مسؤولية النفقة المالية للرجل بين الهوى و عدالة الإسلام |سلسلة خطبة الجمعة
الأستاذ بن سالم باهشام
مسؤولية النفقة المالية للرجل بين الهوى و عدالة الإسلام |سلسلة خطبة الجمعة
الأستاذ بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عباد الله، يقول تعالى في سورة النساء: (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللَّهُ) [النساء: 34]
عباد الله، هذه الآية الكريمة من سورة النساء تحدد بكل وضوح، وظيفة الرجل والمرأة في الحياة الأسرية، فتكلف الرجل بالقوامة، وتكلف المرأة بالحافظية، إلا أن سوء فهم المصطلحين يفضي إلى الخلل في منظومة الأسرة التي هي الخلية الأولى للمجتمع، فما المقصود بالقوامة؟ من العلماء القدامى والمحدثين من فهموا أن القوامة سلطة وسيادة مطلقة للرجل على المرأة، لأنه يفضلها بكمال العقل والدين، وبأعمال اختُص بها دون المرأة، إضافة إلى النفقة.
عباد الله، نرد على أصحاب هذا الاتجاه بنصوص الشرع الحكيم ونقول: لو كان في المرأة نقص في العقل والدين – كما يزعم هؤلاء – مما يَخرُم مروءتها ويسلبها الإرادة، لما استوت مع الرجل في الأمور الآتية:
1 – في الأفعال والجزاء، كما قال تعالى في سورة النساء: ( وَمَن يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ مِن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَـٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ نَقِيرًا ( [النساء: 124].
2 – أما الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فمسؤولية مشتركة بين الرجال والنساء، لقوله تعالى في سورة التوبة: ( وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللَّـهَ وَرَسُولَهُ أُولَـٰئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّـهُ إِنَّ اللَّـهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ ( [التوبة: 71].
3 – أما ما رفعه الشرع الإسلامي الحنيف عن المرأة من أحكام، وخُص بها الرجل، كالزيادة في بعض الحالات في الميراث، و الإمامة الكبرى، والأذان… وغيرها، فقد علله الشرع بمقاصد سامية لا تنقص من قيمة المرأة، ولا تحكم عليها بالدونية.
عباد الله، هناك بالمقابل للصنف الذي جعل القوامة سلطة مطلقة في يد الرجل، علماء من القدامى والمحدثين ذهبوا إلى كون القوامة رعاية، ومسؤولية حماية المرأة وصيانتها ، وجلب المصالح لها كيفما كانت نسبتها إلى الرجل وقرابتها منه كانت أما أو زوجة أو بنتا…، والسبب الأساسي في اختلاف العلماء في مفهوم القوامة ناتج عن مدى استقراء لكل النصوص في المسألة، وجمعهم لها، وتوفيقهم بينها ، واستخلاص الحكم منها، فإذا كان القرآن الكريم حمال أوجه، فالسنة القولية والفعلية والتقريرية هي الضابط، وهي التفسير والنموذج التطبيقي والشارح لما ورد في القرآن، مصداقا لقوله تعالى من سورة النحل: (وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ ) [النحل: 44]، لهذا لابد أن نتأمل مفهوم القوامة الصحيح في دائرة النصوص الحديثية المتعددة، والتي توصي بالنساء خيرا، ومنها : ما رواه التِّرمذي وقال: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.