منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

سياسة الحذر للرسول ﷺمن خلال وقائع في السيرة النبوية

يحي ملوك

0

 سياسة الحذر للرسول ﷺمن خلال وقائع في السيرة النبوية

بقلم: يحي ملوك 

مقدمة:

 إن البحث في السيرة النبوية يجعل الباحث يكتشف كنوزا لا تقدر بثمن. حيث يجد فيها ما يصلحه و يصلح الجماعة من حوله والدائرة الأوسع من العالم كله. لذلك فإن الرسالة أول نزولها أشارت إلى هذا بقوله تعالى: {وما أرسناك إلا كافة للناس بشيرا ونذيرا }سبأ 44.

السيرة النبوية ذخيرة لا تنفذ، حيث يستفيد منها كل من أراد أن يبحث في الحياة، ويعيش فيها باطمئنان وأمان.ونحن نغوص في أعماق الحياة ونسبر أغوارها ونناطح مشاكلها وهمومها لا بد من التوغل فيها برفق وحذر حتى يستقيم أمرنا. و سياسة الحذر في السيرة النبوية هو موضوعنا الذي سوف نستهدفه من خلال تصرفات النبي صلى الله عليه و سلم في جميع مراحل السيرة ومنعطفاتها كلها لكي نستبين و نتلمس الطريق وفق المنهاج النبوي.

 معنى سياسة الحذر

 جاء في قاموس المعاني:

حذِر الشَّخصُ: تيَّقظ واستعدَّ وتأهَّب وتنبَّه

حَذِرَهُ مَخافَةً: اِحْتَرَزَهُ

حَذِرَ الشيءَ ومنه: خافه واحترزَ منه

حذَّره الشَّيءَ/ حذَّره من الشَّيءِ:أنذره ونبَّهه وجعله يقظًا

حَذّره الشيءَ، ومنه: خَوّفه آل عمران آية (28) “وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ”

خُذْ حذَرَكَ: عَلَيْكَ بِاليَقَظَةِ اِلْتَزَمَ الحَذَرَ اِلْتَزَمَ جانِبَ الحَذَرِ

إنَّه لاَبْنُ حَذَرٍ وأَحْذَارٍ: ابن حَزْم وتحرُّز

الحَذَر:ثِقَلٌ في العين من أَذَى يصيبها والجمع: أَحْذار

التزم جانبَ الحَذَر: كان حريصًا في موقفه،

لا يمنع حَذَرٌ من قَدَر [مثل]: تنبُّه الإنسان وحرصه الشديد لن يمنعاه من وقوع المقدور

 السِّيَاسَة لغويًا من مصدر على فِعَالَة، كما أشار ابن سيده، قال: وساس الأمر سِياسة([1]). والسياسة فعل السائس، والوالي يسوس رعيته، وسُوِّس فلانٌ أمر بني فلان؛ أي: كُلِّف سياستهم ([2]) وعند الفيروز آبادي: وسست الرعية سياسة: أمرتها ونهيتها.([3])

في البدء كلمة

في البداية كانت السرية هي السائدة بعد أن أعلن النبي صلى الله عليه وسلم انطلاق الدعوة الجديدة في مكة. وكان رد الفعل مستنكرا من أقرب الناس إليه: تبا لك إلهذا جمعتنا ؟؟؟فالنبي صلى الله عليه وسلم يمتص ردود الفعل المشينة والمؤثرة، ويعمل على أن تكون كل ردود الفعل مخففة على أصحابه رضي الله عنهم، ليتعلموا منه صلى الله عليه وسلم التصرف السليم والأمة من بعدهم. حينما يكون الأمر يحتاج إلى المناظرة والمحاججة ومقارعة الباطل فإنه صلى الله عليه وسلم لا يتردد و لا يحذر بل يصدع بالحق. أما خطط الدعوة وتوزيع الأدوار وأمكنة التجمعات للصفوة المؤمنة فإنها تكون في تكتم شديد، وليست صفحات مفتوحة يقرأها كل من هب ودب.

الحذر سنة نبوية ظهرت في أقواله وافعاله و تقريراته. وليس معنى الحذر أن تنكفأ على نفسك و تتجنب الخوض في غمار جهاد الدعوة.

