جزيرة جوز الهند
بقلم: عادل زروق
عشية هذا اليوم، حدث أمر طريف، حدث يشبه في بدايته أفلام الرعب، وأحببت أن أشارك معكم التجربة، كنت على ظهر القارب في رحلة سياحية من ميناء كورون إلى جزيرة جوز الهند، جزيرة صغيرة ذات رمال بيضاء يكثر فيها نخيل جوز الهند، وخلال هذه الرحلة تعطل المحرك، وتوقف بنا القارب وسط البحر.
انطلقنا صباحا على الساعة التاسعة، بسم الله مجراها ومرساها، وإلى حد الساعات الأولى من انطلاق القارب كانت الأمور تحت السيطرة، الركاب في استرخاء جميل، منا من يتأمل الجبال الخضراء ويذكر الله بديع السماوات والأرض، ومنا من هو ساه في هاتفه ينشر الصور وينتظر التعليقات، ومنا من لا يفوت فرصة ليتبادل الحساب ورقم الهاتف مع الجالسين من حوله.
كل الركاب على القارب يعرفون معنى “الجلوس على المقعد”، إلا راكبة من بلد آسيوي، أظنها كورية تشتغل عارضة أزياء، أو على الأقل كانت هذه وظيفتها على متن القارب، كانت الكورية تلبس فستانا أبيض وتجلس في كل مكان من القارب لتلتقط الصور، تستلقي مرة على ظهرها ومرة على بطنها، والغريب أنها لا تشعر بأدنى حرج من الركاب، كانت تفعل ذلك بإصرار وثقة في النفس، وكل شيء يهون عندها في سبيل صور جميلة، وعالم اليوم -للأسف- لا يؤمن إلا بالصور، والفيديوهات الجميلة.
كنت أنظر إليها وأضحك على نفسي، أضحك على الحرج الكبير الذي أجده كلما واجهت عدسة الكاميرا، وأذكر الاستعداد الذي كنت -ولازلت- أبذله، والرهبة التي كانت تغمرني وأنا صغير أمام المصور الفوتوغرافي، ولولا الدخول المدرسي وواجب التقاط الصور الشمسية لما ذهبت إلى استوديو التصوير، والحمد لله أن التقطت تلك الصور، وإلا لما عرفت وجهي كيف كان أيام الطفولة.
على القارب كان معنا مجموعة من السياح، الظاهر أنهم أصدقاء يتعارفون من زمن بعيد، وما جعلني أجزم بذلك هو النظرة اليابسة الباردة التي تسود بينهم، ولا غرابة في ذلك، فلقد رأيت نفس النظرة اليابسة بين أزواج، وبين عائلات وجيران، وبين إخوان وزملاء في العمل، بعد سنوات قليلة ينطفئ في أعينهم ذلك البريق الذي يسود البدايات.. وما أجمل صدق البدايات وفرح البدايات، آه لو يدوم ذلك الفرح، وتدوم تلك المحبة، ولكن دوام الحال من المحال، إلا بين الأصفياء، وقليل ما هم.
كان أكبرنا سنا على القارب رجل بين الستين والسبعين، معه مرافقة فلبينية، كان يحمل آلة تصوير، ويده ترتعش كلما أراد التقاط صورة، والذي أعجبني في الرجل أنه كان يلقي بصره بعيدا، ولا ينظر إلى وجوه الركاب إلا نادرا، تأملت ملامحه ثلاث مرات فوجدته يبتسم، كان يبتسم ابتسامة عريضة، كأنه يدنو من شيء طال انتظاره، كأن آخر أمله في الحياة أن تطأ قدماه هذه الجزيرة الاستوائية ذات النخيل والرمال البيضاء.
وفي جهتي المقابلة، راكبة فلبينية أمامي مباشرة، سميتها “صابرين”، كانت “صابرين” تعيش المعاناة مع رائحة البنزين المنبعث من المحرك، ولا يشغلها في هذه الرحلة إلا بطنها مع دوار البحر، وكنت كلما رأيت “صابرين” أسرعت في غض البصر، ليس لأنها جميلة، ولكن لأن ما أصابها من دوار البحر أصابني، وكما نقول بالدارجة: “دخت” و “تروعت” ولست أحسن حالا منها إلا بالصبر، وكلنا في هذه الرحلة “صابرين” و “مروعين”.
كان هذا هو حالنا على القارب تقريبا، وكاد الملل يتسرب إلينا جميعا لولا أن سمعنا صوت فرقعة.. بدأت الهمهمة بين الطاقم، انقطع بعدها تماما صوت المحرك، وانطلق بعض الركاب نحو الربان يتساءلون في غباء مصطنع.. ماذا حدث؟
كان الأمر واضحا ولا يحتاج إلى تفسير، تعطل المحرك.
