منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الانحرافات المنهجية في رسالة المسجد الحضارية

محمد بلهادي

0

نشر هذا المقال في كتاب “مؤسسة المسجد بين التأميم والتحرير” من إصدارات مجلة “منار الهدى” الكتاب الثالث.

قراءة وتنزيل المقال بصيغة pdf

مقدمـة :

يقف الباحثون في تاريخ الحضارات الإنسانية مشدوهين أمام الحضارة الإسلامية التي كان منطلقها من بين أسوار المساجد، ومن داخل حلقاتها العلمية التي تخرج منها أكابر الفقهاء وصفوة المفكرين والعلماء في شتى العلوم والفنون.

لقد قدم المسجد عبر التاريخ الإسلامي المديد إسهامات حضارية جليلة للمجتمع الإسلامي خاصة، وللمجتمع الإنساني عامة، فكان المؤسسة الأولى في الدولة المعنية بتسيير الشأن العام، وتدبير أمور الدنيا والدين. وفيه تحقق التضامن الاجتماعي بين مختلف شرائح الأمة، وعم بينها التسامح والمحبة، والمساواة والعدالة. وكان في الوقت ذاته منارة علمية شامخة وفد إليها طلاب العلم من كل حدب وصوب لنهل المعارف والعلوم والثقافة؛ لكن هذا الدور الحضاري الرائد عرف في وقتنا الراهن نكوصا بينا، مما أفقد هذه المؤسسة الدينية الكثير من إشعاعها وفعاليتها. ومن المؤشرات الدالة على هذا النكوص – وإن كان الوضع لا يحتاج إلى مؤشر أو دليل- وجود عبارة مثيرة للحيرة والأسى في نفس الآن على أبواب بعض المساجد الصغيرة في بعض المؤسسات أو المرافق العمومية، مكتوب فيها “قاعة للصلاة”، هاتان الكلمتان تختزلان الأزمة الحالية لبيوت الله، وتصح كتابتهما على جل إن لم نقل كل مساجدنا، لأن واقع حالها ينطبق مع هذه العبارة، فمصطلح المسجد الذي له حمولة قدسية عظيمة لم يعد سوى قاعة كباقي القاعات مخصصة لمهمة واحدة ووحيدة هي أداء الصلوات الخمس في أوقات محددة ومحدودة. فأين نحن من رسالة المسجد السامية السماوية المخترقة لحدود الزمان والمكان؟ وما هي العقبات التي تعترض الطريق؟ وكيف للمسجد أن يحيي رسالته الحضارية في ظل الأغلال والأقفال المادية والمعنوية المضروبة عليه؟

سنحاول الإجابة عن هذه الأسئلة من خلال عقد مقارنة بين ما كان وما هو كائن وما ينبغي أن يكون، وذلك من خلال المحاور الفرعية التالية :

  • الرسالة العلمية للمسجد.
  • الرسالة السياسية للمسجد.
  • الرسالة الاجتماعية للمسجد.
  • الرسالة التواصلية للمسجد.
  • رسالة المسجد بين الماضي والحاضر.

المبحث الأول: الرسالة العلمية للمسجد:

لا يمكن الحديث عن وظائف المسجد عبر التاريخ من دون التطرق للدور المتميز للمسجد في التربية والتعليم، باعتبارها المؤسسة التربوية الرئيسة في الإسلام التي ساهمت في نشر أنوار العلم والمعرفة، ومنها اللغة العربية والثقافة الإسلامية دعامتا الحضارة العربية الإسلامية.

وإذا كان بعض الباحثين يشير إلى منتصف القرن الخامس الهجري كحدّ فاصل بين عهدين في تاريخ المؤسسات التعليمية الإسلامية، وتحديداً في عام 459هـ، حيث أنشئت المدرسة النظامية في بغداد[1]، مؤذنة ببداية عهد تعليمي جديد، انتقلت فيه أماكن التعليم من الكتاتيب والمساجد، ودور الحكمة، وحوانيت الورّاقين ومنازل العلماء، إلى المدارس المنظمة، فإن هذا لا يقلل من دور المسجد بوصفه أول مؤسسة انطلق منها شعاع العلم والتعليم في الإسلام، حتى قيل: إن آلاف أعمدة المساجد التي كانت منتشرة في الإسلام كانت محاطة بآلاف من العلماء المسلمين، وعشرات الآلاف من المتعلمين.

معلوم أن الدور المنوط بالمدارس اليوم كانت تقوم به المساجد في الماضي، لذلك كانت المدارس تبنى إلى جانب المساجد لتتحقق حالة من الارتباط والتعاون بينهما. لكن مهما تنوعت وتباينت المؤسسات التربوية الإسلامية، فإن المسجد تبوأ مكان الصدارة بين تلك المؤسسات كأول مصدر لتلقين العلوم وتثقيف العقول وتخريج الكفاءات العلمية على مر العصور.

ولم يكن عجيباً أن ارتبط التعليم بالمسجد لزمن طويل، ففي كل مسجد يقام كانت تقام بداخله مدرسة، بل مدارس فكرية وعلمية ودينية، وكان الكبار يؤدون في نفس المكان قبل الصلاة أو بعدها شعائر العلم من تعليم وتعلم، وهكذا تكاثرت حلقات الدراسة بالمسجد، وتعددت مجالس العلم فيه، وأصبح بيئة تربوية مفتوحة، غنية بكل أنواع الخبرة والمعرفة اللازمة لحياة الفرد والمجتمع . وقد تفردت حلقات العلم المسجدية بإبراز بعض المضامين التربوية التي جاء بها القرآن الكريم، فأعطتنا نظريات تربوية إسلامية سبقت مفاهيم معظم النظريات التربوية المعاصرة.

وإذا نحن عدنا إلى بدايات هذا الإشعاع العلمي الإسلامي للمساجد، نجد أن أغلب الأحكام تعلمها أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم منه في المسجد. وما من خليفة ولا قاضٍ ولا أمير ولي أمر المسلمين في العصور الإسلامية الزاهرة إلا كان من خريجي المساجد. ومن هنا يعلم أن المسجد كان جامعة كبرى للتعلم والتعليم، وأن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين خلفوه من بعده على أمانته، وأقاموا دولة الإسلام القوية، وكانوا أكفأ الناس لقيادة البشرية، إنما تخرجوا على يديه في مسجده الذي كانت كل تحركاتهم، للدعوة والجهاد ونشر الدين تبدأ منه[2].

