(خطبة ) كما ربياني صغيرا
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني
الحمد لله الذي شرع لنا حقوق الوالدين بموازاة حقوق الأولاد، حتى تكون الأسرة في توازن وتماسك بين الأفراد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ولا أنداد، شهادة تمتد من الآباء والأجداد، لِتَمُدَّ بالحقوق الأولاد والأحفاد، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله سيد الأسياد، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه صُنَّاع الأمجاد، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم التنادي.
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون! أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
قدمنا لكم في الجمعة الماضية بِرَّ الوالدين؛ فرأينا كيف كانت حقوقهما عظيمة، وكيف كان عقوقهما جريمة؟ فدعونا اليوم نبدأ هذه الخطبة بتساؤل بسيط: هل للأولاد حقوق تجب لهم؟
يجب أن نعلم أن الإسلام دائما في توزيع الحقوق والواجبات يسلك مسلك التوازن، حماية للأفراد والأسر والمتجمعات، والتوازن أساس كل الأمور؛ فحينما يفقد الإنسان التوازن في أي أمر تراه يميد كالسكارى، لا يقوم إلا كما يقوم الذي يتخبطه الشيطان من المس؛ ولهذا حينما أوجب الإسلام على الأبناء حقوق الآباء؛ فقد أوجب قبلها على الآباء حقوق الأبناء؛ حفاظا على التوازن بين الحقوق والواجبات؛ فما كان حقا للآباء فهو واجب على الأبناء، وما كان واجبا على الآباء فهو حق للأبناء.
روى الإمام مسلم أن رَسُول اللَّهِﷺ قال: «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له»؛
فالولد الصالح هو النتيجة الحتمية لحقوق الأولاد وهو الذي يعطي لوالديه عمرا آخر بعد وفاتهما، حيث تُسْتَثْمر أعمالهما في الدنيا وهما في القبور، وتستمر حسناتهما في اكتساب الأجور؛ ولهذا جاءت حقوق الأبناء سابقة لحقوق الآباء، بل إن حقوق الأبناء هي الأساس وحقوق الوالدين هي البناء، والبناء دون الأساس ساقط ومنهار، والأساس دون البناء خراب وأطلال، فبين الآباء والأبناء حقوق متبادلة، وواجبات متقابلة، فالله تعالى عندما ذكر لنا حقوق الوالدين بناها على حقوق الأولاد: {وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرًا}؛ فحقوق الآباء ليست نتيجة الإيلاد والإنجاب فحسب؛ بل هي نتيجة التربية والآداب، {كما ربياني صغيرا} ولم يقل كما ولداني صغيرا، فليس من حق أي أب أن يطالب بالحقوق إذا ما ربَّى أبناءه على العقوق.
وحقوق الأبناء تجمعها كلمة (التربية)؛ والتربية أنواع؛ منها: التربية الصحية والبدنية، والتربية النفسية والعقلية، والتربية الروحية والدينية.
● أما التربية الصحية والبدنية؛ فتبدأ بعد الولادة مباشرة:
• منها سنة التحنيك، وهي إعطاء المولود بعد ولادته مادة سكرية، وقد كان النبيﷺ يحنك المولود بتمرة؛ حتى تكون الحلاوة المادية أول ما يفرع في معدته، وفي هذا التحنيك فائدة طبية عظيمة لم يتم اكتشافها إلا في هذا العصر حين تطور الطب؛ فقد ثبت علميا أن الطفل تتم حمايته من بعض الأمراض بمجرد وضع قطرات من ماء السكر في فمه بعد ولادته، وهذا ما سبق إليه الرسول الأميﷺ مند أربعة عشر قرنا.
• ومنها الرضاعة؛ وقد حبا الله تعالى حليب الأم بمواد خاصة تنفع الطفل لا توجد في غيره، ولهذا قرر الأطباء أن حليب الأم بعد الولادة والمسمى بـ(اللبأ) وهو السائل الأصفر الذي يسبق ظهور الحليب مهم جدا للطفل؛ لأن به مواد هامة لبناء جهاز المناعة ضد الميكربات في جسم الأطفال؛ ولهذا كان واجبا على الأم أن ترضع ولدها، كما كان واجبا على الأب أن ينفق على الأم وولدها؛ والله تعالى يقول: {وَالْوَالِدَاتُ يُرْضِعْنَ أَوْلاَدَهُنَّ حَوْلَيْنِ كَامِلَيْنِ لِمَنْ أَرَادَ أَن يُتِمَّ الرَّضَاعَةَ وَعلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَكِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوف}.
• ومنها الختان وهو من خصال الفطرة في الإسلام، وقد أكد الأطباء اليوم فوائده الصحية؛ روى البخاري ومسلم أن النبيﷺ قال: «خمس من الفطرة: (وعد منها) الختان…».
• ومنها الحضانة والنفقة التي تشمل المأكل والمشرب الذي يُنَمِّيه، والألبسة التي تحميه، والمسكن الذي يؤويه، والتداوي والمعالجة من الأمراض.
● وأما التربية النفسية والعقلية؛ فتأتي طبعا بعد التربية الصحية؛ لأن العقل السليم في الجسم السليم، وهي تبدأ أيضا بعد الولادة مباشرة؛ منها:
• اختيار الاسم الحسن، فلا يجوز للأب أن يطلق على ابنه اسما يتأذى منه نفسيا، فيتبرم من المناداة به، وقد عانى الكثير منا في ذلك من تلك الألقاب المشوهة، التي يستحيي حتى أصحابها ذكرها، وقد فرضت عليهم فرضا، والتصقت بهم قانونا وواقعا، والاسم يدل على المسمى والأسماء المكروهة قد توافق مسمياتها وقديما قيل:
وقلما أبصرت عيناك ذا لقب * إلا ومعناه إن فتشت في لقبه
• ومنها عدم إظهار النزاع والخصام الذي يقع بين الأبوين أحيانا أمام أولادهما لأن الخصام وإن ظنه الأبوان بسيطا فهو يشتت نفسية الطفل، ويدخل البلاء لباله وعقله، فيتربى على العنف والفظاظة والغلظة.
• ومنها العدل بين الأولاد في المنع والعطاء؛ لأن عدم المساواة بينهم يزرع الحقد والعداوة بينهم، فمن أعطى أحد أولاده دون الآخر فقد ظلم، ومن أعطى الذكور دون الإناث فقد ظلم؛ والنبيﷺ حين طلب منه صحابي الشهادة على مثل هذا قال له: «لا تشهدني على ظلم»، وقديما كان الإخوة يقسِّمون الميراث، وأما اليوم فالميراث هو الذي يقسِّم الإخوة ويشتت شملهم.
• ومنها الاعتناء بهم حينما يتورطون في مشكل خطير مثل المخدرات؛ وهنا يجب أن يعلم الآباء أن الطفل المدمن في البداية يكون مذنبا، ولكنه في النهاية يكون أيضا مريضا مرضا نفسيا يحتاج للرعاية والشفاء، يحتاج للعلاج والدواء، ومن الأخطاء الفظيعة، التي يرتكبها بعض الآباء، حين يكتشف أن ولده مدمن، أول شيء يفعله يطرده من المنزل ويتبرأ منه، ويقدم أولاده عليه؛ فليس أمامه حينئذ إلا أن يستسلم لمزيد من المخدرات لينسى مأساته؛ فيكون كما قيل: أراد أن يُكحلها فأعماها.
● وأما التربية الروحية والدينية؛ فتأتي طبعا بعد صحة البدن وسلامة العقل؛ لأن كل تكليف بشرط العقل وإذا كان العقل السليم في الجسم السليم، فإن الدين السليم في العقل السليم، وهي تبدأ أيضا بعد الولادة:
• منها الآذان في أذن الطفل اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى بعد الولادة مباشرة، ليكون أول ما يقرع أسماعه هي “لا إله إلا الله والله أكبر”؛ فقد أراد الإسلام أن يستقبل المسلم الدنيا بكلمة (لا إله إلا الله) كما أراد أن يغادر بها الدنيا؛ قال رسول اللّهﷺ: «مَنْ كَان آخِرَ كَلامِه لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ دَخَلَ الجَنَّةَ».
• ومنها ذبح العقيقة عنه وإزالة الشعر الذي ولد معه والتصدق بوزنه ذهبا أو فضة، وقدره بعض العلماء بالعلمة اليوم فيما بين 50 درهما إلى 100 درهم.
• ومنها تعليمهم أمور الدين والدنيا معا؛ من القراءة والكتابة والصلاة وآداب الاستئذان ومكارم الأخلاق، وما تيسر من المهن والحرف، والرسولﷺ يقول: «ما من مولودٍ إلا يُولَدُ على الفطرةِ، فأبواه يهودانه، أو ينصِّرانه، أو يمجسانه».
أقول ما تسمعون وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين والحمد لله رب العالمين…
الحمد لله رب العلمين…
أما بعد فيا أيها الاخوة المؤمنون؛ إن عمدة التربية إنما تتحقق بالأحوال قبل الأقوال، وفي هذا يقال تلك الحكمة المشهورة التي أنشأها علماء التصوف السني: (حال رجل في ألف رجل أنفع من قول ألف رجل في رجل) ومعناها أن حال شخص واحد ملتزم بتعاليم دينه قد يؤثر في ألف شخص بالكيفية التي لا يؤثر بها ألف شخص إذا كانوا يعظون واحدا، وذلك لأن مصداق القول هو العمل، ولأن القول بدون عمل نفاق وخداع، والأطفال يتأثرون بالأعمال أكثر من تأثرهم بالأقوال؛ فلا معنى لقول الأب لابنه: لا تدخن، والأب نفسه يدخن، ولا معنى لقوله: صل والأب والأم لا يصليان.
وأركان الإسلام الخمسة جاءت مرتبة حسب النمو الطبيعي للإنسان؛ فحين يولد المسلم يسن أن يلقح مباشرة بعد الولادة بكلمة الشهادتين بالأذان في أذنه اليمنى والإقامة في أذنه اليسرى. ثم يستمر في نموه حتى يصل السابعة من عمره فيلقح بالصلاة؛ لقولهﷺ: «مُرُوا أولادَكم بالصلاة وهم أَبناءُ سبع سنين…». وحينما يلمس في جسده علامات البلوغ يلقح بالصيام. وحينما يعمل ويوفر لنفسه قسطا من المال يدور عليه الحول يلقح بالزكاة. وحينما يتكاثر هذا التوفير يجب عليه التلقيح بفريضة الحج.
فتلقيح الجسم إنما ينفع إذا كان بموازاة تلقيح الروح.
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…