 الحذر في القرآن الكريم

ولقد جاء الحذر في القرآن الكريم يحمل معاني الحفاظ على كينونة الجماعة المؤمنة أمام تربص الأعداء بها، ومن الآيات التي جاءت في هذا الباب:

  • {إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ كَانَمَحْذُورًا }الإسراء آية 57
  • {أَوْ كَصَيِّبٍ مِّنَ السَّمَاء فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصْابِعَهُمْ فِي آذَانِهِم مِّنَ الصَّوَاعِقِحَذَرَ الْمَوْتِ واللّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ} البقرة /19
  • {وَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِيمَا عَرَّضْتُم بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّسَاء أَوْ أَكْنَنتُمْ فِي أَنفُسِكُمْ عَلِمَ اللّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَلَـكِن لاَّ تُوَاعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَن تَقُولُواْ قَوْلاً مَّعْرُوفًا وَلاَ تَعْزِمُواْ عُقْدَةَ النِّكَاحِ حَتَّىَ يَبْلُغَ الْكِتَابُ أَجَلَهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْفَاحْذَرُوهُ وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } البقرة /235
  • {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِمْ وَهُمْ أُلُوفٌحَذَرَ الْمَوْتِ فَقَالَ لَهُمُ اللّهُ مُوتُواْ ثُمَّ أَحْيَاهُمْ إِنَّ اللّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَشْكُرُونَ }البقرة /243
  • {لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةًوَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ} آل عمران/28
  • { يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَّا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِن سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا ۗ وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ ۗ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ}  آل عمران: 30]
  • {اللَّهَ يَعْلَمُ مَا فِي أَنفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ ۚ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ } البقرة236
  • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانفِرُوا ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُوا جَمِيعًا} النساء71
  • . { فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَلْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَأَسْلِحَتَهُمْ} النساء102
  • {يقولون إن أوتيتم هَـٰذَا فَخُذُوهُ وَإِن لَّمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا } المائدة41
  • {وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ } المائدة49
  • {وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَاحْذَرُوا ۚ فَإِن تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا عَلَىٰ رَسُولِنَا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ } المائدة92
  • {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ } التوبة64
  • {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنفِرُوا كَافَّةً ۚ فَلَوْلَا نَفَرَ مِن كُلِّ فِرْقَةٍ مِّنْهُمْ طَائِفَةٌ لِّيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ } التوبة122
  • {لَّا تَجْعَلُوا دُعَاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعَاءِ بَعْضِكُم بَعْضًا ۚ قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنكُمْ لِوَاذًا ۚ فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخَالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَن تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} النور63
  • {وَإِنَّا لَجَمِيعٌ حَذِرُونَ }الشعراء56
  • {وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَنُرِيَ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا مِنْهُم مَّا كَانُوا يَحْذَرُونَ } القصص6
  • {أَمَّنْ هُوَ قَانِتٌ آنَاءَ اللَّيْلِ سَاجِدًا وَقَائِمًا يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَيَرْجُو رَحْمَةَ رَبِّهِ } الزمر9
  • {وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ ۖ وَإِن يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ ۖ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُّسَنَّدَةٌ ۖ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ ۚ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ ۚ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ ۖ أَنَّىٰ يُؤْفَكُونَ } المنافقون4
  • {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ ۚ وَإِن تَعْفُوا وَتَصْفَحُوا وَتَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ } التغابن14

لقد جاء الحذر في القرآن الكريم في سياقات مختلفة. منها ما يتعلق بـ:

  • حذر الكافرين من الموت. حذر يهود من الموت في الحرب.
  • الحذر من مخالفة أمر الله.
  • تحذير المؤمنين من اتخاذ الكافرين أولياء.
  • الحذر من اليوم الآخر واتخاذ كافة الاحتياطات.
  • الحذر في خوض المعارك أن يقع المؤمنون في كمائن العدو.
  • الحذر من هجوم العدو وهم يقيمون الصلاة.
  • تحذير المؤمنين أن يكونوا مثل اليهود.
  • تحذير الناس من عدم طاعة الله و رسوله.
  • المنافق يحذر من أن يفضحه القرآن.
  • التفقه في الدين يجعل المؤمن على حذر من نفسه.
  • عذاب الله هو ما ينبغي أن نحذره.
  • تحذير المخالفين أمر الله أن تصيبهم فتنة أو كارثة.
  • فرعون وهامان ومن شابههم يحذرون عذاب الله ولكن لا حياة لمن تنادي.
  • الحذِر اليقظ من المؤمنين من يقوم بين يدي الله في الليل.
  • التحذير من المنافقين وأساليبهم الملتوية.
  • التحذير من الأولاد والأزواج أن يكونوا أعداء.

