درس بين فطرة الحليب وسكرة الخمر |سلسلة خطبة الجمعة
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
درس بين فطرة الحليب وسكرة الخمر |سلسلة خطبة الجمعة
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله الذي خلق الإنسان قابلا بطبعه لقواعد الفطرة، إذا أخذ بمقتضيات العقل والفكرة، واجتنب مستنقعات الجهل والسَّكرة، وأشهد أن لا إله إلا الله ليس كمثله شيء حكمة وقدرة، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله الذي نال بالإسراء والمعراج من التكريم التمام والوفرة، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين الذين اتخذوه أسوة فردا وأسرة.
أما بعد، فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قدمنا لكم في الجمعة الماضية أننا في شهر رجب، يحمل إلينا في طياته ذكريات عظيمة، من السيرة النبوية العطرة؛ منها معجزة الإسراء والمعراج التي وقعت فيه على المشهور.
هذه المعجزة الكبرى التي تعد مدرسة عظيمة، أستاذها سيدنا محمدﷺ، وحارسها العام جبريل عليه السلام، ومديرها ومدبرها الله سبحانه وتعالى، وتلامذتها أمة الإسلام، فهي رحلة تشريعية بصحبة جبريل عليه السلام، فيها من الأخلاق والعقائد والأحكام ما يميز بين المؤمنين الصادقين، وبين المفسدين المترددين؛ حين أسرى الله بعبدهﷺ في رحلة أرضية مباركة من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ثم عرج به في رحلة سماوية فضائية مباركة إلى فوق سبع سماوات، ثم إلى قاب قوسين أو أدنى، وهناك رأى من آيات ربه الكبرى…
وقدمنا لكم من دروسها (في إطار توظيف السيرة النبوية في عملية الإصلاح) درسا في طرد اليأس من القلوب وبناء الرجاء والأمل، ثم درسا في وجوب الاعتقاد بعصمة الأنبياء، وعدم الانخداع بتزكية النفس مهما كان الإنسان.
فتعالوا بنا اليوم لنكشف الستار عن درسا آخر من دروس مدرسة الإسراء، وهو درس في الفطرة؛ فحينما نستدعي هنا عملية الإصلاح إذن هناك فساد يجب إصلاحه، نعم هناك فساد أفسد الفطرة في الدين والدنيا؛ هذه الفطرة التي كبدتها شوارعنا خسائر فادحة، ونالت منها أعمال الفجور ونوادي الخمور، وحرفتها الشهوات، ودنستها الشُبُهات، وأتى على ما تبقى منها أفلام الهوى في الهواء، ومواقع العري في العراء.
أيها الإخوة المؤمنون؛ لما ركب النبيﷺ البراق في مكة، وفي أقل من لمح البصـر، وصلﷺ المسجد الأقصـى، فوجد في استقباله الأنبياء والمرسلين، من لدن آدم إلى عيسى عليهم السلام، بُعثوا كلهم إكراما لخاتم الأنبياء، فصلىﷺ بهم إماما، فنال مرتبة إمام الأنبياء والمرسلين، وفي مراسيم هذا الاستقبال في القدس قُدِّم لهﷺ الخمر والحليب فاختارﷺ الحليب ورفض الخمر؛ فزكى جبريل عليه السلام اختياره وصادق عليه فقال فيما روى البخاري ومسلم: «أصبت الفطرة؛ أما إنك لو أخذت الخمر غَوَتْ أمتُك».
وهل تدرون ما معنى الفطرة؟ إنها بيئة الإنسان التي أبدعه الله عليها، وطبيعته التي خلقه الله عليها، وهي وضع كل شيء في محله الذي يليق به، فإذا جاوز الشيء حده، أو وضع في غير محله، أو تسبب في إضرار الإنسان في دينه ودنياه، فهو إخلال بهذه الفطرة قال الله تعالى: {فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ الله ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ}، والفطرة على نوعين: فطرة الدين، وفطرة البدن.
ومن الإسراء نتعلم أن الحليب يوافق الفطرة بنوعيها: فطرة الدين لأنه حلال، وفطرة البدن لأن الإنسان يحتاج بطبيعته إلى الحليب ومشتقاته، فالحليب يحتوي على مواد تتقوى بها عظام الإنسان وعضلاته، وهذا دليل على أن الإسلام دين الفطرة، يلائم طبيعة البشر فالبعد عن الإسلام هو بعد عن الطبيعة البشرية، يقول الرسولﷺ: «كل مولود يولد على الفطرة فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه…»، أليس الإنسان عندما يولد لا يتغذى إلا بفطرة الحليب؟ فهو أيضا لا يقبل إلا فطرة الإيمان؛ فلو اختار النبيﷺ الخمر لكانت الأمهات اليوم يقدمن لأطفالهن (الويسكي) في الرضَّاعات.
