منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

التأويل الصحيح وأثره في حوار الأديان والحضارات

لطيفة يوسفي

0

والحوار لغة ” (حور) الحاء والواو والراء ثلاثة أصول: أحدها لون، والآخر الرجوع، والثالث أن يدور الشيء دورا.

فأما الأول فالحور: شدة بياض العين في شدة سوادها.وأما الرجوع، فيقال حار، إذا رجع. قال الله تعالى﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ بَلَى[1]والأصل الثالث المحور: الخشبة التي تدور فيها المحالة.”[2]

وفي الاصطلاح المراجعة بالكلام بين طرفين حول قضية معينة بأسلوب عملي هادئ، قائم على الحجة والإقناع بغرض الوصول إلى الحق فيها.فهو قريب من معناه اللغوي.

وعلى هذا الأساس انبنى تعريفه عند العلماء فقيل ” الحوار في الاصطلاح: هو المعنى اللغوي السابق نفسه، فهو إذا: مراجعة للكلام بين طرفين أو أكثر دون وجود خصومة بينهم بالضرورة.”[3]

إن القرآن الكريم بين في آيات عديدة أن تعدد الحضارات الإنسانية واختلاف الناس في الدين أمر من مقاصد الخلق. قال تعالى ﴿وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَإِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ[4]. فالاختلاف أمر قدري مثلما هو أمر مقصود لتقوم الحجة على المخالف لكن ليس للاقتتال والنزاع. أما التنوع في الأعراق والأجناس والألوان واللغات فإنما يقصد به التعارف والتقارب، لا التنافر والتفرق. قال الله تعالى﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ[5] فالقصد من التعدد والتنوع الحضاري في أدنى مراحله هو التلاقي والتعارف وتبادل الأفكار والخبرات التي تطورها أنماط الحياة المختلفة. وذلك مما يزيد من عمق مكونات كل حضارة بما تولده من الحضارات الأخرى. وبتواصل الاحتكاك السلمي بين الحضارات يتعلم أفراد البشر أن يقللوا من تحيزاتهم، وأن يلطفوا من مشاعرهم السلبية تجاه أصحاب الحضارات الأخرى، فيزيد التسامح بين البشر، وتصحح تلك الأفكار الخاطئة تجاهالآخرين.

إن الله عز وجل عندما أقر مبدأ التعارف أراد أن يرسخ مبدأ الحوار كخيار وبعد استراتيجي إسلامي، ـ إذ صح التعبيرـ فقال سبحانه: “﴿لِتَعَارَفُوا﴾ ليعرف بعضكم بعضا، قال مجاهد: جعلنا هذا لتعارفوا، فلان بن فلان من كذا وكذا.”[6]

ففعل التعارف يقتضي ” التزام منهج الحوار بدءا من أصغر الدوائر الفكرية والمجتمعية، إلى أعلاها في مستوى التعارف وبناء أواصر العلاقات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية بين الشعوب المختلفة الأديان والمذاهب والملل والنحل.”[7]

والملاحظ أن القرآن أكد أهمية تطهر المحاور المسلم من عقدة الاستعلاء الديني ومن وهم امتلاك الحقيقة المطلقة دون غيره، فالحقيقة لها عدة وجوه وكلها تعكس رحمة الله ولطفه قال الله عز وجل ﴿قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَإِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلَى هُدًى أَوْ فِي ضَلَالٍ مُبِينٍ﴾.[8]

إن ثقافة الحوار تقوم أساسا على قناعة مفادها أن تصوراتنا كما هو حال تصورات غيرنا صحيحة، ولكنها تحتمل الخطأ. وهذا السلوك الثقافي لا بد أن يرتبط بالتربية في كل مستوياتها إذ علينا أن نربي الناشئة على عدم التعصب والاعتراف بالخطأ واحترام آراء الآخرين والأخذ بها عند اللزوم. ولذلك، عمل الوحي الإسلامي على تربية الرسول على الحكمة والاعتدال فخاطبه:﴿ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ[9]

والزمخشري قال في تفسير هذه الآية ما يؤكد اهتمام القرآن بالبعد الثقافي للحوار، إذ فسر﴿الْحِكْمَةِ﴾بالمقالة المحكمة الصحيحة، وهي الدليل الموضح للحق المزيل للشبهة كما ذهب أن﴿وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ﴾، وهي التي لا يخفى عليهم أنك تناصحهم بها وتقصد ما ينفعهم فيها. أما قوله ﴿وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾، بالطريقة التي هي أحسن طرق المجادلة من الرفق واللين.[10]

وهكذا فإن الحوار الناضج والمسؤول لا بد – من منظور قرآني – أن يعتمد الحكمة بما هي علم تتفق كل الثقافات على منهجه وصرامة أدائه وأن يتسلح بحسن النية والنصيحة الصادقة التي يحب فيها غيره من البشر كما يحب نفسه، لا فائدة من حوار – اعتمادا على هذا التصور – لا يحقق سعادة الإنسان ولا ينفع البشر. بالإضافة إلى ذلك، نفهم تأويل الزمخشري لهذه الآية أن الإنسان مطالب، وهو يحاور الآخر أن يتجنب الانفعال والحقد، وهذه المقاربة تعني أن التشدد والتعصب والتهكم يؤدي حتما إلى القطيعة ويولد البغض والخصام، ولذلك نبه القرآن الرسول ” فقال سبحانه وتعالى ﴿وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ﴾.[11]