فهذا المربي الأول  ومعلم الأمة محمد صلى الله عليه وسلم كان يجلس في المسجد لتعليم الناس أمور دينهم ودنياهم، ويحثهم على طلب العلم في المساجد ويرغب في ذلك، عن ‏عُقبة بن عامر ‏قال: قال رسول الله – صلى الله عليه وسلم -: “أفَلا يغدو‏ أحدُكم إلى المسجد، فيتعلَمَ أو يقْرأَ آيتين مِن كتاب الله – عز وجل – خيرٌ له من ناقَتين، وثلاثٌ خيْرٌ له من ثلاثٍ، وأربع خيرٌ له من أربع، ومن أعدادِهن من الإبل”[3].

وكَانَ النبي صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: “مَنْ غَدَا أَوْ رَاحَ إِلَى الْمَسْجِدِ لَا يُرِيدُ غَيْرَهُ لِيَتَعَلَّمَ خَيْرًا أَوْ لِيُعَلِّمَهُ ثُمَّ رَجَعَ إِلَى بَيْتِهِ كَانَ كَالْمُجَاهِدِ فِي سَبِيلِ اللَّهِ رَجَعَ غَانِمًا”[4]. فمن جاء إلى المسجد معلما أومتعلما كالمجاهد، كلاهما يريد إعلاء كلمة الله، وفي عبادة نفعها متعد لعموم المسلمين[5].

وذكر الغزالي في فاتحة العلوم عن مكحول أن عشرة من أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم حدثوه فقالوا: “كنا ندرس العلم في مسجد “قباء” إذ خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: “تعلموا ما شئتم أن تعملوا فليس يأجركم الله حتى تعملوا”.[6]

وقد درس في المسجد النبوي بعد زمن النبي صلى الله عليه وسلم كبار الصحابة والتابعين، وفيه نشأت أصول الفقه المالكي على يد مؤسسه الإمام مالك بن أنس رضي الله عنه، ويذكر المؤرخون أن ربيعة الرأي كان يجلس في مسجد النبي بالمدينة، ويجلس حوله التابعون، وكذلك كان يجلس الحسن البصري في مسجد البصرة ويشرح بأسلوبه الممتع مختلف العلوم[7].

وإذا كان المسجد النبوي هو المنطلق الأول للعلوم الإسلامية بفضل رسول العلم محمد صلى الله عليه وسلم، الذي وضع للمسلمين آداب العلم، وأقام صرح هذه الحضارة الإسلامية الزاهرة التي علا بنانها، فإن المسجد الحرام بدوره لم يتخلف عن هذه الرسالة السامية، فقد تحدث الرازي عن هذا الدور فقال: “من المشهور أن حلقة الفتيا في المسجد الحرام كانت لعبد الله بن عباس، ثم بعده لعطاء بن أبي رباح، وبعده لابن جريج، وبعده لمسلم بن خالد الزنجي، وبعده لسعيد بن سالم القداح، وبعده لمحمد بن إدريس الشافعي الذي أفتى فيه وهو ابن نيف وعشرين سنة”. [8].

أما المسجد الأقصى بالقدس والمنسوب بناؤه القديم إلى سيدنا سليمان عليه السلام، فقد اتخذه عمر بن الخطاب بعد الفتح الإسلامي مسجدا باعتباره مكانا مشرفا في الإسلام، وأحد المساجد الثلاثة التي تشد إليها الرحال، كما أوضح الرسول صلى الله عليه وسلم ذلك، وقد أنشئت بداخله وحوله عدة مدارس في كل من العصرين الأيوبي والمملوكي، جعلته من المنطلقات العلمية الكبرى في الإسلام.[9]

وأما الاهتمام بطلاب العلم والعلماء فقد كان أكبر، وكان انتشار الحلقات العلمية بالمساجد سبباً في إيقاف أهل الخير الوقفيات على طلبة العلم والعلماء، منها أوقاف مشروط صرفها نقوداً، وأوقاف مشروط صرفها خبزاً، ومنها أوقاف مشمولة بنظر شيخ المسجد. وبجانب مجانية التعليم كان الطلاب يتقاضون رواتب تعينهم على معيشتهم.[10]

نستطيع أن نقول مطمئنين إن المسجد هو المؤسسة الحضارية الأولى في مجتمع الإسلام، فقد كان في عهد النبوة – واستمر في عصور الإسلام الأولى – مركز التوجيه والإشعاع الفكري، والأخلاقي، والتربوي، والأدبي، والاجتماعي. وكانت جميع مراحل التعليم تجري بين جدران المساجد، فأدت رسالتها لمدة قرون نشرت فيها نور العلم والمعرفة، وزينت التاريخ الإسلامي بأسماء العديد من العلماء والعظماء، وتركت آثارا عميقة في الثقافة الإسلامية.

وقد استطاعت المساجد في تلك العصور أن تكون مجالاً تبرز فيه القيم الإسلامية وتمارس فيه أنماط السلوك العملي التي تجسد هذه القيم، مما أتاح للمسلمين حرية فكرية منقطعة النظير. ومن حول سواري المساجد قامت مذاهب ونشأت تيارات في الفقه والفلسفة والتوحيد والنحو والأدب والنقد، وقامت المحاورات والمناظرات، وكان المسجد بما له من قدسية ضماناً لهذه الحرية الفكرية التي يفخر بها تاريخ المسلمين![11]

لكن مع مرور الزمن أخذ هذا الدور العلمي المرموق للمسجد في الانحصار والتقلص، ومن العوامل الظاهرة التي ساهمت في ذلك وجود المدارس والجامعات والمؤسسات العلمية الحديثة، ولعل التخوف من الوصول لهذا الواقع، هو الذي حمل طائفة من الفقهاء في فترة زمنية معينة إلى الاختلاف حول جواز أو عدم جواز بناء المدارس مع وجود المساجد.

وإذا نحن قارنا بين تعليم المسجد وتعليم المدارس، نجد الفرق شاسعاً من وجوه:

الوجه الأول: أن التعليم في المسجد يكتنفه جو عبادي، يشعر المعلم فيه والمتعلم والسامع، أنه في بيت من بيوت الله، فيكونون أقرب إلى الإخلاص والتجرد والنية الحسنة، لا يقصدون في الغالب من التعلم والتعليم إلا وجه الله.

وأهدافهم هي التفكر في الدين، وأداء العمل على وجهه الصحيح، والدعوة إلى الله، والجهاد في سبيله، لا يرجون من وراء ذلك مغنماً ولا جاهاً ولا منصباً. ولذلك تجد غزارة العلم وحفظه وإتقانه تحصل عند كثير من علماء المسجد في أوقات قصيرة.

فهل خرجت المدارس والمعاهد والجامعات أمثال الخلفاء الراشدين؟ وهل خرجت المدارس والمعاهد والجامعات أمثال الأئمة المحدثين والفقهاء والنحويين ؟

الوجه الثاني: أن التعليم في المساجد أشمل، حيث يدخل المسجد من شاء من العلماء المؤهلين، ليعلم الناس، كما أنه يدخله من شاء من المتعلمين أو المستمعين، فيستفيد في المسجد جمع غفير: العالم والمتعلم والمستمع، على حسب ما عنده من الاستعداد والوقت، بخلاف المدارس، فلا يدخلها إلا عدد محدود من المعلمين والمتعلمين، ولا يؤذن لمن يريد أن يتفقه في الدين بالتردد عليها، ولذلك اضطرت الدول في العصر الحديث إلى إيجاد مدارس لمحو الأمية، وهي شبيهة بالمدارس الأخرى لا يدخلها إلا عدد قليل، ولا تفي بحاجة الناس كالمساجد، فالمساجد جامعات شعبية صالحة للمتعلمين على جميع المستويات.

الوجه الثالث: أن علماء المساجد وطلابها، أقرب إلى عامة الشعوب من طلاب المدارس والجامعات، حيث تجد عامة الناس يقبلون إلى عالم المسجد وطلابه، ويستفيدون منهم، كما تجد عالم المسجد وطلابه يهتمون بعامة الناس، في التعليم والدعوة أكثر من غيرهم.

ولا شك أن الارتباط بين طلاب العلم وجمهور الشعب، له مزاياه الكثيرة في التعليم والدعوة والتوجيه.[12]

وليس المقصود بعقد هذه المقارنة التزهيد في الجامعات والمدارس والمعاهد، بل ولا حتى النوادي الثقافية والأدبية والرياضية، فقد أصبحت أمرا واقعا، وهي ذات فائدة لا تنكر، في تخصصاتها الكثيرة التي تحتاج إليها الأمة، ولا يمكن للمساجد أن تكون بديلا عنها، فلكل طريقته ومناهجه، وإنما المقصود ربط المسلمين بمساجدهم التي يجمعون فيها بين العلم والإيمان والعمل الصالح، لما في المساجد من روحانية، لا توجد غالبا في سواها من المؤسسات، مع التنبيه إلى أن شبابا صالحا قد تخرج من هذه المؤسسات، وبعضهم من ذوي التخصصات العلمية غير الشرعية، كالطب والهندسة والفيزياء وعلوم الفلك والجغرافيا والبحار، وغيرها، ولكن أثر المسجد في التفقه وغرس الإيمان وتقويته والتزكية العبادية والسلوكية، لا تبلغه في الغالب مؤسسة أخرى.

ويمكن الجمع بين الاستفادة من تلك المؤسسات التعليمية وغيرها، والاستفادة من المسجد، بإنشاء هذا الأخير في وسط تلك المؤسسات، بحيث تحيط به المؤسسات التعليمية، والاجتماعية، والصحية، والإعلامية، والرياضية، والأدبية، وغيرها، ويكون المسجد هو الملتقى لجميع أعضاء تلك المؤسسات، من طلاب وأساتذة، وغيرهم، تكون لهم أوقات يتدارسون فيه كتاب الله وسنة الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيرته المطهرة، والتاريخ الإسلامي.[13]

وما فتئ علماء التربية في وقتنا الحاضر يؤكدون على ضرورة تعاون جميع المتدخلين والشركاء ومؤسسات المجتمع المدني في العملية التعليمية وتضافر جهودهم إلى جانب المؤسسة المدرسية، و تعد مؤسسة المسجد واحدة من أهم هؤلاء الشركاء لتحقيق التكامل التربوي المنشود.

والتراجع الملحوظ في الدور التربوي والعلمي للمسجد لا يمكن إرجاعه دائماً إلى الآخر، بل الجميع مساهم في هذا الوضع، فتجد مثلا في داخل جماعة المسجد من يقول بمنع الأطفال من دخول المسجد للصلاة وطلب العلم الشرعي، لأجل المحافظة على نظافة المسجد وأثاثه. مثل هؤلاء لا يلتفت إلى قولهم، لأن المصلحة المتحدث عنها مرجوحة أمام المفسدة المترتبة عن هذا المنع، وهي إعراض الأطفال عن المساجد وعدم تعلقهم بها، مما قد ينجم عنه ضعف صلة هؤلاء ببيوت الله حتى بعد كبرهم، بل علينا أن نستعين بكل وسيلة من شأنها تحبيب المسجد إلى أبنائنا وتوطيد صلتهم به.

لذلك ففتح المساجد المغلقة في وجوه طلبة العلم الشرعي ينبغي أن تتحقق بجهود شعبية و رسمية… حتى تقر أعيننا بمساجد تزخر بحلقات العلم ودروس التوعية و التأطير العلمي، فما من شك أن بناء المساجد يستلزم ضرورة بناء الساجد.

المبحث الثاني: الرسالة السياسية للمسجد:

المسجد مركز الجماعة المسلمة، ونقطة تجمعها ولقائها ومكان تشاورها وتبادل آرائها، ودار العدل والقضاء، والخلية الاجتماعية الطاهرة التي تنبض بالحياة.[14] ولو طالعنا صفحات التاريخ الإسلامي لوجدنا أن الأعمال السياسية الكبرى التي تمت فيه قد بدأت في أغلب الأحيان من المسجد، ففيه صدرت كتب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الملوك والحكام، وفيه كان يعين الولاة وأمراء الجيوش، وفيه كانت المشاورة بين أهل الحل والعقد، كما كانت تتقبل فيه البيعة من عموم الشعب، ومنه يعلن الخليفة سياسته وبرامجه للمسلمين.