ومن الإسراء نتعلم أيضا أن الخمر يفسد الفطرة؛ فقد رفضه الرسولﷺ ليلة الإسراء لأنه يفسد الفطرة بنوعيها: فطرة الدين، وفطرة البدن.
يفسد فطرة الدين لأنه حرام، ولأن الإيمان مع الخمر لا يجتمعان؛ قال النبيﷺ: «من زنى أو شرب الخمر، نزع الله منه الإيمان كما يخلع الإنسان القميص من رأسه»، وقالﷺ: «…لا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن…»، وقالﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم فلا يشربْ الخمر»، وعبادات شاربها مردودة عليه وغير مقبولة، قالﷺ: «الخمر أم الخبائث، ومن شربها لم يقبل الله منه صلاة أربعين يوما، فإن مات وهي في بطنه، مات ميتة جاهلية».
ويفسد أيضا فطرة البدن؛ لأن الأمراض التي يكبدها الخمر جسد السكارى والمدمنين كثيرة جدا، وخطيرة جدا، أمراض تقشعر من ذكرها الجلود، وقد وصلت إلى أرقام مخيفة، وعدت ضحاياها بالآلاف منها: السرطان، تشمع الكبد، أمراض البنكرياس، أمراض العقل، أمراض الجهاز الهضمي.
نعم الخمر يفسد الفطرة؛ لأنه يُحوِّل الإنسان إلى بهيمة عجماء، قد فقد عقله وغاب وعيه، يقول الرسولﷺ: «الخمر أم الفواحش، وأكبر الكبائر، من شربها وقع (أي زنى) على أمه وخالته وعمته» وفي رواية: «الخمر أم الخبائث…»، وفي رواية: «اجتنبوا الخمر فإنها مفتاح كل شر»، يقول النبيﷺ: «إن الله لعن الخمر، وعاصرها، ومعتصرها، وبائعها، ومبتاعها، وشاربها، وآكل ثمنها، وحاملها، والمحمولة إليه، وساقيها، ومستقيها»؛ وقد أقامﷺ حصارا خانقا على الخمور، فأوجب قطع جميع العلاقات بها؛ بل منعﷺ حتى مجرد الجلوس على مائدة تدار فيها كؤوسها على أصحابها، فقالﷺ: «من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يجلسْ على مائدة يُشرَبُ عليها الخمر»؛ فمجرد جلوس المسلم على مائدة الخمر جريمة، فكيف ببائعها وشاربها؟
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العالمين….
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ إن الوقوف في الإسراء عند هذا الحدث، يفرض علينا أن نحافظ على فطرتنا، يفرض علينا أن تقتدي بالنبيﷺ في اختياره اللبن والحليب، ورفضه الخمر والمخدرات، يفرض علينا أن نقف ضد المخدرات التي يعاني منها مجتمعنا اليوم، يفرض على الآباء أن يراقبوا أبناءهم، وأن يقتربوا منهم، وأن يكونوا لهم خير أصدقاء، وأن يشاركوهم في أمورهم الخاصة، لئلا يسوقهم قرناء السوء إلى أوكار الخمور، وإلى الوقوع فريسة لسموم المخدرات؛ ولا فرق بين الخمر والمخدرات، فالرسولﷺ يقول: «كل مسكر حرام» «والخمر هو ما خامر العقل» وستره، وأزال فطرة الإنسان عن موقعها، وفعل المخدرات في ذلك واضح وليست أقل ضررا من الخمور، فإذا كانت الخمر أمَّ الخبائث فإن المخدرات هي أبو الخبائث وجدها وأصل كل خبيث؛ فالفساد بكل أشكاله هي هذا الثالوث الخبيث، هي هذا المثلث المتلازم الخطير (الدعارة، والخمور، والقمار)، فلا يكاد أحدها ينزل بمكان إلا ووجدت بجانبه الآخَرَيْن، فهذا المثلث هو البنية التحتية والفوقية لكل فسق وفساد، ولا يكاد رجال الأمن والمباحث يحققون في جريمة مَّا إلا ووجدوا أن لها صلة بهذا المثلث، إلا ووجدوا بذورها وفروعها وأصلها وفصلها من هذا المثلث، ولا يكاد قسم المستعجلات في المستشفيات تستقبل بالليل إلا ضحايا حوادث هذا المثلث؛ بل هذا المثلث هو علامة من علامات الساعة؛ فقد روى البخاري ومسلم وأحمد أن الرسول رسول اللهﷺ قال: «إن من أشراط الساعة، أن يرفع العلم، ويظهر الجهل، ويُشرَب الخمر، ويفشو الزنا، ويقل الرجال، ويكثر النساء، حتى يكون لخمسين امرأةً قيِّمٌ واحد».
ألا فاتقوا الله عباد الله وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ.