصاحة.

الثانية: إمكان غير العربي من النطق بالعربية وإن لم يكن من أهلها.

الثالثة: ردّ من يشذّ عن العربية إليها.

وينحصر مجال اشتغال النحو في كونه يتولّى مستويين:

صرفي (المفردة): ما يتّصل ببنية الكلمة وصيغها من تغيير.

تركيبي (الإعراب): مبحث في العلاقات النّحوية بين المفردات والجمل والتراكيب. انظر الخصائص لأبي الفتح عثمان بن جني ، 1/34، بتصرّف.

وقد تمثّلت فائدة النحو -حسب رأي الزجاجي- في كونه الوسيلة التي بامتلاكها يصبح توضيح وتفسير أي معنى ملتبس ممكناً، سواء تعلّق الأمر بمعنى كلام العرب؛ أو بمعاني القرآن؛ أو الحديث؛ أو بمعاني الشعر العربي. انظر كتاب الإيضاح في علل النحو لأبي القاسم الزّجّاجي (ت338ه)، تحقيق: الدكتور مازن المبارك، دار النّفائس-بيروت، الطبعة السادسة: 1416ه/1969م، ص: 95.

ثمّ بعد ذلك أصبح “النحو علماً متخصّصاً في البحثعن أحوال المركبات الموضوعة وضعاً نوعياً لنوع نوع من المعاني التركيبية النسبية من حيث دلالتها عليها.

وغرضه تحصيل ملكة يقتدر بها على إيراد تركيب وضع وضعاً نوعياً لما أراده المتكلم من المعنى وعلى فهم معنى أي مركب كان بحسب الوضع المذكور.

وغايته الاحتراز عن الخطأ في التراكيب العربية على المعاني الوضعية الأصلية.

ومباديه المقدمات الحاصلة من تتبع الألفاظ المركبة في موارد الاستعمالات.

وموضوعه المركبات والمفردات من حيث وقوعها في التراكيب والأدوات لكونها روابط التركيب. وإنما يبحث عنها في النحو على وجه المبدئية لأنها من مسائل اللغة الحقيقية”. انظر كتاب (العُلُومُ عِندَ العَرب: تبويب وتعاريف ونصوص) للدكتور يوسف ق. خوري، منشورات دار الآفاق الجديدة- بيروت، الطبعة الأولى: 1403ه/1983م، ص: 150-151. (نقلا عن مفتاح السعادة ومصباح السيادة لطاشكبري زادة: 1/120. كشّاف اصطلاحات الفنون للتهانوي، ص: 17-18، كشف الظّنون عن أسامي الكتب والفنون لحاجي خليفة، عمود 1934-1935. مفتاح العلوم للسكاكي، ص: 41. مقدمة ابن خلدون: 1/1025←1028. معجم المصنّفين: 1/253←257..).

[44] ) والدّليل: ما صحَّ أن يرشد إلى المطلوب. وهو الدلالةُ والبُرهان، والحُجَّة والسلطان. ومن أصحابنا مَنْ قال إن الدليل إنما يستعمل فيمَا يُؤَدِّي إلى العلم، وأما ما يؤدِّي إلى غلبةِ الظّن، فإنما هي أمارة وهذا ليس بصحيح، لأن الأمارة قد تؤدي إلى العلم. وعرفه الجرجاني بقوله: هو الذي يلزم من العلم به العلمُ بشيء آخر. التعريفات، ص: 55. انظر كتاب “إِحْكَامُ الفُصُول في أَحْكَامِ الأُصُول” للإِمَام الفقِيهِ الأُصُولي أبي الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي، مرجع سابق، الجزء الأول، ص: 45.

[45] ) ابن الأنباري: لمع الأدلة، مرجع سابق، ص: 81.

[46] ) جلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي: الاقتراح في علم أصول النحو، مرجع سابق، ص: 13.

[47] ) يقول الفقِيهِ الأُصُولي أبي الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي في فصل بعنوان: “في بيان الحدود التي يُحتاج إليها في معرفة الأصول”: “الاستدلالُ: هو التفكرُ في حال المنظور فيه طلباً للعلم بما هو نظر فيه، أو لغلبة الظن إن كان مما طريقُه غلبة الظن”. انظر كتاب “إِحْكَامُ الفُصُول في أَحْكَامِ الأُصُول”، مرجع سابق، ص: 47.