لقد أدى المسجد في الإسلام دورا هاما في الحفاظ على تماسك جماعة المسلمين حقيقة ومظهرا، فهو حرمهم ومأمنهم، وفيه وحدة صفهم ورأيهم ومشورتهم، وفيه اجتماعهم. وما صلاة الجماعة التي تعقد خمس مرات في اليوم والليلة في المسجد ويحضرها كل من وجبت عليه إلا دليلا حيا على ذلك. لأن المسلم لا يعيش لنفسه، وإنما يجب عليه أن يتعاون مع إخوانه فيما يخدم الصالح العام للأمة الإسلامية، فالله تبارك وتعالى يقول: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَاتَّقُواْ اللّهَ إِنَّ اللّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ [15] .

بل كان الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفاؤه الراشدون ومن تبعهم لا مقر لهم يسوسون الأمة منه إلا المسجد، كما قال ابن تيمية: ” وكانت مواضع الأئمة ومجامع الأمة هي المساجد، فإن النبي صلى الله عليه وسلم أسس مسجده المبارك، على التقوى ففيه الصلاة والقراءة، والذكر، وتعليم العلم، والخطب، وفيه السياسة، وعقد الألوية والرايات، وتأمير الأمراء، وتعريف العرفاء، وفيه يجتمع المسلمون لما أهمهم من أمر دينهم ودنياهم، وكذلك عماله في مثل مكة، والطائف، وبلاد اليمن وغير ذلك من الأمصار والقرى، وكذلك عماله على البوادي، فإن لهم مجمعاً فيه يصلون وفيه يساسون، وكان الخلفاء والأمراء يسكنون في بيوتهم كما يسكن سائر المسلمين في بيوتهم، لكن مجلس الإمام الجامع هو المسجد الجامع”.[16]

وكان الرسول صلى الله عليه وسلم يستشير أصحابه في المسجد، حتى في بعض أموره الشخصية، ومن ذلك استشارتهم في حادثة الإفك كما روت أمنا عائشة الطاهرة، المطهرة من فوق سبع سماوات، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم خطب الناس فحمد الله، وأثنى عليه، وقال: “ما تشيرون علي في قوم يسبون أهلي، ما علمت عليهم من سوء قط”.[17]

وكانت أغلب مشورته، وكذا الخلفاء الراشدين من بعده، تقع في المسجد، لأنه مقر اجتماعهم، وكثير من الحوادث التي شاور فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه، أو شاور فيها خلفاؤه من بعده، لا يذكر فيها مكان الشورى، ولكنها – في الغالب – ما كانت تقع إلا في المسجد، وكذلك البيعة العامة، كانت تؤدى للخليفة في المسجد، ومن ذلك أن البيعة العامة لأبي بكر الصديق، رضي الله عنه، كانت في المسجد، بعد أن بايعه بعض الصحابة في سقيفة بنى ساعدة[18].

ومن أبرز صور الديمقراطية، خطب الخلفاء الراشدين على منبر المسجد فور توليهم الخلافة، ولم تكن هذه الخطب مجرد شعارات تقال ليرددها العامة من الشعب، بل كانت تنفذ كل الخطط التي تضمنتها تلك الخطب وبدقة، لأن هؤلاء العظماء يعرفون تماماً أن آية المنافق ثلاث “إذا حدث كذب وإذا وعد أخلف وإذا اؤتمن خان”. فهذا أول خليفة لرسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: “أيها الناس، إني قد وليت عليكم ولست بخيركم، فإن أحسنت فأعينوني وإن أسأت فقوموني، الصدق أمانة والكذب خيانة، والضعيف فيكم قوي عندي حتى آخذ الحق له إن شاء الله، والقوي فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه إن شاء الله، أطيعوني ما أطعت الله ورسوله، فإذا عصيت الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم، قوموا إلى صلاتكم يرحمكم الله”.[19]

ونفذ أبو بكر رضي الله عنه ما قاله في أول خطبة له، وكان نموذجاً للحاكم العادل القريب من رعيته، والذي لا يفصل بينه وبين عامة الشعب لا قصور عالية ولا أبراج عاجية.

ومما ابتلينا به في حاضرنا حرب بعض ساسة المسلمين ومثقفيهم على الإسلام، فعمدوا إلى فصل الدين عن سياسة الدولة عملياً، ومن ثم استبد رجال السياسة بالحكم بعيداً عن رقابة المسجد، وزالت عنهم بذلك رقابة الدين والأخلاق، وفقدت رسالة الإسلام التي تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر سلطانها، لأنها لا تستند إلى قوة تحميها، وأصبح الإسلام كطائر مقصوص الجناح… فأعرض رجال الحكم عن استشارة رجال الدين وانغمسوا في الملذات والشهوات، وترك عدد كبير من الناس المساجد وانصرفوا إلى الملاهي والملاعب[20].

وما ينبغي التأكيد عليه في هذا المقام هو أن الأمة إذا أرادت الرشد اتخذت مساجدها مكاناً للسياسة، وإن طلبت النصر جعلت رحبتها لتربية القادة والساسة، وإن أرادت وحدة ووئاماً جعلتها وسيلة ربط وموطن تفاهم على العقيدة والتقوى، وإن أرادت أمناً واطمئناناً وجدت ذلك في ساحتها فاتخذتها معتكفاً ومستقراً.

المبحث الثالث: الرسالة الاجتماعية للمسجد:

لكون المسجد ضرورة دينية واجتماعية، كان أول عمل فكر فيه الرسول صلى الله عليه وسلم في طريق هجرته وقبل وصوله إلى المدينة المنورة، هو بناء مسجد “قباء” الذي كان أول مسجد أسس في الإسلام، وفيه قـــال الله تعالى: ﴿ لمسجد أسس على التقوى من أول يوم أحق أن تقوم فيه﴾[21].

وبعد أن استقر المقام برسول الله صلى الله عليه وسلم  بدار الهجرة، وقبل أن ينفذ أي عمل أرسى رسول الله صلى الله عليه وسلم قواعد البناء المجتمعي الإسلامي، فأسس المسجد النبوي أولاً، وأجرى المؤاخاة بــــــــــين المؤمنين ثانياً، وكتب الوثيقة دستور التعامل بين أفراد المجتمع ثالثاً.
وعلى هـــــذه الأسس التي تستهدف وحدة المجتمع وضمان التكافل الاجتماعي داخله، قــــــــــام مجتمع الإسلام وأعلن عن جماعة المسلمين، وأصبح المسجد أهم ركن تتحقق به رعاية هذا المجتمع وإصلاح أي خلل فيه.

