نصر بدر ثمرة تربية وتتويج انتصارات وليس وليد تعبئةِ يومٍ (2) سلسلة دروس من غزوة بدر
إدريس قافو
نصر بدر ثمرة تربية وتتويج انتصارات وليس وليد تعبئةِ يومٍ(2)
سلسلة دروس من غزوة بدر
بقلم: إدريس قافو
هدف هذا المقال هو الخروج بالنفس من دائرة ما تحبُّ أن تسمعه إلى دائرة ما يثقل عليها ممَّا يجب عليها أن تعلمه ثم تعمله، والخروج بذكرى بدر من دائرة استدعاء بطولات الأمس وأمجاده، إلى دائرة التفكير في المنهاج التربوي الذي صنع أولئك الرجال، ثم الاقتباس من ذلك المنهاج لتحقيق إنجازات المستقبل وآماله.
ولحصر مجال العِبرة سنقف مع اضطراب نفوس بعض المؤمنين في لحظة فَوَات القافلة وتَحَتُّم مواجهة الجيش، لمحاولة فهم كيف تَخَطَّى الكرامُ ذلك الموقف الحرج، ولم يقولوا ما قاله أصحاب موسى: (قَالُواْ يَٰمُوسَىٰٓ إِنَّا لَن نَّدْخُلَهَآ أَبَدًا مَّا دَامُواْ فِيهَا فَٱذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَٰتِلَآ إِنَّا هَٰهُنَا قَٰعِدُونَ) ([1]).
لحظة تغيُّر الهدف من اعتراض القافلة إلى حتمية مواجهة الجيش
خرج أهل بدر طواعية لاعتراض قافلة قريش، ثم نجت القافلة وتحتَّمت مواجهة الجيش، وهنالك وُضِع الصحابة وجها لوجه مع احتمالية الموت، وفي مثل هذا الموقف تنتفض الأسئلة المصيرية الكبرى التي لا تقبل التأجيل ولا الإجابة المراوغة، من قبيل: هل أنت مستعد للموت؟ وماذا بعد الموت؟ وإذا كنتَ مستعداً للموت لماذا تُحمِّل أهلك تبعات مواقفك؟ ولماذا تُيَتِّمهم وتُفجِعهم بموتك؟ ثم لماذا ستضحي أصلا بنفسك كي ينعم ويستفيد الآخرون… وإذا انتصرت على هذه الأسئلة جاءتك أسئلة أخرى من باب الوَرَع: من قبيل هل حالك مع الله مناسب لقائه؟ فهَلاَّ أجلت اللقاء (الموت) حتى يستقيم حالك؟
وحتى لا يفوتنا استشعار صعوبة هذه المحطة، وخطورة حسم ما يطرح فيها من أسئلة، فتفوتنا بذلك العبرة، لا بد من استحضار ثقل ذلك المشهد على النفس.
استحضار ثقل المشهد كي لا نستخف بخطورة الموقف
لقد أشارت الله تعالى إلى هذا الموقف الصعب في قوله: (كَمَآ أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِن بَيْتِكَ بِٱلْحَقِّ وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ يُجَادِلُونَكَ فِي ٱلْحَقِّ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ كَأَنَّمَا يُسَاقُونَ إِلَى ٱلْمَوْتِ وَهُمْ يَنظُرُونَ)([2]). فقد شبَّهت الآية حال بعض المؤمنين من فرط فزعهم بحال من يساق إلى الموت وهو ينظر([3]). والسيرة لم تفصل حجم ما أصاب النفوس من الكرب، ولا الجدل المشار إليه، وحتى لو فصلته فهناك حقائق يجب أخذها بعين الاعتبار لاستشعار خطورة الموقف، منها:
- حقيقة “ليس الخبر كالعيان” التي أكدها الحديث: (ليس الخَبَرُ كالمُعايَنةِ؛ قال اللهُ لموسى: إنَّ قومَكَ صنَعوا كذا وكذا فلمَّا يُبالِ فلمَّا عايَن ألقى الألواحَ) ([4])، ثم بعد ذلك حقيقة أن من عاين الحدث ليس كمن عاش آلامه وأهواله.
- حقيقة أن معرفة عاقبة الأحداث تنسي كثيرا من أهوالها وكوابيسها، كما أنسى نزولُ توبة الثلاثة الذين خلفوا كعبَ بن مالك كابوسَ الضيق وانتظار المصير المجهول الذي عاشه، والذي وصفته الآية: (حَتَّىٰ إِذَا ضَاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ) ([5])، وكما أنسى نزول براءة أم المؤمنين عائشة وقع حادثة الإفك على النفوس، ووقع شهر من القيل والقال تتفطر له الأكباد.
- حقيقة أن انتظار النتائج المصيرية غير المحسومة قد يكون أصعب من النتائج نفسها، وكمثال لذلك نتائج الامتحانات، أو نتيجة مباراة للمهوسين بكرة القدم؛ فالمتابعة المباشرة ليس كمتابعة المباراة بعد معرفة النتيجة (مثال تقريبي).
وبناء على هذه الحقائق يمكن أن نقول إن حسم معركة الأسئلة الكبرى في ساحة النفوس لم تكن أسهل من الواجهة العسكرية، ويمكن تقريب صورة هذه المعركة من خلال وصف أبي حامد الغزالي لحاله وهو يحاول فقط حمل نفسه على التنازل عن الجاه العريض قال: ” وينجزم العزم على الهرب والفرار! ثم يعود الشيطان ويقول: هذه حال عارضة، إياك أن تطاوعها، فإنها سريعة الزوال، فإن أذعنت لها وتركت هذا الجاه العريض … ربما التفتت إليه نفسك، ولا يتيسر لك المعاودة. فلم أزل أتردد بين تجاذب شهوات الدنيا، ودواعي الآخرة، قريبا من ستة أشهر”([6])، بل إنه بقي في تردُّده حتى كَلَّ لسانه عن التدريس.
السؤال المركزي: كيف حسم أهل بدر ذلك الموقف بتلك السرعة؟
إجابة سطحية من التاريخ القريب
في شريط لأحد الوعاظ، (1990م تقريبا) خطب الواعظ الشاب، وانتفخت أوداجه، وعلت نبرة صوته، وأقسم بأَغْلَظ الأيمان (لو فتحوا لنا الحدود لحررنا القدس!)، ثم ذكر- إيماءةً إلى الوصفة السحرية- مقتطفات من الخطب التي ألقاه بعض الصحابة حين استشارهم رسول الله ﷺ في الحرب يوم بدر، ومنها قول سعد بن معاذ: “فامض يا رسول الله … فوالذي بعثك بالحق، لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد”([7])، وقول المقداد بن عمرٍو: “… لا نقول لك كما قال بنو إسرائيلَ لموسى اذهبْ أنتَ وربكَ فقاتِلا ” ([8]). ثم جزم أنه لن يتخلَّف أحد! وهذا الكلام هو من مؤشرات عدم الاعتبار بالسيرة النبوية؛ وقد تخلَّف ثلث الجيش يوم أُحُدٍ، ومن عدم الاعتبار بهدي القرآن الكريم الذي ذكر قصة الملاء من بني إسرائيل (إِذْ قَالُوا لِنَبِيٍّ لَّهُمُ ابْعَثْ لَنَا مَلِكًا نُّقَاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ) ([9])، وذكروا أكبر الأسباب الداعية إلى التضحية، فقالوا:( وَمَا لَنَا أَلَّا نُقَاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَقَدْ أُخْرِجْنَا مِن دِيَارِنَا وَأَبْنَائِنَا)([10])، لكن بمجرد أن جَدَّ الجدُّ، وتم الانتقال من الأقوال إلى الأفعال حدث ما أشارت إليه الآية: (فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتَالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِّنْهُمْ)([11])، ثم توالت الامتحانات: من امتحان الطاعة وفطم النفس عن مألوفاتها والصبر، إلى امتحان التوكل التام على الله، واليقين في لقائه، فلم يثبُت إلى النهاية إلا عدد قليل، وهم (الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلَاقُو اللَّهِ)([12]).
إجابة تمليها النظرة الشاملة للسيرة
إن انتصار أهل بدر في معركة الأسئلة الكبرى في ميدان النفس، وما تلاه من انتصار في ميدان المعركة العسكرية يوم بدر لم يكن وليد حماس بُثَّ فيهم ساعات قُبَيل المعركة، ولا وليد شجاعة فردية أو طاقة خارقة امتاز بها الصحابة دون غيرهم، بل هو نتيجة تربية تأسست قواعدها الأولى في مكة، حين كان رسول الله ﷺ يُعلِّم ويُصحح التصورات والبواعث، ويزكي النفوس، ويتمِّم الأخلاق… حتى أصبح الإيمان بالغيب وبكل ما أخبر به القرآن يقينا مطلقا.
فالذي اضطرب في ذلك الموقف هو فريق من المؤمنين، (وَإِنَّ فَرِيقاً مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ لَكَارِهُونَ)([13])، وليس كل المؤمنين، بالتالي فإن الفريق الآخر الذي لم يضطرب، ومعه رسول الله ﷺ كان عنصر ثبات للجماعة. وهذا الفريق هو المنتوج الأول للتربية النبوية، تربية أثمرت آل ياسر الذين هزموا بثباتهم حتى الموتِ عُنْجُهِيَّة أبي جهل، وأثمرت بلال الذي هزمت إرادته إرادة أمية بن خلف… تربية أثمرت ما لا يعد من الموافق البطولية التي هزمت المشركين نفسيا، وعمقت معاني التضحية لدى المسلمين، ورسخت من المبادئ ما لن ترسخه مئات المواعظ والمحاضرات؛ كما رسخ موقف ([14])جند جزائري واحد يؤمن بدينه لدى الفيلسوف الفرنسي روجيه جارودي (Roger Garaudy) ما لم ترسخه عشر سنوات من الدراسة في جامعة السوربون.
إن ما أنتجته التربية النبوية من مواقف كثبات آل ياسر وبلال، وانتصار مصعب بن عمير على طبيعة النفس الميَّالة إلى حياة الرفاهية والاستقرار، وانتصار صهيب الرومي التاجر على ما جُبِلت عليه النفس من حب المال… قد جعلت المشركين يوقنون أنهم إزاء نماذج بشرية لا طاقة لهم بها، وهذا الشعور وما يقابله لدى المسلمين من روح معنوية وتحدي كانا عاملين حاسمين في كسب المعركة العسكرية قبل بدايتها.
وأسئلة النفس التي تُطرح في مثل ذلك الموقف لم تكن مفاجئة للمنهاج التربوي الذي أهَّل أهْل بدر، بل هي أسئلة قد حُسِمَت سلفا بمستوى من مستويات القناعة واليقين، فقد أسلموا في زمن كان فيه الإسلام مغرما، وكان شعار قريش: (إِن نَّتَّبِعِ الْهُدَىٰ مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا)([15])، وبالتالي فإن ظروف إسلامهم كانت تحتَّم عليهم حسم الأسئلة المصيرية الكبرى بداية. وما وقع للبعض من اضطراب هو أمر طبيعي اقتضته عملية تحيين وإعادة بعض القناعات السابقة إلى الواجهة.
خلاصة
إن انتصار بدر لم يكن وليد حماس كما يحاول بعض المتحمِّسين تصويره، ولا وليد تعبئةِ يومٍ، بل هو ثمرة تربيةٍ نبويةٍ، دامت لسنوات في مكة، تُعَلِّمُ الكتابَ والحكمةَ وتُزكِّي النفوسَ؛ تربيةٍ رسخت من المبادئ والمواقف ما لن ترسخه مئات المواعظ والمحاضرات، تربيةٍ راكمت من الانتصارات المعنوية والأخلاقية في ميادين النفوس والإرادات ما جعل المشركين ينهزمون نفسيا قبل المواجهة.
([1]) _ سورة المائدة الآية: 24
([2]) _ سورة الأنفال: الآيتين 5-6
([4]) _ رواه أبن حبان في صحيحه، وأحمد في صحيحه، والطبراني في (المعجم الأوسط)
([5]) _ سورة التوبة الآية: 118
([6]) _ الغزالي، أبو حامد: المنقذ من الضلال، ص 174.
([7]) _ ابن هشام: السيرة النبوية لابن هشام، ج 1، ص 615.
([8]) _ ابن كثير: البداية والنهاية: 3/261 وأخرجه الطبري في (تاريخه) (11/220).
([9]) _ سورة البقرة: الآية 246
([12]) _ سورة البقرة: الآية 249
([13]) _ سورة الأنفال: الآيتين 5-6
([14]) _ في تعليق جارودي على موقف الجندي الجزائري الذي رفض تنفيذ أمر رميه بالرصاص، مع ما قد يترتب عن ذلك من عقاب قال: (كانت المفاجأة عندما رفض هؤلاء تنفيذ إطلاق النار، ولم أفهم السبب لأول وهلة؛ لأنني لا أعرف اللغة العربية، وبعد ذلك علمت من مساعد جزائري بالجيش الفرنسي كان يعمل في المعسكر أن شرف المحارب المسلم يمنعه من أن يطلق النار على إنسان أعزل، وكانت هذه أول مرة أتعرف فيها على الإسلام من خلال هذا الحدث المهم في حياتي، وقد علمني أكثر من دراسة 10 سنوات في السربون). انظر القاضي، أحمد بن عبد الرحمان بن عثمان: دعوة التقريب بين الأديان دراسة نقدية في ضوء العقيدة لإسلامية، رسائل جامعية (20)، دار ابن الجوزي، رسالة لنيل الدكتوراه، جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، الرياض، نقشت بتاريخ 17 / 08 / 1421. ص 842.