[48] ) الخصائص: 1/99.

[49] ) المستدلّ هو الذي يطلب الدّليل، كما أنّ المستفهم هو الذي يطلب الفهم. يقول الفقِيهِ الأُصُولي أبي الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي في كتابه “إِحْكَامُ الفُصُول في أَحْكَامِ الأُصُول”، مرجع سابق، ص: 47: “والمستدل هو الطالب للدّليل، وقد يُسمى بذلك المحتجُّ بالدليل. والمُسْتَدَلُّ عليه: هو الحُكمُ، وقد يقع على السائل أيضاً. والمُسْتَدَلُّ له: هو الحكم”.

[50] ) الخصائص: 1/48.

[51] ) الشيخ الإمام كمال الدين أبي البركات عبد الرحمن بن محمد الأنباري: الإنصاف في مسائل الخلاف بين النحويين: البصريين والكوفيين، ومعه الانتصاف من الإنصاف: تأليف محمد محي الدين عبد الحميد، المكتبة العصرية- بيروت، طبعة: 1987م، الجزء الأول، ص: 46.

[52] ) الخصائص: 1/87- 88.

[53] ) الخصائص: 1/53.

[54] ) الخصائص: 1/145، بتصرف.

[55] ) الخصائص: 1/252.

[56] ) محمد عيد: أصول النحو العربي في نظر النحاة ورأي ابن مضاء القرطبي وضوء علم اللغة الحديث، عالم الكتب- القاهرة، الطبعة الرابعة: 1979م، ص: 124- 125.

[57] ) وهذا ما يؤكّده صاحب الإقتراح حين يقول: “واعلم أنّي قد استمددتُ هذا الكتاب كثيراً من كتاب “الخصائص” لابن جني فإنّه وضعهُ في هذا المعنى، وسمّاه أصول النحو (…) فلخّصتُ منه جميع ما يتعلّق بهذا المعنى..”. انظر كتاب الاقتراح في علم أصول النحو لجلال الدين عبد الرحمن بن أبي بكر السيوطي، مرجع سابق، ص: 11.

[58] ) نهجة: واضحة.

[59] ) الخصائص: 1/189- 190.

[60] ) الخصائص: 1/190.

[61] ) يقال ألوى بالكلام: خالف به عن جهته، وانحرف به عن قصده.

[62] ) الخصائص: 1/189.

[63]) الخصائص: 1/125.

[64] ) الخصائص: 2/43.

[65] ) أي المخاصمات. وهو من قولهم: ثاقف الرجل: غالبه في الثقف وهو الحذق والفطنة.

[66] ) الخصائص: 3/212-213.

[67] ) عباس أرحيلة: الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ، المطبعة والوراقة الوطنية- المغرب، الطبعة الأولى:2004م،

ص: 37. بتصرف.

[68] ) الخصائص: 1/190/191.

[69] ) الخصائص: 1/191-192.

[70] ) الخصائص: 1/231.

[71] )  محمد علي النجار: مقدمة الخصائص، 1/19، 1/231.

[72] ) الخصائص: 1/231-232.

[73] ) وهذا بخلاف ما ذهب إليه بعض اللّغويين المعاصرين وفي مقدّمتهم الأستاذ الفاسي الفهري، والذي يؤكّد أنّ الآلة الواصفة للّغة العربية الحالية أو القديمة لا تحتاج ضرورة إلى مفاهيم القدماء وأصولهم أو إلى الفكر النّحوي العربي القديم، ويعتبر ذلك من التّصورات الخاطئة للتّراث. ففي نظر الأستاذ الفاسي أنّ الآلة الواصفة الموجودة عند القدماء ليس لها أيّ امتياز، بل يعتبرها غير لائقة لوصف العربية في كثير من الأحوال.

وقد عمّم الأستاذ الفاسي الفهري موقفه من الفكر اللغوي العربي القديم، ورأى أنّ مواجهته بالفكر اللساني المعاصر يؤدّي إلى نوع من اللاتاريخية. “إذ يضطرّنا إلى الحكم على فكر نشأ في ظروف معرفية وتكنولوجية بمقاييس عصر وصل فيه العلم والتكنولوجيا إلى نتائج لم يعد ممكنا معها أن نأخذ بتحاليل القدماء برمّتها، بل يمكن فقط أن نستأنس بها، وأن نأخذ بعض الجزئيات فيها، أو بعض الخطوط العامة”. وفي هذا النطاق، بيّن –في كتابه المتميّز اللسانيات واللغة العربية: نمادج تركيبية ودلالية، أنّ عدداً من المفاهيم الوصفية عند القدماء (كمفاهيم المبتدأ والجملة الاسمية والنواسخ …) لا يمكن الاحتفاظ بها في نموذج لساني حالي. انظر كتاب اللسانيات واللغة العربية نمادج تركيبية ودلالية، للأستاذ عبد القادر الفاسي الفهري، الكتاب الأول، دار توبقال للنشر- المغرب، الطبعة الأولى: 1985م، هامش ص: 61. بتصرف.

[74] ) سيبويه وابن جني والجرجاني ثالوث مبدع في مسار علم اللّغة العربي، والالتفات إليه في ما يستقبل من مقالات وبحوث يُمكّن من إدراك كنه الفكر اللّغوي عند العرب ويُبرز حقيقته؛ إذ لا يمكن إغفال الكثير من الأفكار والآراء التي تعبّر عن كيفية خاصّة من التّناص بين هؤلاء الرّجال، والتي شاركت في تأسيس النّقد اللّغوي عند العرب، وشكّلت نواةً محورية للعديد من النظريات المتطوّرة في مجال النقد والبلاغة والأدب وغيرها.

[75]) يقول الأستاذ الدكتور عبد الرحمن بودرع: “الأصول مراجع يرجع إليها، ولا تراجُعَ عنها لأنها أوائل، وليس تحت الأصل ما يرجع إليه، على خلاف الفروع التي تتضاعف وتتصاعد وتظلّ مشدودة إلى مرجعها الأوّل، وهذا سمت العرب في لسانها تأنس به ولا تنبو عنه”. انظر الأساس المعرفي للغويات العربية، مرجع سابق، هامش ص: 112.

[76] ) يظهر للنّاظر في تصوّر ابن جني لمفهوم السّماع –مثلاً- أن المستمع اللّغوي يجب أن يكون مجهّزاً بآليات معرفية، ومسلّحاً بتقنيات منهجية تؤهّله للقيام بهذه العملية المتميّزة. فقد كان يدرك -تماماً- أنّ القياس من عمل المتكلم، ولعل هذا ما جعل مهمّته تتأسّس على استكشاف ما دار في ذهن المتكلّم دون قصد أحيانا.

ثمّ إنّ ابن جني لم يَعتبر أيّ متكلّم لغوي مستمعاً لغوياً؛ لذلك كان يحذّر كلّ من يريد التقاط السّماع اللّغوي من الخلود إلى كلّ ما يسمعه، وينصحه بتأَمَّل حال مُورِده، وكيف موقعُه من الفصاحة، وبعد ذلك يحكم عليه أو له. يقول ابن جني: فإياك أن تُخْلِد إلى كلّ ما تسمعه، بل تأَمَّل حال مُورِده، وكيف موقعُه من الفصاحة، فاحكم عليه وله”. انظر الخصائص: 2/10.

[77] ) لهذا نجد ابن جني يقول -في أحد النصوص المُقتطفة من الخصائص-: “وسألته يوماً (يعني مُستمعه الخاصّ أبا عبد الله الشّجري) فقلت له: كيف تجمع (دكانا)؟ فقال: دكاكين، قلت: فسرحانا؟ قال: سراحين، قلت: فقرطانا؟ قال: قراطين، قلت: فعثمانا؟ قال: عثمانون؛ فقلت له: هلاّ قلت أيضا: عثامين؟ قال: أيش عثامين! أرأيت إنساناً يتكلّم بما ليس من لغته والله لا أقولها أبدا”.

وإذا تدبّرنا في مضامين هذا النص ألفيناها تتمظهر في أربع أفكار أساسية:

الأولى: يُقدّم ابنُ جني مُستمعَه اللّغوي بصفته متكلّماً فصيحاً يتميّز بسليقة سليمة، ويمتلك فضاءً معرفياً خاصّاً.

الثانية: يُوظّف ابن جني القياس –في هذا النص- توظيفاً خاصّاً؛ فهو يقيس “عثامين” على “سراحين” على الرغم من وُرود السّماع بخلاف ذلك.