وقد حدثنا التاريخ عن أداء المسجد لوظائف وخدمات اجتماعية عديدة وعظيمة، نذكر منها:

  • التكافل والتضامن الاجتماعي : شكل المسجد مأوى لكثير من أصحاب الحاجات، وملجأ لمن تقطعت به السبل، ولعل أهل الصفة بالمسجد النبوي الذين قال فيهم أبو هريرة رضي الله عنه – وهو واحد منهم-: “رأيت سبعين من أصحاب الصفة ما منهم رجل إلا عليه رداء إما إزار وإما كساء قد ربطوا في أعناقهم فمنها ما يبلغ نصف الساقين ومنها ما يبلغ الكعبين فيجمعه بيده كراهية أن ترى عورته”[22]، خير شاهد على الدور الاجتماعي الفريد للمسجد، والذي سبق جميع برامج التكافل الاجتماعي للمنظمات الخيرية الدولية عبر العالم.

فالمسجد على مر العصور هو محل يساعد فيه الفقراء والمعوزون، وتتفقد فيه أحوال المحتاجين، وتجمع فيه الزكوات وتقسم فيه الصدقات، ومما يدلل على هذه المعاني التضامنية التي سادت مساجد الإسلام، ما روى البخاري في صحيحه، عن أنس رضي الله عنه، قال: أتى النبي صلى الله عليه وسلم بمال من البحرين فقال: “انثروه في المسجد” فكان أكثر مال أتي به رسول الله صلى الله عليه و سلم إذ جاءه العباس فقال يا رسول الله أعطني إني فاديت نفسي وفاديت عقيلا . قال “خذ ” . فحثا في ثوبه ثم ذهب يقله فلم يستطع، فقال مر بعضهم يرفعه إلي . قال “لا” . قال فارفعه أنت علي قال “لا” . فنثر منه، ثم ذهب يقله فلم يرفعه، فقال: فمر بعضهم يرفعه علي قال “لا” . قال فارفعه أنت علي قال “لا” . فنثر منه ثم احتمله على كاهله ثم انطلق فما زال يتبعه بصره حتى خفي علينا عجبا من حرصه، فما قام رسول الله صلى الله عليه و سلم وثم منها درهم[23].

ويتحقق كذلك معنى التكافل الاجتماعي في مؤسسة المسجد بالالتقاء والاجتماع المستمر لرواده، والتضامن فيما بينهم، والسؤال عن بعضهم البعض، وتفقد الغائب منهم، وعيادة المريض فيهم. فالتكافل الاجتماعي كفالة متبادلة بين أفراد المجتمع للتعاون في المنشط والمكره على تحقيق منفعة أو دفع مضرة، ولا يكون لفريق في هذا التكافل فضل على فريق آخر، إذ العبء فيه موزع على كافة الأفراد والفائدة فيه عائدة على الجميع، وهذه الصورة لا تتحقق إلا في المجتمع الإسلامي الذي يرتبط أفراده برباط العقيدة[24].

  • استقبال الضيوف وإكرامهم . و قد جوز الفقهاء استقبال الضيوف في المساجد وتقديم الطعام لهم ومبيتهم به. وفي المجتمع المغربي شكل المسجد محضناً لطلبة العلم يتعلمون فيه العلم ويحفظون القرآن والمتون، ويستقرون فيه، ويكرمون داخله طيلة فترة طلبهم للعلم.

وإذا كان أسلافنا حملوا الطعام إلى المساجد يوم كانت تغص بطلبة العلم، فشيمة الكرم لم تتحول عن المغاربة، لكن الذي تحول هو واقع مساجدنا التي لم تعد تحتضن طلبة العلم إلا فيما ندر منها، واستمر حمل الطعام إلى المساجد بإسراف في بعض الأحيان، فيأكل منه بعض المصلين ويعرض عنه أكثرهم لعدم حاجتهم إليه، فينقلب الأمر إلى تبذير، وكان من الأجدر أن تصرف تلك الأموال بشكل معقلن، كأن تقدم صدقات عينية أو نقدية للفقراء، أو لطلبة العلم حيث يتواجدون، كدور القرآن والأحياء الجامعية وغيرها.

إصلاح ذات البين :  وكان المسجد مكاناً للصلح بين المتخاصمين، فقد روى كعب بن مالك رضي الله عنه، أنه تقاضى ابن أبي حدرد ديناً كان له عليه في المسجد، فارتفعت أصواتهما، حتى سمعها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو في بيته، فخرج إليهما، حتى كشف سجف حجرته فنادى:  “يا كعب”، قال: لبيك يا رسول الله، قال: “ضع من دينك هذا”. وأومأ إليه أي الشطر، قال: لقد فعلت يا رسول الله، قال: “قم فاقضه”[25].

  • وفي هذا النص دليل على جواز الفصل بين المتخاصمين في المسجد وحل المشاكل والخلافات داخله.
  • معالجة الجرحى : كان المسجد أيضاً مصحة لمعالجة الجرحى والمرضى في حالة الاضطرار، كما يدل على ذلك حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، قالت: أصيب سعد يوم الخندق في الأكحل فضرب النبي صلى الله عليه و سلم خيمة في المسجد ليعوده من قريب[26].

وذكر الحافظ بن كثير وغيره من أهل السير أنه كانت بالمسجد النبوي على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم خيمة لامرأة من قبيلة “أسلَم” يقال لها رفيدة، وكانت تداوي الجرحى[27].

هذا الدور الاجتماعي للمسجد تجدد مؤخراً  مع الحراك الشعبي الذي عرفته وتعرفه مجموعة من الدول العربية، حيث تحولت الكثير من المساجد المتواجدة بساحات التظاهر إلى مستشفيات ميدانية، كما حصل في ساحة رابعة العدوية الشهيرة، إذ تم اتخاذ جناح من مسجد رابعة العدوية مستشفى ميدانياً تكفل طاقم طبي داخله بإسعاف الجرحى ونقل الموتى الذين سقطوا من جراء الفتنة الداخلية التي تعصف بمصر. ونسأل الله جل وعلا أن يحقن دماء المسلمين في كل مكان، وأن يجنبنا الفتن ما ظهر منها وما بطن.