، عن أبي هريرةَ رضي الله عنه قَالَ: قالَ رَسُولُ اللَّه ﷺ: (أَكْمَلُ المُؤْمنين إِيمَانًا أَحْسنُهُمْ خُلُقًا، وَخِياركُمْ خيارُكم لِنِسَائِهِم)، وبهذا يُرتفع بمفهوم القوامة من معنى تكفل الرجل بقوته وعضليته وماله ورئاسته، إلى معاني طاعة الله، وطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ورعاية وصيته تجاه النساء، وباستقصاء النصوص الشرعية في هذا المجال، نستخلص أن القوامة هي مسؤولية القيادة الرفيقة، والرعاية الحكيمة، التي يفصلها قوله صلى الله عليه وسلم، فيما رواه البخاري ومسلم، عن ابن عمر رضي الله عنهما قَالَ : سمعت رَسُول الله – صلى الله عليه وسلم – ، يقول : (كُلُّكُمْ رَاعٍ ، وَكُلُّكُمْ مسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتهِ : الإمَامُ رَاعٍ وَمَسْؤولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ ، والرَّجُلُ رَاعٍ في أهْلِهِ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، وَالمَرْأةُ رَاعِيَةٌ في بيْتِ زَوْجِهَا وَمَسْؤُولَةٌ عَنْ رَعِيَّتِهَا، وَالخَادِمُ رَاعٍ في مَالِ سَيِّدِهِ وَمَسؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ، فَكُلُّكُمْ رَاعٍ وَمَسْؤُولٌ عَنْ رَعِيَّتِهِ) . [أخرجه : البخاري7/41 ( 5200 )، ومسلم 6/7 ( 1829)(20)]
عباد الله، إن هذه المسؤولية التي على عاتق الرجل في أهله؛ والتي ذكرها الحديث، هي مسؤولية رفيقة في مجال الكسب والمدافعة والسعي على العيال، تقتضي إعادة حق المرأة المغصوب كما حده شرع الله، كما تقتضي حمايتها من العدوان، وتحرير المرأة من العجز والتبعية الاقتصادية، فيُعطاها حق النفقة زوجا وأما وبنتا، ويعطاها حق المتاع مطلّقة زوجا، وأجرة كريمة عاملة، وأن تهيأ لها ظروف الاستقرار في بيتها، لأن عليها يتوقف استقرار المجتمع والدولة.
عباد الله، إن هذه القوامة التي أناط الشرع بها الرجال، هي رعاية حكيمة، تُقرأ في فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخصوصا في بيته إذ كان في خدمة أهله إذا دخل البيت، روى مسلم عن الأسود بن يزيد رضي الله عنه قال: (سُئلت عائشة -رضى الله عنها- ما كان النبي ﷺ يصنع في بيته؟ قالت: كان يكون في مهنة أهله، يعني: خدمة أهله، فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة) [أخرجه مسلم، باب حديث التعليم في الخطبة (2/ 597)، رقم (876).]، فالصحابة رضي الله عنهم قرأوا القرآن الكريم؛ وقد نزل بلسانهم ، وكانوا يرقبون سلوك الرسول صلى الله عليه وسلم وعمله وهديه الظاهر، في حال مخالطتهم له وبروزه إليهم ﷺ، ولكنه إذا كان في بيته، فإنما يؤخذ ذلك عن أزواجه رضي الله عنهن وأرضاهن.
عباد الله، إن الذي فهم القوامة على أنها سلطة وسيادة مطلقة للرجل على المرأة، فإنه يترفع ويتعاظم، ولربما إذا دخل بيته يكون في حال لا يستطيع أحد أن يرد عليه مقالاً، أو أن يتكلم معه، أو أن يحاوره، بل لا يستطيع أحد أن يسأله، فيكون زوجا وأبا محترما وليس محبوبا، وكم سمعنا من النماذج والأمثلة على ذلك في واقعنا المعيش، نتيجة الفهم الخاطئ للقوامة، حتى إنه لا يستطيع أحد أن يكلم الرجل في بيته بشيء، ولا أن يقترح عليه شيئاً، ولا أن يراجعه في أمر، أو قرار، أو نحو ذلك، لكونه فهم القوامة فهما ناقصا، فوضع لنفسه من المهابة والعظمة، حتى صار بهذه المنزلة في بيته، فهذا لا يمكنه أن يُقْدم على القيام في مهنة أهله في المنزل، كما فعل الرسول صلى الله عليه وسلم، الزوج والأب المحبوب، لأنه يترفع عما هو أدنى منه، وهو المراجعة، والمحاورة، فكيف بالعمل في مهنة الأهل؟!
عباد الله، تقول عائشة رضي الله عنها: “كان يكون في مهنة أهله”، يعني: في خدمة أهله، بمعنى: أنه يرقع ثوبه، ولربما قد يغسله، أو يحك ما يحتاج إلى حك، أو نحو ذلك، ويخصف نعله، ويصلحها، كل هذه الأمور كان صلى الله عليه وسلم يقوم بها في بيته وهو سيد الخلق وحبيب الحق. قالت رضي الله عنها: “فإذا حضرت الصلاة، خرج إلى الصلاة”، بمعنى: أن هذه الأمور لا تشغله عما هو أعظم منها، وهو الصلاة، فالقيام والعمل بخدمة الأهل هو هديه ﷺ، وهديه هو الأكمل، وهو أكمل الناس رجولة، ومروءة.
