العشر من ذي الحجة وفلسفة التعظيم والعمل
العشر من ذي الحجة وفلسفة التعظيم والعمل / رشيد الذاكر
العشر من ذي الحجة وفلسفة التعظيم والعمل
ذ. رشيد الذاكر
إن الإسلام ليس فلسفة تجريدية فحسب، وإنما هو نظر عقلي يَستضيء بنور الوحي ليحول الحقيقة إلى عمل، فلا يَعرفُ طُرق الخير ليحتفظ بها في الأذهان، ولكنه يتلمس سبل الهداية فيسلكها، ويعرف مسالك البر فليتزمها، وكلما لاحت له منارات الخير: إلا سارع نحوها وسابق في السير إليها.
هذه صبغة المؤمن وطينته التي طبع عليها: المسابقة إلى الخيرات وتلمس أبواب الفضائل ومواسم الطاعات، والتي هي باب التزود للدار الاخرة {وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى} [البقرة: 197]
وإن من أعظم مواسم الطاعات التي لا ينبغي أن تغيب عن فكر المؤمن السائر إلى الله تعالى: موسم العشر من ذي الحجة، وإن أعظم ما يجب أن يتعلمه الإنسان كي يسعى للعمل فيها، هو تعظيمها ومعرفة فضلها، وقبل الوقوف مع جوانب من فضائل هذه العشر نقدم بين يديها أربع قواعد مؤسسة لباب استثمار مواسم الخيرات.
القاعدة الأولى: مواسم الطاعات فضل من الله على المسلم:
وهي قاعدة تستوجب الاهتمام وتكرار النظر في رحمة الله وفضله، فيدفع ذلك المؤمن للفرح بهذا الفضل { قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } [يونس: 58] والفرح بالشيء يدفع للعمل، والعمل هو مطلب الإسلام من المؤمن.
القاعدة الثانية: مواسم الطاعات متفرقة ومتوعة:
فنجد في اليوم: وقت السحر، وفي الاسبوع: يوم الجمعة، وفي الشهر: أيام البيض، وفي السنة: شهر رمضان، وفي الليلي: ليلة القدر، وفي الأيام: العشرة من ذي الحجة … إن هذا التنوع الذي أعطانا الله إياه يستوجب الشكر، ولا شكر بدون طاعة.
القاعدة الثالثة: مواسم الطاعات اختصار للمسافات، واستدراك لما فات، واستعداد لما هو آت:
وذلك أن الحياة سير إلى الاخرة، ولا سير بدون زاد، ولكن الدنيا وما فيها مشغلة عن التزود المستمر والدائم، فكان من رحمة الباري جل وعلا: أن يسر لنا مواسم الطاعات، وجعلها أياما معدودات: العمل فيها قليل والأجر عليها كثير، الأمر الذي يستوجب إمداد ينبوع المحبة لله تعالى، هذه المحبة التي كلما ازداد حجمها: ازدات الطاعة معها.
القاعدة الرابعة: المسارعة منهاج المسلم في مواسم الطاعات:
عندما نعلم عظم الأجر المضاعف على العمل الصالح في مواسم الخيرات، فإن نفس المسلم تَدفعُ عنها كل فتور أو تهاون في العمل والمسارعة استجابة لنداء الله تعالى: {وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَالضَّرَّاءِ وَالْكَاظِمِينَ الْغَيْظَ وَالْعَافِينَ عَنِ النَّاسِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ} [آل عمران: 133، 134]
إن هذه القواعد الأربعة كافية، لكل مؤمن محب لله تعالى، ومحب لنبيه صلى الله عليه وسلم، ومحب لدينه العظيم أن يكون ساعيا قدر استطاعته: في استثمار واستغلال العشر الأوائل من ذي الحجة، فكيف يكون الحال لو علمت النفس ما فيها من الخيرات، وما تحصله من القربات؟
ومن أجل زيادة تعظيم هذه العشر في نفوسنا نورد ما جاء فيها من فضائل:
أولا: القسم بها في القرآن: قال الله تعالى: {وَالْفَجْرِ وَلَيَالٍ عَشْرٍ وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ} [الفجر: 1 – 5] قال الحافظ ابن كثير رحمه الله ” والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة (وهو قول ابن عباس وابن الزبير ومجاهد وغير واحد من السلف والخلف)[1] ” والقاعدة الإيمانية الراسخة عندنا أنه ما أقسم الله تعالى بشيء إلا لعظم قدره، فإن تعلق به عمل وجب القيام به على الوجه الذي يرضي الله سبحانه وتعالى.