  • تحقيق المساواة بين العباد : في المسجد تتجلى المساواة بين مختلف طبقات المسلمين بأوضح مظاهرها، فأية مساواة أفضل من تلك المساواة التي تحققها الصلاة جماعة بالمسجد؟ هذه الوسيلة التي تزرع في المسلم خلق التواضع، وتشعره بكرامته التي كرمه الله بها، وأنه متساو مع جميع من يجلسون معه، سواء كانوا حكاما أو محكومين، صغاراً أو كباراً، أغنياء أو فقراء… ولا ميزة لأي واحد منهم إلا بالتقوى، يقول الله تعالى: ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [28]، ويقول عليه الصلاة والسلام: “لا فضل لعربي على أعجمي ولا لعجمي على عربي ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى”[29]. فليس في المسجد مكان خاص للوزير، وآخر للعامل أو الخادم، وإنما الجميع سواء أمام الكبير المتعالي. هذا المظهر الذي يقضي على جميع الفوارق، وقف أمامه العديد من الأجانب والمستشرقين مشدوهين، فهذا الفيلسوف الفرنسي “رينان” الذي يقول: “إنني لم أدخل مسجدا من مساجد المسلمين من غير أن أهتز خاشعا وأن أشعر بشيء من الحسرة على أنني لم أكن مسلما”[30] .

يمكن أن نخلص إلى أن المسجد نسق اجتماعي ضمن للمجتمع المسلم تكافله وتضامنه بمنهج عمل متكامل، وكل المظاهر التضامنية المذكورة هي من مقاصد دين الإسلام، دين الفطرة والتوحيد والوحدة الذي يعمل على تمتين روابط الأخوة بين المسلمين، وتعزيز النسيج الاجتماعي، والمساهمة في حل القضايا الاجتماعية المختلفة.

المبحث الرابع: الرسالة التواصلية للمسجد:

من المأثور من عمل الرسول صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين من بعده، أنهم كانوا إذا حزبهم أمر أمروا المنادي أن يقول: “الصلاة جامعة”، فإذا اجتمع الناس في المسجد أخبروهم بالخبر وطرحوا المشورة عليهم. وبذلك يمكن اعتبار المسجد من القنوات الإعلامية الأولى التي شكلت منطلق التواصل والتوجيه، ومركز الإعلام والإخبار، فالمنبر يعد أهم وسيلة إعلامية اعتمدها الإسلام، والذي لا تقتصر وظيفته كما يتوهم البعض على خطب الجمعة وخطب المناسبات الدينية، بل المعهود والمفروض فيه منذ عهد الرسول صلى الله عليه وسلم أنه وضع بغرض تسديد المجتمع المسلم في كل شؤون حياته الدينية والدنيوية وفي مختلف الأوقات والمناسبات، وكان عليه الصلاة والسلام يرتقي المنبر لأي أمر يريد توجيه المجتمع إليه، في الأحداث المستجدة والقضايا الطارئة ومتى ما دعت الحاجة إلى ذلك. وظل المسجد مفتوحاً لعموم المسلمين لطلب الاستشارة أو الاستفتاء في كل وقت وحين.

وبذلك فالمهمة التواصلية للمنبر في الإسلام لا ينبغي حصرها في القضايا الدينية فحسب، ولكن وظيفتها عامة لكل قضية تهم المسلمين في أي أمر من أمور حياتهم.[31] زيادة على كونها تقرب بين الأجيال وتدعم التواصل بين الماضي والحاضر.

المبحث الخامس: رسالة المسجد بين الماضي والحاضر:

لم يستمر هذا الدور الخصب الذي نهض به المسجد في عصوره الأولى، وإنما أخذ يضيق وينكمش حتى جاءت فترة اقتصر فيها على أداء الصلوات وعلى إلقاء خطب الجمعة! ومن الظواهر الغريبة الملاحظة في تاريخ المسجد، هي أنه كلما زادت العناية بالمظهر الخارجي للمسجد لم نجد وراء هذا المظهر إلا ضحالة وعجزاً وقصوراً عن وفائه برسالته، وكأنها عملية تعويض يراد من خلالها ستر هذا الفراغ! فحقيقة المسجد ليست حجارة تشاد وأعمدة ترفع، أو زخارف تزين الجدران، بل هو قلوب عامرة بالإيمان وعقول نيرة تنعم بالعلم والمعرفة، وأرواح تصقل وتهذب، وجنود تتأهب لرسالة الحق.

ولو تساءلنا عن عوامل ازدهار المسجد ودوره في فترات سلفت من تاريخنا، لوجدنا عاملين أساسيين يقفان وراء هذا الازدهار:

أولهما: يرجع إلى المسجد نفسه، ويتمثل في اقتدار المسجد على أداء دوره في توجيه الحياة.

وثانيهما: يرجع إلى المجتمع، ويتمثل في الطابع الديني الذي كان يسيطر على حياة الناس ويصبغها صبغة دينية شاملة.

ويضاف لهذين العاملين عامل ثالث يكملهما: ذلك أن مجتمع تلك العصور لم تكن فيه مؤسسات اجتماعية تزاحم المسجد وتنافسه في دوره الذي كان يستقل به غير مشارَك ولا مدافَع!

فقد قضى تطور المجتمع أن تقوم فيه مؤسسات متنامية أخذت لها أدواراً تضطلع بها، فقامت المدرسة إلى جانب المسجد وأصبحت هي المسؤولة عن مهمة تعليم النشء وتربيته! وتحولت مظاهر الحكم والسلطان من المسجد إلى مواقع أخرى في المجتمع تمارس فيها ومنها عمليات التشريع والتوجيه والتخطيط والتنفيذ الكبرى ذات الأثر البعيد في صياغة الحياة.

بل إن أخص وظائف المسجد وهي التوجيه الديني بوجه عام، يزاحمه فيها الآن مؤسسات اجتماعية كثيرة، يتوافر لها من الإمكانات المادية والبشرية والفنية ما لا يتوافر أقله للمسجد!! وأخطر من هذا أن الأمر تجاوز المزاحمة والمنافسة إلى المناهضة والمقاومة، فجدت أشياء وحدثت أمور شديدة التأثير والجذب للناس، توجههم نحو غايات، وتدعوهم إلى مسالك، وتدفعهم في شعاب كثيراً ما تتناقض وتتصادم مع ما يدعو إليه المسجد وما يقدمه من توجيه.

وإذا أضفنا لهذا كله ما آل إليه المسجد الآن من كونه مؤسسة رسمية، وأن ما يمارس فيه من دعوة وتوجيه إنما يتم على أنه عمل وظيفي رسمي أكثر منه تربوي اجتماعي، تحدده دوافع الوظيفة وتحد منه أو تقيده مسؤولياتها، بدت لنا الفوارق جلية وحادة بين مسجد اليوم ومسجد الأمس!