الجهاد و علاقته بالحذر:

الجهاد خصلة من الخصال العشر التي لا يستقيم المرء إلا بها.فهو مرتبط بفلاح المؤمن في طريقه إلى الله تعالى، وكذلك فلاح جند الله في إحراز النصر و إقامة دين الله في الأرض.كما أن الجهاد يحافظ على مكتسبات الدعوة وإنجازاتها، و يبدد أحلام العدو و تطلعاته. هناك حقيقة واقعة عبر التاريخ الإسلامي أن الدين الإسلامي كمن له الأعداء من أول يوم بدأ يوم قام النبي صلى الله عليه و سلم في جيل الصفا يجهر بدعوة الإسلام فكان رد فعل أبي لهب: “تبا لك، إلهذا جمعتنا “. فاستمر أتباع الحاقدين ولا زالوا حتى يوم القيامة في الكيد للإسلام وأهله.ولذلك جاء في الحديث [4]: ” الجهاد ماض إلى يوم القيامة “.ولذلك فإن خميرة الانتصار على الباطل تتطلب عجنها بالحذر حيث لا يدخلنا إعجاب ولا ارتياب بل اقتحام وانسياب.

سياسة الحذر في مكة:

 النبي صلى الله عليه وسلم باعتباره صاحب الرسالة والمكلف من عند الله بحملها و تبليغها والسهر على جعلها تنتشر في الآفاق مصداقا لقوله تعالى:{ وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين } الأنبياء 106

 لم يدخر جهدا في هذه المهمة الشاقة. وقد كان ببشريته يتمتع بقيادة حكيمة ذكية بعيدة النظر يقدر القرار المتخذ من أجل المتابعة للوصول إلى الأهداف التي يرسمها. ومن جملة الخطوات التي اتخدها في مكة والتي تحسب ضمن سياسته في الحذر على سبيل الإجمال لا على سبيل الحصر ما يلي:

  • اختياره صلى الله عليه و سلم لدار الأرقم بن أبي الأرقم ليكون محضنا يربي فيه أصحابه.

لقد كان هذا المحضن ملاذا آمنا لكل المؤمنين الجدد في أن تبطش بهم قريش ولم تسجل كتب السيرة مداهمة هذا المقر على الإطلاق.

  • تصميم باب مدخل بيت الأرقم بن أبي الأرقم تتخلله شقوق و فتحات.

هذه الشقوق كان الهدف منها تبين ومعرفة من بالخارج من القادمين.

  • قدوم سيدنا عمر بن الخطاب وهو يتوشح سيفه[5] وإخطار النبي صلى الله عليه وسلم بذلك.
  • “حينما رآه رجل من فتحة الباب أخبر النبي صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله، هذا عمر بن الخطاب متوشحا السيف فنهض إليه… فأخذ بمجمع ردائه ثم جبذه جبذة شديدة وقال:.. فوالله ما أرى أن تنتهي حتى ينزل الله بك قارعة ([6]).

ولعل العبرة من هذا التصرف النبوي تجاه سيدنا عمر رضي الله عنه ليحول بينه وبين استعمال سيفه ضد الجماعة المؤمنة.

-جاء في سيرة ابن هشام([7]):” فخرج عمر يوما متوشحا سيفه يريد رسول الله صلى الله عليه و سلم…فلقيه نعيم بن عبد الله فقال له: أين تريد ياعمر ؟، فقال: أريد محمدا….فقال له نعيم: والله لقد غرتك نفسك من نفسك يا عمر.أترى عبد مناف تاركوك تمشي على الأرض وقد قتلت محمدا ؟ أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم ؟قال: وأي أهل بيتي ؟ قال: ختنك وابن عمك سعيد بن زيد، وأختك فاطمة بنت الخطاب.فقد و الله أسلما، و تابعا محمدا على دينه.”