ثانيا: جعلها القرآن الكريم مُوسما لذكره سبحانه و تعالى: قال الله عز وجل: {وَأَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجَالًا وَعَلَى كُلِّ ضَامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ لِيَشْهَدُوا مَنَافِعَ لَهُمْ وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ عَلَى مَا رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعَامِ فَكُلُوا مِنْهَا وَأَطْعِمُوا الْبَائِسَ الْفَقِيرَ} [الحج: 27، 28] والأيام المعلومات على أحد وجوه التفسير يراد بها “عَشْرُ ذِي الْحِجَّةِ، وآخِرُهَا يَوْمُ النَّحْرِ” [2]. فهي أيام الآمر فيها بالذكر هو الله تعالى، ولا يليق بذات المؤمن أن لا تكون مسارعة للإستجابة لهذا النداء.
ثالثا: تفضيل النبي صلى الله عليه وسلم العمل فيها على العمل في غيرها: عن ابن عباس رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام» يعني أيام العشر، قالوا: يا رسول الله، ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: «ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجل خرج بنفسه وماله، فلم يرجع من ذلك بشيء[3]» . فإذا كان العمل فيها بهذا الكرم والعطاء، والنفوس طالبة للحسنات فآرة من المعاصي والسيئات: حرك ذلك دواعي الطلب، وأخرج الروح من سجن الغفلة إلى اليقظة والتشمير، والجد والنفير.
رابعا: في تاسعها يوم عرفة: ويكفي اسمها عن ذكر فضلها، فهي يوم المغفرة والاستجابة واليوم المشهود، ولا يوازي صيامها – لغير الحاج – غيرها في فضل المغفرة: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “صيام يوم عرفه أحتسب على الله أن يكفّر السنة التي قبله والسنة التي بعده”[4]، ومن محاسن يوم العرفة أن نزلت فيه آية فاصلة، للقلوب مثبتة على الطريق، وللنفوس موصلة لذروة اليقين: قال ربي جل في علاه: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا} [المائدة: 3] وقد قال أحدهم: لعمر بن الخطاب معلقا على الآية: يا أمير المؤمنين، آية في كتابكم تقرءونها، لو علينا معشر اليهود نزلت، لاتخذنا ذلك اليوم عيدا. فأجابه عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «قد عرفنا ذلك اليوم، والمكان الذي نزلت فيه على النبي صلى الله عليه وسلم، وهو قائم بعرفة يوم جمعة»[5].
خامسا: في عاشرها يوم النحر: وهو يوم الفرحة والبهجة في نفوس الصغار والكبار فيها عبادة هي عنوان التوحيد: وهي نحر الأضحية، قال الله تعالى: { قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } [الأنعام: 162] فالمسلم الصادق في إيمانه يجعل كل أمره لله تعالى، وعلى رأس الأمور الصلاة والنسك، فإذا كان المسلم هو الإنسان الوحيد في هذه الدنيا الذي حافظ على توحيد الله تعالى، فإن صدق ذلك في يوم النحر: أن تكون الذبيحة لله تعالى، إحياء لذكرى سيد الموحدين إبراهيم عليه السلام {مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ } [آل عمران: 67]
سادسا: في هذه الإيام تكون جُل أعمال الحج: فهو يبتدئ من يوم الثامن مرورا بعرفة، إلى يوم النحر، وفيها يكون التحلل بعد طواف الإفاضة، ولأجل هذه الخيرات شرع للمؤمن غير الحاج أن يلتزم فيها ببعض ما يفعله الحاج في مكة: وهو عدم قص الشعر والأظفار لكل من يريد أن يضحي: فعن أم سلمة رضي الله عنها، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «إذا دخلت العشر، وأراد أحدكم أن يضحي، فلا يمس من شعره وبشره شيئا»[6]، ولا يخفى عليك وأنت تقرأ هذا الحديث من رمزية التجرد من الدنيا، الذي يجعل الإنسان يدرك حقيقة الوجود فيها ليبقى قلبا وقالبا مرتبطا أشد الارتباط بإعلان الكلي للتوحيد: {قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ} [الأنعام: 162]
إن النفسا المؤمنة بالله تعالى عندما تقف أمام كل هذه المعاني، لابد أن تعيد النظر في مواسم الخيرات، فإن وجدت خيرا فلتستمر في الطريق، وتصلح ما بقي، وإن وجدت غير ذلك، فلتعد تهيئة القلب والعقل كيف تعيدهما إلى حب استثمار مواسم الخيرات، الموصلة إلى جنة: {عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ ذَلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ} [الحديد: 21]
[1] إسماعيل بن عمر بن كثير، تفسير القرآن العظيم، تحقيق: سامي بن محمد سلامة، دار طيبة للنشر والتوزيع: الطبعة: الثانية 1420 – 1999 ص 8/390
[2] محمد بن عبد الله: أبي زَمَنِين، تفسير القرآن العزيز، تحقيق: أبو عبد الله حسين بن عكاشة – محمد بن مصطفى الكنز، الفاروق الحديثة –القاهرة – الطبعة الأولى (1423ـ – 2002) ص 3/ 178
[3] رواه البخاري في صحيحه برقم 969، واللفظ لأبي داود في سننه برقم 2438
[4] رواه مسلم في صحيحه برقم (1162)
[5] متفق عليه البخاري برقم (45) ومسلم برقم (3017)