إن صورة المسجد المعاصر لا تبدو غريبة إذا وضعناه في الإطار العام لحياة المجتمع المعاصر، فهو جزء منه يتأثر به إيجاباً وسلباً، ويتحدد دوره بحسب وضعه في هذا المجتمع ومكانه منه، وكأنه نتيجة طبيعية، بل حتمية لما آل إليه المجتمع من تطور.

بعدما كان المسجد قاعدة الحضارة الإسلامية وكل ما يشعه المسجد مفتاح هذه الحضارة، وكان ما يصدر عنه يطبع الحياة بطابعه، أصبح لا يزيد في أحسن الأحوال – فوق وظيفته التقليدية كمكان للصلاة – عن كونه مصدراً لمعرفة دينية هزيلة لا تستطيع أن تصمد في معركة توجيه الحياة مع أمواج التيارات الفكرية السابحة في كل اتجاه! فتطور المجتمع بمنأى عن المسجد، فحدث ما يعانيه الآن من انفصام بينه وبين الحياة.

إن الحياة المعاصرة قد تبدو في ظاهرها مستغنية أو معرضة عن توجيه المسجد، لكن حقيقتها أنها أشد ما تكون حاجة إلى هذا التوجيه، بشرط أن يرتفع هذا التوجيه إلى مستوى يجعله أهلاً لأن يستمع إليه، قادراً على الصمود عند مقارنته بسواه، متجاوزاً هذا المدى لينتزع التسليم بحقه في الهيمنة على كل ما عداه، ثقة فيه واطمئناناً إليه، واستشرافاً للمنفعة الحقيقية فيه[32].

خاتمـة:

بعدما ألقينا نظرة على بعض الجوانب المشرقة من الرسالة الحضارية للمسجد في الإسلام، ودوره العلمي والسياسي والاجتماعي والتواصلي، منذ أسس النبي صلى الله عليه وسلم أول مسجد إلى يومنا هذا، ورأينا كيف كان المسجد معقلا من معاقل الهداية والإرشاد، ومركزا من مراكز التعليم والتوجيه لما ينفع الناس في الدنيا والآخرة، وكيف ترعرعت محافل العلماء بين عمده ومحاريبه، وتخرجت قوافل القادة والزعماء من داخل أفنيته. يحق لنا أن نتساءل: هل في استطاعة مسلمي اليوم أن يعيدوا إلى المسجد رسالته ومكانته العلمية التي فقدها منذ قرون؟

المؤكد هو أن تراجع المساجد في أداء رسالتها، يرجع للمسلمين أنفسهم، فإذا تألق المسلمون في وعيهم، وازداد عدد الخيرين ودعاة الإصلاح، و أخلصوا دينهم لله، واجتمعت كلمتهم على الحق، وترسموا خطى النبي الكريم عليه أفضل الصلاة والسلام،  وتبوأ الخيرون منافذ التوجيه، صلحت الأمة، وتبدل خوفها أمنا، وضعفها قوة، وهزائمها نصرا، وسيعود المسلمون كما كانوا من قبل، ليكونوا شهداء على الناس، ويكون الرسول عليهم شهيدا. ﴿يَوْمَئِذٖ يَفْرَحُ اُ۬لْمُومِنُونَ (3) بِنَصْرِ اِ۬للَّهِۖ يَنصُرُ مَنْ يَّشَآءُۖ وَهُوَ اَ۬لْعَزِيزُ اُ۬لرَّحِيمُۖ[33].

وما من شك في أن المسجد كما كان بالأمس فاتحة التاريخ الحضاري للمسلمين ومنطلق بنائه، هو مؤهل اليوم أن يكون أساس الإصلاح المجتمعي والنهضة الحضارية المرجوة، لاستعادة الأمة مركزها الحضاري القيادي وسط الأمم، وبغير المسجد علما وعملا لن نصل إلى ما نريد، لأن المسجد من حيث الرسالة هو الإسلام، والإسلام وحده هو باب العزة، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

لائحة المصادر والمراجع :

  • الأزهر تاريخه وتطوره، وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر، القاهرة، 1384هـ/ 1964م.
  • أساليب التعليم عند المسلمين، محمد الحسيني عبد العزيز، مجلة الوعي الإسلامي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت، العدد 112، ربيع الآخر 1394هـ/ أبريل 1974م.
  • الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، مجير الدين الحنبلي العليمي، تحقيق عدنان يونس نباتة، مكتبة دنديس– عمان، 1420هـ/1999م.
  • البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى: 1408 ه‍. 1988 م.
  • الثروة في ظل الإسلام، البهي الخولي، دار القلم، الكويت، 1981م .
  • الجامع الصحيح المختصر(صحيح البخاري)، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير – بيروت، الطبعة الثالثة: 1407هـ – 1987م.
  • خطبة الجمعة وقضايا العصر، محمد سلامة، الدورة الثانية للملتقى العالمي لخطباء الجمعة بمدينة مراكش، 3 شعبان 1413هـ/ 26 يناير 1993م.
  • دور المسجد في الإسلام، علي محمد مختار، دار الأصفهاني للطباعة – جدة، طبعة: 1406هـ.
  • دور المسجد في التربية، عبد الله قادري الأهدل، الطبعة الأولى: 1407ه‍.
  • رسالة المسجد عبر التاريخ، أبو بكر القادري، مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، العدد 2، شوال 1395هـ.
  • رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ، محمد حسين الذهبي، مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، العدد 2، شوال 1395هـ.
  • رسالة المسجد،عبد الله بن محمد، مجلة رسالة المسجد، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، العدد السادس، 1403هـ.
  • الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، تحقيق عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م.
  • فاتحة العلوم، أبو حامد الغزالي، المطبعة الحسينية المصرية – القاهرة، الطبعة الأولى: 1322هـ.
  • الفتاوى الكبرى، ابن تيمية، تحقيق حسنين محمد مخلوف، دار المعرفة – بيروت، الطبعة الأولى: 1386ه.
  • المسجد ونشاطه الاجتماعي على مدار التاريخ، عبد الله الوشلي، مؤسسة الكتب الثقافية، بيروت، الطبعة الأولى، 1990.
  • مسند الإمام أحمد، الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1420هـ/1999م.
  • المسند الصحيح المختصر (صحيح مسلم)، مسلم ، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت.
  • مناقب الإمام الشافعي، فخر الدين الرازي، تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، 1406هـ/ 1986م.
  • الموطأ، الإمام مالك بن أنس الأصبحي، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان – أبو ظبي- الإمارات، الطبعة الأولى، 1425 هـ/2004م.

