﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء السادس عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ - الجزء السادس عشر - (١٠) سلسلة "نتغير لنغير"/ د.فاطمة الزهراء دوقيه
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ – الجزء السادس عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
بقلم: د.فاطمة الزهراء دوقيه
وما زال الحديث عن تزكي الإنسان عبر العبادات التهذيبية الكبرى في الإسلام التي شُرعت لتعينه على الاستقامة فيغير ما بنفسه ليتغير واقعه.
إنها تلك العبادة العظيمة التي اسمها من التزكية، وآثارها التطهر والنماء والبركة في النفس.
إنها تلك العبادة التهذيبية لما جبلت نفسك على حبه حباً شديداً وعظيماً لقوله تعالى:﴿وَإِنَّهُۥ لِحُبِّ ٱلۡخَیۡرِ لَشَدِیدٌ﴾ العاديات:٨، الذي يحتمل معنيين؛ الأول:”وإنه لشديد المحبة للمال، والثاني: وإنه لحريص بخيل من محبة المال، وكلاهما صحيح”[1].
فحب المال حباً كبيراً صفة ملازمة للنفس، إن لم ينضبط بالتزكية وقيم الإيمان، أوقع صاحبه في الحرص على المال بمنع المعروف، وآفة الشح:﴿وَأُحۡضِرَتِ ٱلۡأَنفُسُ ٱلشُّحَّ﴾ النساء:١٢٨؛ فلا يرغب في البذل والعطاء، بل قد يجعله يسعى إلى اكتسابه بالوسائل غير المشروعة، كأن “يدفعه إلى السطو على الأموال التي لا حق له بها، بالظلم والعدوان، والبغي والطغيان، أي وإنه لأجل حبه المال لشديد قوي في البغي والظلم والعدوان، والجرأة على الحق بالباطل، والجرأة على ربه بالكنود والعصيان”[2]، كما أن حبه هذا غير المنضبط “أوجب له ترك الحقوق الواجبة عليه، قدم شهوة نفسه على حق ربه، وكل هذا لأنه قصر نظره على هذه الدار، وغفل عن الآخرة”[3].
ويقول تعالى مؤكدا هذه الصفة في نفسك:﴿وَتُحِبُّونَ ٱلۡمَالَ حُبࣰّا جَمࣰّا﴾ الفجر:٢٠..
إذا لم يُوجه هذا الحب ويُضبط بقيم الإيمان، فإنه “لا يستبقي في النفوس أريحية ولا مكرمة مع المحتاجين إلى الإكرام والطعام”[4]، ذلك لأن “هذا التعلق النفسي الشديد بالأموال يبلد حس الإنسان تجاه الآخرين من ذوي الحاجات والضرورات، فلا يتحرك قلبه برحمة ولا بعاطفة كريمة، فكيف يبذل للمسكين، أو يحض على إطعامه؟!”[5].
وهنا يجيء شرع الله ومنهجه في التزكية ليجيب على هذا السؤال، ويعالج هذه الآفة في النفوس؛ فيفرض سبحانه وتعالى عبادة مالية سماها “الزكاة”، تلك الحصة المقدرة من المال لمستحقيها، وسيلة لتزكية نفسك من شحها وحرصها المانعيْن للخير ولحقوق العباد، وهي حق لله تعبداً، وحق العباد معاملةً فرضها سبحانه في العديد من الآيات جاعلَها قرينة الصلاة أينما ذكرت:﴿وَأَقِیمُوا۟ ٱلصَّلَوٰةَ وَءَاتُوا۟ ٱلزَّكَوٰةَ﴾.