الملاحظ في هذا النص أنه يحمل في ثناياه كلاما يصرف النظر عن الهدف الأساسي الذي عزم عليه سيدنا عمر لقتل النبي صلى الله عليه وسلم. وفي نفس الوقت فقد تنكر له وحسبه عمر لازال على الكفر.وكذلك استطاع هذا الصحابي أن يتعرف وجهة عمر، فحول اتجاهه ورده الى بيت أخته وعائلته فأفشى له سر إسلامهم للتضحية بهم لحماية قائد الدعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم.وهكذا نجد أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم قد تعلموا فن تدبير الحذر وحماية الجماعة المؤمنة.

الهجرة إلى الحبشة:

جاء في السيرة النبوية لابن هشام([8]):” قال ابن إسحاق:فلما رأى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما يصيب أصحابه من البلاء.. قال لهم: لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكا لا يظلم عنده أحد، وهي أرض صدق، حتى يجعل لكم فرجا مما أنتم.”

إن اختيار الحبشة كان من جملة ما كان يحيط به من أخبار العالم بتفاصيلها حيث أشار إلى عدل النجاشي،وأنهاأرض صدق وهي أرض رسالة النبي سيدنا عيسى عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام.

العودة من الطائف:

يقول الأستاذ وضاح خنفر([9]): “عندما رجع النبي صلى الله عليه و سلم من الطائف لم يدخل مكة مباشرة، لأنه كان يعلم أن قريشا التي وصلتها الأخبار ( مطاردة الصبيان وسفهاء الطائف ) ستزداد شراسة، فاحتاج إلى ترتيبات أمنية مناسبة. لذلك أقام في نخلة قريبا من مكة لكي يقوم بهذه الترتيبات. و تذكر الرواية أنه لما وصل إلى حراء أرسل رجلا من خزاعة إلى المطعم بن عدي يطلب أن يدخل في جواره، فأجاب المطعم و دخل مكة آمنا “.

أمام هذا الحدث لا بد من وقفة. فالنبي صلى الله عليه وسلم استعمل الذاكرة التاريخية ووظفها توظيفا ذكيا.علاوة على هذا فإنه كانت للجاهلية أعراف و قوانين تقدسها و تحترمها، فاستفاد من قانون الجوار لصالحه. أعود إلى الذاكرة التاريخية. تذكر كتب السير أن عبد مناف اعتدى على عبد المطلب و ذلك بسلبه أرضه التي كانت مخصصة للسقاية تسمى الأركاح. وعبد مناف هذا هو ابن اخ عبد المطلب.فطلب عبد المطلب من قومه أن يساعدوه في استرداد حقه المغتصب، لكن لم يجبه أحد. ثم توجه إلى أخواله من بني النجار في يثرب، لأن أم عبد المطلب كانت من بني النجار. فأجابه أخواله في سبعين أو ثمانين رجل فاسترد حقه المغصوب.في هذا الوقت كانت قبيلة خزاعة تراقب الوضع في مكة ومهتمة بذلك لأنها كانت على خلاف عدائي قديم مع قريش.فلما تبين لها بأن عود عبد المطلب قد اشتد بمؤازرة أخواله له، أقامت معه حلفا قويا. وتم الحلف في دار الندوة مع توثيقه. نعود الآن إلى غار حراء وقد استوعبنا معنى إرسال رجل من خزاعة. فما معنى أن يطلب صلى الله عليه و سلم الجوار من المطعم بن عدي في السياق السياسي ؟

والجواب هو أن المطعم بن عدي هو حفيد نوفل بن عبد مناف.وهو يحمل في ذاكرته ما فعله جده بعبد المطلب حينما استنصر عليهم بنو النجار علاوة على حلف خزاعة مع النبي صلى الله عليه وسلم والمطعم بن عدي يدرك ذلك ولا يستطيع أن يرفض الجوار بل قبل على الفور.هذا التصرف الحكيم الذي يجعل من خطواته التي يخطوها محسوبة بحذر ودراية وتفوق على سياسيي قريش فاستطاع أن يردهم خائبين.

الهجرة إلى المدينة:

إذا استقصينا هجرة النبي صلى الله عليه وسلم من قبل بدء الهجرة إلى وصوله إلى المدينة نجدها حافلة بسياسة الحذر والتمويه والتكتم. وهذا أمر مطلوب لأن النبي صلى الله عليه و سلم مطلوب للقتل. فهي ليست رحلة ترفيهية، وإنما هي رحلة لإنشاء دولة مركزية، وكانت محفوفة بالمخاطر و استغرقت أياما.