الثالثة: يحظُّ ابن جني مستمعه الشّجري على القيام بعملية: قياس عثامين على سراحين، وفي ذلك إشارة إلى وجود إمكانية جديدة في توليد القاعدة بالاستناد إلى المستوى الصّرفي. 

الرّابعة: تشكّل الأسئلة -التي طرحها ابن جني على أبي عبد الله الشّجري- نوعاً من الاختبار لمن يُؤْخذ عنه من المتكلّمين بالعربية، وضرباً من التثبّت من صحّة ما يُؤْخذ من أمور لغوية ومسائل نحوية، وهذا يدلّ على أنّ ابن جني كان يمتلك قدرة عالية في مجال التدقيق والتحقيق والتوثيق.

ويسمح التأمّل في هذا النص بالقول إنّ المستمع اللّغوي في نظر ابن جني لم يكن مستمعاً عادياً، ولم يكن مستمعاً مثالياً، وإنّما كان متكلّماً فصيحاً ذا سليقةً سليمةً، ومعرفة متميزة بالعربية. ويمكن أن نستنتج أن ابن جني ينظر إلى من يأخذ عنهم اللغة نظرة متفحّصة ودقيقة تدلّ على فهمه لتطوّر اللغة وتغيّرها؛ فالشيء الذي كان يُخيفه هو أن يفقد الفصحاء فصاحتهم لاختلاطهم بأصحاب المدن والأعاجم. ومن أجل ذلك اهتم –هو ومِنْ قَبْلِه- سيبويه بمواصفات من يُأخذ عنه؛ إذ يقول: “وسمعنا الثقة من العرب”، “وحدثنا من نثق به”، و”قال قوم من العرب ترضى عربيتهم”. انظر المواضع الآتية في كتاب سيبويه: 1/331، 3/336، 1/182.

[78] ) الخصائص: 1/133.

[79] ) انظر لسان العرب للإمام العلامة أبي الفضل جمال الدين محمد بن مكرم ابن منظور الإفريقي المصري، دار صادر- بيروت، الطبعة الثالثة: 1414ه/1994م، 13/117.

[80] ) علي بن محمد بن علي الحسني الجرجاني الحنفي: كتاب التعريفات، حقّقه وعلّق عليه: نصر الدّين تونسي مدرّس أوّل اللّغة العربية والعلوم الشرعية بمجمع معاهد العلم والإيمان الأزهري الخاص، شركة القدس للتصدير 8 شارع جوهر-الدراسة-القاهرة، الطبعة الأولى:2007م، ص: 37.

[81] ) محقق كتاب التعريفات لعلي بن محمد بن علي الحسني الجرجاني الحنفي.

[82] ) انظر هامش الصفحة: 37 من كتاب التعريفات لعلي بن محمد بن علي الحسني الجرجاني الحنفي، مرجع سابق، (نقلا عن الموسوعة الفقهية (3/218)، والكليات (107)..).

[83] ) أنظر هامش الخصائص: 1/133.

[84] ) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[85] ) الخصائص: 1/134.

[86] ) علق محمد مشبال بهذا القول على النص السّابق في كتابه البلاغة والأصول، دراسة في أسس التفكير البلاغي العربي، نموذج ابن جني، أفريقيا الشرق- المغرب: 2007م، ص: 66.

[87] ) الخصائص: 1/137.

[88] ) انظر “دليل الاستحسان” في الخصائص: 1/134←137، وانظر ابن الأنباري: لمع الأدلة، مرجع سابق، ص: 133- 134، والسيوطي: الإقتراح، تحقيق محمد حسن إسماعيل الشافعي، مرجع سابق، ص: 105- 106.

[89] ) أمثال الدكتور: محمد مشبال.

[90] ) الخصائص: 1/242.

[91] ) وفي نفس المعنى يقول محمد مشبال:”من هنا كان النزوع نحو إظهار وجوه الحكمة، الغاية التي وجهت ابن جني في معظم الأبواب التي عقدها في كتابه “الخصائص” وكان خلف جملة من المبادئ التي تنبه لها في اللغة العربية”. البلاغة والأصول، مرجع سابق، ص: 48.

[92] ) انظر خطبة الخصائص: 1/1.