عباد الله، كثير من الناس تأبى عليهم نفوسهم القيام بخدمة الأهل كما كان يفعل الحبيب المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، حيث تطغى العادات والتقاليد المخالفة للدين الحنيف، على الهدي النبوي السليم، فيرون أن من قلة المروءة، ومن ضعف الرجولة، أن يشتغل الرجل بشيء في مهنة أهله، وإذا ما غسل شيئاً من الأواني -مثلاً- أو كنس شيئاً من الدار، أو نحو ذلك، لربما يُلمز ويُعاب ممن حوله من والد، أو أخ، أو نحو ذلك، لاعتقادهم أن هذا خلاف الرجولة، وأنه قد تحول إلى امرأة، أو إلى خادم لامرأته، أو نحو هذا. فالنبي ﷺ هذه حاله، وهذا توضيح عملي لمعنى القوامة.
عباد الله، لم يقف الأمر عند هذا الحد، بل كانت زوجاته رضي الله عنهن ينازعنه ويراجعنه، فيحلُم ولا يغضب، ويتلطف و يداري، روى مسلم في صحيحه، باب في الإيلاء واعتزال النساء وتخييرهن، أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:(…لَوْ رَأَيْتَنَا يَا رَسُولَ اللَّهِ وَكُنَّا مَعْشَرَ الْقَوْمِ قَوْمًا نَغْلِبُ النِّسَاءَ، فَلَمَّا قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ، وَجَدْنَا قَوْمًا تَغْلِبُهُمْ نِسَاؤُهُمْ، فَطَفِقَ نِسَاؤُنَا يَتَعَلَّمْنَ مِنْ نِسَائِهِمْ، فَتَغَضَّبْتُ عَلَى امْرَأَتِي يَوْمًا، فَإِذَا هِيَ تُرَاجِعُنِي، يَعْنِي فَأَنْكَرْتُ، فَقَالَتْ : مَا تُنْكِرُ أَنْ أُرَاجِعَكَ؟ فَوَ اللَّهِ إِنَّ أَزْوَاجَ النَّبِيّ -صلى الله عليه وسلم- لَيُرَاجِعْنَهُ وَتَهْجُرُهُ إِحْدَاهُنَّ الْيَوْمَ إِلَى اللَّيْلِ، فَقُلْتُ: قَدْ خَابَ مَنْ فَعَلَ ذَلِكَ مِنْهُنَّ وَخَسِرَ، أَفَتَأْمَنُ إِحْدَاهُنَّ أَنْ يَغْضَبَ اللَّهُ عَلَيْهَا لِغَضَبِ رَسُولِ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- ،فَإِذَا هِيَ قَدْ هَلَكَتْ، فَتَبَسَّمَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- …). [صحيح مسلم (4/ 192)ح 3768].
عباد الله، اعتمادا على كل ما سبق، يمكن القول : إن القوامة مسؤولية ورعاية، أوكلها الله تعالى للرجل، لما أودع فيه من صفات فطرية ، كقوة العضل، ورباطة الجأش، وقدرة الكسب، وبالتالي فهي ليست ترجيحا لكفة الرجل، وإنما تثقيل لميزانه بمثاقيل المسؤولية، ليقود السفينة بحنكة ودراية ومداراة، وضمن مسؤولية القوامة، تأتي النفقة على الزوجة، والتي يسيء الكثير من الأزواج فهمها باسم الدين، فيعتقدون أنهم أحرار في التصرف في أموالهم، ينفقون على أنفسهم دون أي حسيب أو رقيب، فيلبسون ما شاءوا، ويأكلون ما شاءوا، ويتجولون أينما شاءوا، ويهملون زوجاتهم. وأبناءهم، وهذا مخالف لهدي الرسول صلى الله عليه وسلم بكل المقاييس، روى أبو داود. بسند حسن، عن معاوية بن حَيْدَةَ رضي الله عنه قال: قلتُ: يا رسول الله، (ما حقُّ زوجة أحدنا عليه؟ قال: أن تُطعِمَها إذا طَعِمْتَ، وتكسُوَها إذا اكتسَيتَ،…) [حديث حسن رواه أبو داود]. فالصحابة رضي الله عنهم كانوا إذا سألوا النبي صلى الله عليه وسلم فإنما يَسألون ليَعمَلوا، لا ليعلَموا فقط؛ ويسألون عن حقوق الغير عليهم، لتبرأ ذمتهم، لأن حقوق العباد مبنية على المشاححة، لهذا كانوا لا يسألون عن حقوقهم على الغير، خلافًا لما عليه كثيرٌ من الناس اليوم، يسألون ليعلَموا، ثم لا يعمل إلا قليلٌ منهم؛ ويسألون عن حقوقهم، ويعرضون عن السؤال عن واجباتهم تجاه الغير، وذلك أن الإنسان إذا عَلِم من شريعة الله ما عَلِم، كان حجَّةً له أو عليه؛ إنْ عمل به فهو حجة له يوم القيامة، وإن لم يعمل به كان حجة عليه يؤاخَذ به.