وظيفة المسجد في المجتمع، صالح بن ناصر الخزيم، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى: 1419هـ.

[1]– البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي، تحقيق علي شيري، دار إحياء التراث العربي، الطبعة الأولى: 1408 ه‍. 1988 م، 7/244.

[2]– دور المسجد في التربية، عبد الله قادري الأهدل، الطبعة الأولى ،1407ه‍، ص58.

[3]– المسند الصحيح المختصر (صحيح مسلم)، مسلم بن الحجاج القشيري، تحقيق محمد فؤاد عبد الباقي، دار إحياء التراث العربي – بيروت، كتاب صلاة المسافرين وقصرها، باب قراءة القرآن في الصلاة وتعلمه، 1/552، حديث رقم: 803.

[4]– الموطأ، الإمام مالك بن أنس الأصبحي، تحقيق محمد مصطفى الأعظمي، مؤسسة زايد بن سلطان – أبو ظبي- الإمارات، الطبعة الأولى، 1425 هـ/2004م، كتاب النداء للصلاة، باب انتظار الصلاة والمشي إليها، 2/223،حديث رقم: 555.

[5]– وظيفة المسجد في المجتمع، صالح بن ناصر الخزيم، وزارة الشئون الإسلامية والأوقاف والدعوة والإرشاد – المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى: 1419هـ، ص: 48.

[6]– فاتحة العلوم، أبو حامد الغزالي، المطبعة الحسينية المصرية – القاهرة، الطبعة الأولى: 1322هـ، ص: 19.

[7]– أساليب التعليم عند المسلمين، محمد الحسيني عبد العزيز، مجلة الوعي الإسلامي، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية- الكويت، العدد 112، ربيع الآخر 1394هـ/ أبريل 1974م، ص:85.

[8]– مناقب الإمام الشافعي، فخر الدين الرازي، تحقيق أحمد حجازي السقا، مكتبة الكليات الأزهرية، 1406هـ/ 1986م، ص: 20.

[9]– الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل، مجير الدين الحنبلي العليمي، تحقيق عدنان يونس نباتة، مكتبة دنديس– عمان، 1420هـ/1999م، (2/387).

[10]– الأزهر تاريخه وتطوره، وزارة الأوقاف وشؤون الأزهر، القاهرة، 1384هـ/ 1964م، ص185.

[11]– رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ، محمد حسين الذهبي، مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، العدد 2، شوال 1395هـ، ص: 540.

 

[12]– رسالة المسجد، عبد الله بن محمد بن حميد، مجلة رسالة المسجد، رابطة العالم الإسلامي، مكة المكرمة، العدد السادس، 1403هـ، ص: 15.

[13]– دور المسجد في التربية، عبد الله قادري الأهدل، ص.98.

[14]– خطبة الجمعة وقضايا العصر، محمد سلامة، الدورة الثانية للملتقى العالمي لخطباء الجمعة بمدينة مراكش، 3 شعبان 1413هـ/ 26 يناير 1993م، ص: 17.

[15]– سورة المائدة، الآية: 3.

[16]– الفتاوى الكبرى، ابن تيمية، تحقيق حسنين محمد مخلوف، دار المعرفة – بيروت، الطبعة الأولى: 1386ه. 5/118.

[17]– الجامع الصحيح المختصر(صحيح البخاري)، محمد بن إسماعيل البخاري، تحقيق مصطفى ديب البغا، دار ابن كثير – بيروت، الطبعة الثالثة: 1407هـ – 1987م. كتاب الاعتصام بالكتاب والسنة، باب قول الله تعالى ﴿ وأمرهم شورى بينهم﴾، 2/223 ، حديث رقم: 6936.

[18]– دور المسجد في التربية، عبد الله قادري الأهدل، ص68.

[19]– الروض الأنف في شرح السيرة النبوية لابن هشام، عبد الرحمن بن عبد الله السهيلي، تحقيق عمر عبد السلام السلامي، دار إحياء التراث العربي، بيروت، الطبعة الأولى، 1421هـ/ 2000م، 7/591.

[20]– دور المسجد في الإسلام، علي محمد مختار، دار الأصفهاني للطباعة ،جدة، طبعة: 1406هـ، ص: 207.

[21]– سورة التوبة109.

[22]– صحيح البخاري، كتاب أبواب المساجد، باب نوم الرجال في المسجد، 1/170،حديث رقم: 431.

[23]– صحيح البخاري، كتاب أبواب المساجد، باب القسمة وتعليق القبو في المسجد، 1/162، حديث رقم: 411.

[24]– انظر: الثروة في ظل الإسلام، البهي الخولي، دار القلم ، الكويت ، 1981م، ص 236.

[25]– صحيح البخاري، كتاب أبواب المساجد، باب التقاضي والملازمة في المسجد، 1/174،حديث رقم: 445.

[26]– صحيح البخاري، كتاب أبواب المساجد، باب الخيمة في المسجد للمرضى وغيرهم، 1/177،حديث رقم: 451.

[27]– البداية والنهاية، ابن كثير الدمشقي،17/375.

[28]– سورة الحجرات13.

[29]– مسند الإمام أحمد، الإمام أحمد بن حنبل، تحقيق شعيب الأرنؤوط وآخرون، مؤسسة الرسالة، الطبعة الثانية، 1420هـ/ 1999م ، 38/474،حديث رقم: 23489.

[30]– رسالة المسجد عبر التاريخ، أبو بكر القادري، مجلة البحوث الإسلامية، الرئاسة العامة للبحوث العلمية والإفتاء، المملكة العربية السعودية، العدد 2، شوال 1395هـ، ص: 510.

[31]– المسجد ونشاطه الاجتماعي على مدار التاريخ، عبد الله الوشلي، مؤسسة الكتب الثقافية – بيروت، الطبعة الأولى: 1990، ص:40.

[32]– رسالة المسجد في العالم عبر التاريخ، محمد حسين الذهبي، ص: 540.

[33]– سورة الروم3-4.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.