أعتذر للأدب..
بقلم: د.عبد القادر الدحمني
أعتذر للأدب، لأنه عندما سحرني أوَّل مرة، لم تكن لي مكتبة عامرة أُغرِقُ فيها سنينَ يفاعتي، سوى صندوق عتيق مما تركه جدّي بعد أن تقاذفت مكتبتَه أيادٍ لا تعرف قيمة الكتب وسطوة الأوراق المُسَوَّدَة، ذلك الصندوق الذي شدّني إليه، بما بقي فيه من كتب ومخطوطات قليلة، منعتني الرهبة من سماقها أن أنبش فيها، وزادتني حكايات ارتباط الكتب بعالم الجن توجُّسا ونكوصا..
أعتذر للأدب، لأنني لم أدخله إلا من نافذة فتاة أحببتُها، وصارعتُ طويلا بعض العبارات كي أقول خجلي ونبضي، وأفهم ما يحدث لي، وأقنعها بمأساتي عبثا..
أعتذر للأدب لأنني لم أعرفه إلا خيالا مُجنَّحا مع جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة، ولم أره سوى آلامَ حبٍّ وعذابِ اغترابٍ مع لطفي المنفلوطي وأشعار معروف الروصافي وأبي القاسم الشابي، فكان الأدب لغة مسبوكة تقطر حنينا، وتعبيرا متوثِّبا يفرُّ إلى الطبيعة ويسكن المروج والوهادَ، ويقيمُ في أدغال الغابات ونواح النايات..
أعتذر للأدب لأن الحاجة صدّت عنّي قليلا لوعتَه المسمومة، وقاوم فقري انجرافي الكُلِّيِّ في مهاويه، فزكَّتْ بعضُ أنديةِ الكتب تلك السُّمِّيَّةَ القاتلةَ، ودعّمتْ رفقةُ بعض المجانين تَرَدِّيَّ بالكتب المُعارةِ وأحاديثِ الأدب التي تحوّلت إلى لعنةِ الليل وجنون التشخيص والتقمُّص.
أعتذر للأدب، لأنني حاولت مرارا ترك دروبه والانفلات من قبضته نحو مطالب العيش المُرِّ وحسابات الواقع المُكَشِّرَة، قبل أن أعود إلى حضنه هاربا من لأواء القسوة وجحيم الصرامة الجاحظة لدروب الدنيا، وكدتُ مرارا أن أكفر به وأجحدَ فضلَه لولا ما كان يَهُبُّ عليَّ من قِبَلِهِ، نسيما ينسيني عذابات الأفق المُسْوَدِّ، وظلًّا يواسي هروبي من لفح صحراء المعنى، ونضوبِ ماء الصدور، مقابلَ انتفاشِ الفراغ وسطوة الخيبات.
أعتذر للأدب لأنني زاحمتُ وجودَه في حياتي بزواج مُبكِّرٍ حذَّرَني منه الكُتَّابُ وقالوا بأنه سيقتلُه ويُفنيه، ورغم ذلك قاومتُ الغَيْرةَ والإهمالَ والتنافسَ الحادَّ العنيف، وحفرتُ له كهوفا آويتُهُ فيها من سخافةِ الروتين المنزليِّ المخيف، وسترتُه بالتنكُّر في زيِّ واجبات العمل المحترمة، وأخذتُهُ بعيدا في أدغال الوقت المتأخِّرِ وكراسي المقاهي اللاغطة بجدالات الكرة وصدى القهقهات الغريبة، وأنعشتُ وحشَتَهُ بكتمان ما يُصرَفُ في سبيلِه عن عينِ رقيبِ الحسابِ وافتحاصِ الميزانية الهزيلة.
أعتذر للأدب، لأنني، إلى جانب إصدار بعض الكُتُب والتّلَكُّؤِ في أخرى، أخذتني، دون رغبةٍ أكيدةٍ مني، أقدارٌ قاهرة، فألّفتُ عيالا وأوهاما مُلوّنَةً وعادات سيّئة كثيرة، لكن يشفع لي أنني بَذَلتُ في سبيله طموحا رياضيا مبكِّرا، وأنفقتُ عليه يسارا مُغريا رامه البعض متطاولا في بنيان إسمنتٍ أو مغذِّيًا رغبة تملُّكٍ لا تتوقّف.
أعتذر للأدب لأنني لا زلت أقاوم غارات الشكّ التي تهجم عليّ صباح مساء، فتكاد تعصفُ بإيماني، وتطوِّحُ بشغفي، لأنفض يدي وقلبي من وجوده وجدواه، لكن يفضح يقينا عميقا لدي، لا أدري من أين يأتيني، مسارعتي لصدِّ انشغالي بالتّفاهة عنه، وأقاوم، بشجاعة – لا أفهم كيف تواتيني في أجواء اليأس المحيطة- فأتصدّي للخواء الهاجم وحدي، وأغرس خطواتي في العمق مخافة التضعضع، وأجعل المعنى سندي والقصدَ سهمي، عسى تنفتحَ للنصر آفاق دانية، وتسطعَ في الظلمات أنوار زاهية.
وأعتذر للأدب، منه، وعنه أيضا، لأنّه شديد الدّلال والتِّيهِ، فلا يرضى إلا بعد تقديم قربان الولاء والوفاء، ولا يُسَلِّمُ نفسَهُ تماما، مهما بلغ له التجرُّد، ومهما رأى من حجمِ التودُّد.