عباد الله، ما أكثرَ ما كان الصحابة رضي الله عنهم يَسألون النبيَّ صلى الله عليه وسلم عن أمور دينهم، فمعاوية بن حيدة رضي الله عنه، سأل الرسول صلى الله عليه وسلم: “ما حقُّ امرأةِ أحدِنا عليه؟”، قال: (أن تُطعِمَها إذا طَعِمْتَ، وتكسُوَها إذا اكتسَيتَ)؛ يعني لا تخُصَّ نفسَك بالكسوة دونها، ولا بالطعام دونها؛ بل هي شريكة لك في المال الذي تكسبه، يجب عليك أن تُنفِقَ عليها كما تُنفِقُ على نفسك، حتى إن كثيرًا من العلماء يقول: إذا لم يُنفِقِ الرجلُ على زوجته وطالبتْ بالفسخ عند القاضي، فللقاضي أن يفسخ النِّكاح؛ لأنه قصَّر بحقها الواجب لها.
عباد الله، روى الترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. عن عَمْرو بنِ الأَحْوَصِ الجُشميِّ رضي الله عنه: أَنَّهُ سمِعَ النَّبيَّ ﷺ في حَجَّةِ الْوَداع يقُولُ بَعْدَ أَنْ حَمِدَ اللَّه تَعَالَى، وَأَثنَى علَيْهِ، وذكَّر ووعظَ، ثُمَّ قَالَ: (أَلا واسْتَوْصُوا بِالنِّساءِ خَيْرًا، فَإِنَّمَا هُنَّ عَوانٌ عِنْدَكُمْ، لَيْس تَمْلكُونَ مِنْهُنَّ شَيْئًا غيْرَ ذلِكَ، إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحشةٍ مُبَيِّنةٍ، …. أَلا إِنَّ لَكُمْ عَلَى نِسائِكُمْ حَقًّا، ولِنِسائِكُمْ عَلَيْكُمْ حَقًّا، فَحَقُّكُمْ عَلَيْهنَّ أَن لا يُوطِئْنَ فُرُشَكمْ مَنْ تَكْرهونَ، وَلا يأْذَنَّ في بُيُوتكمْ لِمَن تكْرهونَ، أَلا وحقُّهُنَّ عَلَيْكُمْ أَن تُحْسِنُوا إِليْهنَّ في كسْوتِهِنَّ وَطعامهنَّ). [رواه الترمذي وَقالَ: حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.]
عباد الله، هذه الأحاديث التي ذكرنا، وذكّرنا بها الأزواج، فيما يتعلق بحق النساء على أزواجهنَّ، والله عز وجل يقول في كتابه الكريم في سورة النساء: (وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ) [النساء:19]، وقال تعالى في سورة البقرة: (وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ) [البقرة:228]، فأمر سبحانه وتعالى بأن يُعاشرن بالمعروف، وأخبر أنَّ لهن مثل الذي عليهن بالمعروف، من: الإحسان، وطيب الكلام، وأداء الحقِّ، فلها حقٌّ وعليها حقٌّ، فعلى الزوج إحسان العشرة، وطيب الكلام، وحُسن الخلق، والإنفاق، والاستيصاء بها خيرًا، وتوجيهها إلى الخير، إلى غير هذا، وعليها السمع والطاعة في نفسها، وفي بيتها، وألا تُوطئ فراشه مَن يكره، وألا تأذن في بيته لمن يكره.
وفي خطبة الوداع يقول عليه الصلاة والسلام: (ولهنَّ عليكم: زرقهنَّ وكسوتهنَّ بالمعروف، ولكم عليهنَّ: ألا يُوطئن فرشكم مَن تكرهون، وألا يأذَنَّ في بيوتكم لمن تكرهون).
عباد الله، في حديث معاوية بن حيدة السابق، لما قال: يا رسول الله، ما حق زوجة أحدنا عليه؟ فأجابه الرسول صلى الله عليه وسلم: تُطعمها إذا طعمت، وتكسوها إذا اكتسيتَ…، يعني: تكون طيب العشرة، طيب الخلق، تُطعمها من طعامك، وتكسوها من كسوتك، فتكون عادلًا في الكسوة والطعام، هكذا المؤمن مع أهله: يُعاشر بالمعروف، ويتكلم بالطيب، ويُحسن إليها في خلقه، وفي أعماله كلها، لا يكون فظًّا غليظًا، ولا مسرفًا، ولا سخَّابًا، ولا لعَّانًا، بل يستوصي بهن خيرًا، وعليها هي أيضًا أن تقوم بالواجب، وأن تُحسن العشرة، وأن تمتثل أمره في المعروف، وألا تأذن في بيته بغير إذنه، وألا تُوطئ فراشه مَن يكره، فعلى كلٍّ منهما التَّحبب إلى الآخر بالكلام الطيب، والفعل الطيب الجميل. وفي الحديث الآخر يقول ﷺ: (أكمل المؤمنين إيمانًا: أحسنهم خلقًا).
عباد الله، إن حُسن الخلق من كمال الإيمان، والمؤمن: طيب الكلام، طيب السلام، طيب المعاشرة، وحُسن الخلق من خصال الإيمان، ومن كمال الإيمان: فأكمل المؤمنين إيمانًا أحسنهم خلقًا، وحُسن الخلق من أهم المهمات، ومن أفضل القربات، فالمؤمن يعتني بحسن الخلق مع أهل بيته، ومع أقاربه، ومع جيرانه، ومع جلسائه، يقول ﷺ: (البر حُسن الخلق)، هذا كلامٌ عظيمٌ، ويقول ﷺ: (إنَّ أحبكم إليَّ وأقربكم مني مجلسًا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقًا). فحسن الخلق له منزلةٌ عظيمة، ولا سيَّما مع الزوجة، والأولاد، ومع الأهل، ومع الأقارب، ومع أهل الخير، (وخياركم خياركم لنسائهم)، يعني: خياركم في المعروف، خياركم لنسائهم في الكلام الطيب، والأسلوب الحسن، والعشرة الطيبة، وعدم الظلم، وعدم التعدي. روى أبو داود، كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، عن عبد الله بن عمرو بن العاص-رضي الله عنهما- قال: قال رسول الله ﷺ: (كفى بالمرء إثماً أن يضيّع من يَقُوت) [أخرجه أبو داود، كتاب الزكاة، باب في صلة الرحم، (3/ 118)، رقم: (1692)]. وكلمة كفى: تشعر بأن هذا الفعل هو بذاته وحده، إثمه يكفي في هلاك صاحبه، فما هو هذا الشيء الوحيد الذي يكفي إثمه في إهلاك فاعله؟ هو أن يضيع المرء من يعول، من عال يعول، وعال يعيل، أي: ينفق، أي: من تلزمه نفقته، وفي الحديث تحذير من النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: (كفى بالمرء)، والمرء مذكر، ومثله امرؤ، ومؤنثه امرأة. أي: الإنسان مطلقاً، ويشمل المرأة. وقوله صلى الله عليه وسلم: (إثماً) أي: ذنباً عظيماً، (أن يضيع): ويكون التضييع بأحد وجهين:
الوجه الأول: أن يكون غنياً ويمسك النفقة بخلاً أو تغافلاً أو سهواً، أو يقدم غير من يعولهم على من يعولهم، أو لكون العائل ينفق ماله في مباحات يسرف على نفسه بها، ويترك النفقة على من يعولهم.
الوجه الثاني: كونه لا يجد النفقة ولم يتصرف معهم تصرف المعذور المعسر.
عباد الله، إذا كان الأمر كذلك، في شأن وجوب نفقة الزوج على زوجته شرعا، وعلى من يعول، فإن من وجبت نفقة إنسان عليه، فعليه أن يبادر وأن يقدم له ما يعوله، وهل يدفع له نفقته يومياً أو أسبوعياً أو شهرياً أو سنوياً؟ كل ذلك بحسب الاتفاق، وإن تنازعوا فيوم بيوم؛ لأن كل يوم له نفقة مستقلة.
والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.