فتح الربان بوابة من تحت أقدامنا فتصاعد من المحرك دخان أسود، انشغل الطاقم بحثا في الحلول البدائية، وتجمع أهل الفضول حولهم يشاهدون، وهنا رجعت بي الذاكرة لمدينة الرباط، و ذكرت الحافلة الصفراء التي كنت أركبها كل يوم للذهاب إلى الجامعة، كانت الحافلة مثل هذا القارب في عدم توازنها، وكان من عادتها التوقف فجأة وسط الشارع، أما منظر الدخان الأسود، فقد كان مألوفا عند كثير من الركاب، ولا يخيفنا عند رؤيته إلا أن نفقد قيمة الرحلة.
كانت مدة الوقوف في البحر نصف ساعة تقريبا، لكنها كانت كافية لينسج كل راكب من خياله قصة رعب، أو قصة مغامرة يكون فيها هو البطل، ولابد لجمال الحبكة من إضافة صراع على الزعامة بين الركاب، وظهور مفاجئ لسمك القرش، وسقوط أحد الركاب في البحر، وهجوم القراصنة لزيادة التشويق وإضافة قليل من الحركة، ولكن لحسن الحظ لم يحدث شيء من ذلك.
كان عددنا على القارب واحدا وعشرين بالضبط، وعدد الطاقم أربعة، ولا أكذب وأقول أن الركاب بلغت قلوبهم الحناجر، ولا أدعي أنني كنت بينهم الوحيد الذي حافظ على هدوئه، حتى “صابرين” كانت على ما يرام بعد توقف القارب، وما كان يزيد البال راحة أن هذا الخليج آمن، ولا قرش فيه ولا هم يحزنون، اللهم بعض السلاحف النباتية والأسماك الملونة التي تظهر لنا واضحة من شدة صفاء المياه.
الموقف غير منتظر، ولا أحد منا يحب أن يتوقف به قارب وسط البحر، ولكن بعض الركاب كانوا يبالغون في شدة خوفهم وخفتهم وانفعالهم، ما إن توقف المحرك وظهر الدخان.. حتى نهضوا من مقاعدهم وبدأوا في الحركة من هنا إلى هناك، لا يتوقفون كعقارب الساعة.
خرجت قيادة القارب عن السيطرة، الدخان وأهل الفضول من جهة، والسائحات المفزوعات من جهة، وضغط الوقت الذي يمر من جهة أخرى.
وأما عارضة الأزياء، فقد كانت سعيدة وهي تعبث بمقود الربان، لا يهمها في هذه الأزمة إلا أن تمشط شعرها وتلتقط المزيد من الصور، والحق يقال، لا ألومها أن جعلت من المحنة منحة لها، لا ينافسها في هذا الفرح إلا “صابرين” تنفست الصعداء بعد توقف القارب، وكما يقولون مصائب قوم عند قوم فوائد.
في الطرف الأخير من القارب سائح فرنسي يرفع صوته، يتحدث إلى أصحابه يلوم الشركة ويلعن الربان والركاب والقارب، كل ذلك يقوله باللغة الفرنسية، والطاقم المسكين لا يفهم إلا لغة إنجليزية بسيطة، سميته في نفسي “سنفور غضبان”، والعجيب أنه كان ينظر إلى الركاب من حين إلى حين، كأنه ينتظر أحدا أن يعترض على كلامه أو أن يصفق له، وكما نقول بالدارجة، لم يجد من الطاقم إلا “النخال”.
وما أعجبني هو موقف الرجل المسن بيننا، لم يكترث للجميع، حافظ على ابتسامته وأغمض عينيه نائما وسط الهرج، وهنا سميته “الرجل الحكيم”.
وأما ما يجعلك تعبس في القارب فليس هو “سنفور غضبان”، بل هم أصحابه الستة، كانوا جميعا فرنسيين، وكانوا أسوأ سفراء لبلدهم. قدموا خلال الرحلة وأثناء حوارهم صورة قبيحة عنوانها الكبر وقلة الاحترام، ولا أعرف كيف تمكنت العنصرية في نفوسهم حتى أصبحوا على ماهم عليه من سوء الخلق.
خلال نصف ساعة من التوقف وسط البحر، استراحت “صابرين”، وتنفست هواءا نقيا، والتقطت “عارضة الأزياء” ما شاءت من صور، صرخ سنفور غضبان حتى تعب، ونام “الرجل الحكيم”، والأجمل من ذلك كله أن تمكن ربان القارب من إصلاح المحرك.
رفع المساعد المرساة، ورجع كل واحد من الركاب إلى مقعده، حتى عارضة الأزياء رجعت إلى مكانها، واصلنا الإبحار على مهل، واصلنا الرحلة أخيرا إلى جزيرة جوز الهند، لكن بعد أن كشف توقف القارب في أغلب الركاب معادنهم، ومعادن الناس كما يقولون، تظهر سريعا في الخصومة والسفر.
– يتبع إن شاء الله-