سياسة الحذر في الغزوات:

من كانت سياسته تعتمد الحذر وطرح التوقعات لأي عمل يقبل عليه فهو على الطريق الصحيح الذي يختصر المسافات ويطوي الأيام لصالحه. وهو ما فعله النبي صلى الله عليه وسلم، فلم يكمل ربع قرن من الجهاد المتواصل حتى تغير العالم من حوله. فقد أصبح في مقدمة الركب. وهذا ما أثار الباحثين في الشرق والغرب إلى ما حققه النبي صلى الله عليه وسلم من إنجازات مذهلة وفي ظرف وجيز.

قَالَ ابْنُ إسْحَاقَ ([10])كَمَا حَدَّثَنِي مُحَمَّدُ بْنُ يَحْيَى بْنِ حِبَّانَ: حَتَّى وَقَفَ عَلَى شَيْخٍ مِنْ الْعَرَبِ، فَسَأَلَهُ عَنْ قُرَيْشٍ، وَعَنْ مُحَمَّدٍ وَأَصْحَابِهِ، وَمَا بَلَغَهُ عَنْهُمْ، فَقَالَ الشَّيْخُ: لَا أُخْبِرُكُمَا حَتَّى تُخْبِرَانِي مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إذَا أَخْبَرْتنَا أَخْبَرْنَاكَ. قَالَ: أَذَاكَ بِذَاكَ؟ قَالَ: نَعَمْ، قَالَ الشَّيْخُ فَإِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّ مُحَمَّدًا وَأَصْحَابَهُ خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ صَدَقَ الَّذِي أَخْبَرَنِي، فَهُمْ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا، لِلْمَكَانِ الَّذِي بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبَلَغَنِي أَنَّ قُرَيْشًا خَرَجُوا يَوْمَ كَذَا وَكَذَا، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَخْبَرَنِي صَدَقَنِي فَهُمْ الْيَوْمَ بِمَكَانِ كَذَا وَكَذَا لِلْمَكَانِ الَّذِي فِيهِ قُرَيْشٌ. فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ خَبَرِهِ، قَالَ: مِمَّنْ أَنْتُمَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: نَحْنُ مِنْ مَاءٍ، ثُمَّ انْصَرَفَ عَنْهُ. قَالَ يَقُولُ الشَّيْخُ: مَا مِنْ مَاءٍ، أَمِنْ مَاءِ الْعِرَاقِ؟ قَالَ ابْنُ هِشَامٍ: يُقَالُ: ذَلِكَ الشَّيْخُ: سُفْيَانُ الضَّمَرِيُّ.

إن هذه الحادثة تكرس سياسة الحذر مع عمل استخبراتي رفيع المستوى. بحيث نزل النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه ليتقصى في إطار الاستخبارات العسكرية.وقد تنكر لشخصه بعملية تمويه عجيبة.

خاتمة:

 إن موضوع سياسة الحذر موضوع متشعب ومتداخل، يجمع كل ما يدخل في بابه وفي أبواب أخرى قد تكون رئيسة أو ثانوية. لكن على أية حال فالأمر يحتاج إلى توسيع البحث في الموضوع ليستوفي حقه. واكتفينا بالسيرة النبوية لأنها تفي بالغرض فهي جامعة مانعة وماتعة.


[1]   في اللغة، لابن سيده، تحقيق مجموعة من المحققين، القاهرة: معهد المخطوطات العربية، ص 8/354

[2]   المحيط في اللغة، للصاحب بن عبَّاد، تحقيق محمد حسن آل ياسين، بيروت عالم الكتب، 1994 م، ص 8/416.

[3]  [  القاموس المحيط، الفيروز آبادي، مجموعة من المحققين، بيروت: مؤسسة الرسالة، 1987 م، ص 710]

[4]   رواه الطبراني في الأوسط

[5]  الكامل في التاريخ لابن الاثير ج 3 ص 86

[6] سيرة ابن هشام المجلد 1 ص 296 و 297، الطبعة 1975

 [7]  المرجع السابق ص 295

[8]  المرجع السابق ص 280

[9]  كتاب الربيع الأول ، الطبعة الأولى ، 2020 ص 155

[10]ص616 – كتاب سيرة ابن هشام ت السقا – ظفر المسلمين برجلين من قريش يقفانهم على أخبارهم – المكتبة الشاملة

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.