ومن الآيات التي تخبر أن هذه العبادة مزكيةٌ للنفس قوله سبحانه:﴿ٱلَّذِی یُؤۡتِی مَالَهُۥ یَتَزَكَّىٰ* وَمَا لِأَحَدٍ عِندَهُۥ مِن نِّعۡمَةࣲ تُجۡزَىٰۤ* إِلَّا ٱبۡتِغَاۤءَ وَجۡهِ رَبِّهِ ٱلۡأَعۡلَىٰ﴾ الليل:١٨-٢٠؛ فالذي يؤتي ماله يتزكى، أي ينفقه ليتطهر بإنفاقه ويتزكى من مرض الشح والبخل وآثار الذنوب والإثم، ويوق شح نفسه كما في التعبير القرآني:﴿فَٱتَّقُوا۟ ٱللَّهَ مَا ٱسۡتَطَعۡتُمۡ وَٱسۡمَعُوا۟ وَأَطِیعُوا۟ وَأَنفِقُوا۟ خَیۡرࣰا لِّأَنفُسِكُمۡۗ وَمَن یُوقَ شُحَّ نَفۡسِهِۦ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ هُمُ ٱلۡمُفۡلِحُونَ﴾ التغابن:١٦.
ومن تزكيك ما وعدك به تعالى بعد حثك على الإنفاق:﴿وَلَسَوۡفَ یَرۡضَىٰ﴾ الليل:٢١؛ إنه الشعور بالرضى؛ تلك الثمرة النفسية التي تجنيها من أدائك واجب المال عن إيمان وطيب نفس.
ومن الآيات كذلك قوله تعالى:﴿خُذۡ مِنۡ أَمۡوَ ٰلِهِمۡ صَدَقَةࣰ تُطَهِّرُهُمۡ وَتُزَكِّیهِم بِهَا﴾ التوبة:١٠٣، ليرسخ في وعي صاحب المال أن الصدقة تطهره من سيئات نفس وآفاتها، والأخلاق الرذيلة، وَتُزَكِّيه أي: تنميه وتزيد في أخلاقه الحسنة، وأعماله الصالحة، فضلا عن ثوابه الدنيوي والأخروي، وتنمية ماله والبركة فيها[6].
وما يذكره الله تعالى في هذه الآية من تطهير الصدقة للمؤمنين وتزكيتهم بها يشمل أفرادهم وجماعتهم، كما يقول رشيد رضا[7]، فهي تحمل إشارة إلى أن التزكية التي تحصل لا تخص صاحب المال فحسب، وإنما تستلزم كذلك تطهير من تؤدى له، مما ينتج عنه وقاية المجتمع وتطهيره من الرذائل الاجتماعية التي تثير فيه التخاصم والتحاقد، والتنازع والتحاسد؛ ذلك “بأن الأموال قوام حياة الناس، وقطب الرحى لمعايشهم ومرافقهم العامة والخاصة، وهم متفاوتون في الاستعداد للكسب والتثمير، والإسراف والتقتير، والقصد والتدبير، والجود والبخل، والتعاون على البر، فلا ينفك بعضهم محتاجاً إلى بعض في كسب الرزق وفي إنفاقه، وأشدهم استعداداً لجمع الثروة الذين يغلب على طباعهم الحرص والبخل حتى على أنفسهم وأولي قرباهم، وبهذا يكون بعضهم فتنةً – أي امتحاناً- لبعض، ومثاراً للتنازع والتخاصم، كما قال تعالى:﴿وَجَعَلۡنَا بَعۡضَكُمۡ لِبَعۡضࣲ فِتۡنَةً أَتَصۡبِرُونَ﴾ الفرقان:٢٠؛ أي ذلك مقتضى سنته تعالى في تفاوت البشر في الاستعداد والأخلاق والأعمال”[8].
وعليه، فإن تزكية الأنفس من خلال فريضة الزكاة تشمل الطرفين: صاحب المال المؤتي، وصاحب الحق المؤتى له، فكيف تتحقق تزكية النفس لدى هذين الطرفين من خلال هذه العبادة التهذيبية ..
يتبع
[1]– تفسير ابن كثير، ٨/٤٦٧، تحقيق: سامي السلامة، طبعة ١٩٩٩م، دار طيبة.
[2]– معارج التفكر ودقائق التدبر للميداني، ١/٦٣٧، ط١، ٢٠٠٠م، دار القلم، دمشق.
[3]– تفسير السعدي،
[4]– في ظلال القرآن، سيد قطب، ٦/٣٩٠٦.
[5]– معارج التفكر، ١/٥٣٩.
[6]– تفسير السعدي، ١١/٤٠١.
[7]– تفسير المنار، ١١/٢٧.
[8]– تفسير المنار، ١١/٢٧.