[93]) دلائل الإعجاز تأليف: عبد القاهر الجرجاني، قرأه وعلّق عليه: أبو فهر محمود محمد شاكر، الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة، الطبعة الثانية: 1410ه/1989م، ص: 41.

[94] ) المصدر نفسه، ص: 42.

[95] ) المصدر نفسه، الصفحة نفسها.

[96] ) المصدر نفسه، ص:7.

[97] ) ويقول الفقيهُ الأُصُولي الإمَام أبو الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي في “فصل في الاستحسان” (في الفقه): “معنى الاستحسان الذي ذهب إليه مالك رحمه الله: القول بأقوى الدَّليلين. وقد عرّف الحنفيَّة الاستحسان بتعريفات متعدّدة (…) فقال بعضهم: هو العُدول عن موجب قياسٍ إلى قياس أقوى منه. وقال بعضهم: هو تخصيص قياس بدليل أقوى منه. وقال أبو الحسن الكرخي: هو العدول في مسألة عن مثل ما حكم به في نظائرها إلى خلافه لوجه هو أقوى، وبنحو تعريف الكرخي عرفه أبو الحسن البصري فقال: إنَّ ترك وجه من وجوه الاجتهاد غير شاملٍ شمول الألفاظ لوجه هو أقوى منه”. انظر كتاب “إِحْكَامُ الفُصُول في أَحْكَامِ الأُصُول”، مرجع سابق، الجزء الأول، ص: 564.

[98] ) الدلائل، ص: 41.

[99] ) و”استدلُّوا بقوله تعالى: “الّذِينَ يَسْتَمِعُونَ القَوْلَ فَيَتَّبعون أَحْسَنَهُ” [الزمر: 18]. والجواب أنّ أحسنه هو الذي يكون مع الدليل (…) استدلُّوا: بما روي عن النَّبيِّ صلى الله عليه وسلم أنه قال: “ما رَآهُ المُسْلِمُونَ حَسَناً، فهو عند الله حَسَنٌ”. أخرجه أحمد في كتاب السُّنَّة من حديث وائل، عن ابن مسعود رقم (3600)، وهو موقوف حسن، وكذا أخرجه البزَّار والطيالسي والطَّبراني، ورواية الرفع ضعيفة. انظر “المقاصد الحسنة” 367.

والجواب أنَّ المسلمين إذا رأوا شيئاً حسناً، كان ذلك إجماعاً وصواباً، لعصمة جميع المؤمنين، وليس خلافنا معكم في نفس الحسن. وإنَّما اختلفنا في جهة الاستحسان، وعندنا أنَّ الأُمَّةَ لا تجتمع على حُسنِ حَسَن إلاّ عند دليلٍ، وإلاّ كان إجماعها خطأ، فَدُلُّوا على أنَّها أجمعت على الحكم شهوة وميلاً إليه بغير دليل..”. انظر كتاب “إِحْكَامُ الفُصُول في أَحْكَامِ الأُصُول” للإِمَام الفقِيهِ الأُصُولي أبي الوَليد سليمَان بن خلف البَاجي، مرجع سابق، الجزء الأول، ص: 566-567.

[100] ) انظر الدلائل، ص: 84-85.

[101] ) المصدر نفسه، ص: 35.

[102] ) لقد عرّف ابن جني النّحو بقوله: هو “انتحاء سَمْت كلام العرب في تصرّفه من إعراب وغيره“. وينحصر مجال اشتغال النحو في كونه يتولّى مستويين: صرفي (المفردة): ما يتّصل ببنية الكلمة وصيغها من تغيير، وتركيبي (الإعراب): مبحث في العلاقات النّحوية بين المفردات والجمل والتراكيب. انظر الخصائص: 1/34، بتصرّف.

[103] ) الدلائل، ص: 3.

[104] ) المصدر نفسه، ص: 10.

[105] ) المصدر نفسه، ص: 80.

[106] ) البلاغة والأصول، مرجع سابق، ص: 105.

[107] ) انظر كتاب أصول النحو لمحمد خير الدين الحلواني، مطبعة إفريقيا الشرق- الناشر الأطسي الدار البيضاء، الطبعة الثانية: 1983م، ص: 8-9، بتصرف.

 

2 تعليقات
  1. اسماء يقول

    ماشاء الله مقال في المستوى الراقي

  2. اسماء يقول

    مقال في المستوى الراقي

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.