والمتدبر في نهاية الآية، يتبين له أن الله خص نفسه بمعرفة المخطئ من المصيب﴿إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ﴾وهذا التصريح يؤكد على ضرورة الاهتمام بالإنسان بما هو إنسان خارج إطار ثنائية الضلال والهداية. يقول الرازي” والمعنى: أنك مكلف بالدعوة إلى الله تعالى بهذه الطرق الثلاثة، فأما حصول الهداية فلا يتعلق بك، فهو تعالى أعلم بالضالين وأعلم بالمهتدين، والذي عندي في هذا الباب أن جواهر النفوس البشرية مختلفة بالماهية، فبعضها نفوس مشرقة صافية قليلة التعلق بالجسمانيات كثيرة الانجذاب إلى عالم الروحانيات وبعضها مظلمة كدرة قوية التعلق بالجسمانيات عديمة الالتفات إلى الروحانيات، ولما كانت هذه الاستعدادات من لوازم جواهرها، لا جرم يمتنع انقلابها وزوالها، فلهذا قال تعالى: اشتغل أنت بالدعوة ولا تطمع في حصول الهداية للكل، فإنه تعالى هو العالم بضلال النفوس الضالة الجاهلة وبإشراق النفوس المشرقة الصافية فلكل نفس فطرة مخصوصة وماهية مخصوصة، كما قال الله عز وجل ﴿فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ﴾”([12]) ([13])

وعليه فإن تحديد موضوع الحوار يتطلب جهدا فكريا راشدا والتزاما استشرافا واعيا، يضبط المسار الطبيعي للفكرة محل الحوار والمدارسة. وقد قدم الماوردي معالجة أخلاقية واسعة لتحديد أسلوب الحوار فربط فضيلة التسامح في الحوار بالمروءة ” التي هي حيلة النفوس وزينة الهمم، فالمروءة مراعاة الأحوال إلى أن تكون على أفضلها حتى لا يظهر منها قبيح عن قصد ولا يتوجه إليها ذم باستحقاق.”[14]

وهذه الآيات وغيرها في الكتاب المبين تحمل في دلالتها التأسيس لآلية الحوار وترقيتها والنهوض بها مما يدل على أهميتها الحيوية في بناء المعرفة الإسلامية،إنه آليةمثلى لاستجلاء الحقائق بين الحضارات والثقافات. والدعوة الحوارية جاءت في القرآن الكريم ” بهدف تعميق مساحات الحركة الفكرية الفاعلة، في خط التعارف واللقاء المثمر بين الشعوب، كوسيلة تطبيقية عملية تستنهض طاقات الأمة، وتوحد صفوفها في عملية مواجهة التحديات الحضارية والثقافية والاقتصادية.”[15]

فالقرآن الكريم ” كتاب الحوارفهو الذي يجبأن ندرسه دراسة واعية، لنجد فيه الوثيقة الرائعة من وثائق الحوار الديني الذي يتعلق بكل قضايا العقيدة ابتداءا من فكرة وجود الله، ووحدانيته، إلى الأحكام الشرعية.”[16]

وفي السيرة النبوية تطبيق لهذه المبادئ التي أقرها الإسلام في بيان أساليب الحوار ـ مع المسلم أو مع غير المسلم ـفالنبي صلى الله عليه وسلم قد كتب كتابا يتضمن المبادئ التي قامت عليها أول دولة في الإسلام، وفيها من الإنسانية والعدالة الاجتماعية والتسامح الديني والتعاون على مصلحة المجتمعوذلك فيما يعرف بصحيفة المدينة[17]التي تعد أول ميثاق للتعايش في المجتمع المسلم. وفي ذلك يقول محمد حسين: إن ” السيرة النبوية الشريفة هي بحق تمثل التطبيق العملي للمنهج القرآني الذي ركز القاعدة وأقام البناء.”[18]

وعلى هذا الأساس اجتهد الفقهاء المجتهدين في استنباط الأحكام التي تخص أهل الذمة في سبيل ما أكده الإسلام من حوار وتعايش وتعارف.ومثاله إن اجتمعت على الذمي جزية سنين ” استوفيت كلها عند الجمهور.

وقال أبو حنيفة: تتداخل وتؤخذ منه جزية واحدة، وأجراها مجرى العقوبة، فتتداخل كالحدود، والجمهور جعلوها بمنزلة سائر الحقوق المالية كالدية والزكاة وغيرهما.

وذهب ابن القيم إلى أن ” قول الجمهور أصح، إلا أن يناسب التخفيف عنه بترك أداء ما وجب عليه للمسلمين ولاسيما إذا كان ممن لا يعذر بالتأخير.ولو قيل بمضاعفته عليه عقوبة له لكان أقوى من القول بسقوطها، والله أعلم.”[19]

ومثاله أيضا: أموالهم التي يتجرون بها في المقام وزروعهم وثمارهم التي يستغلونها من أرض الخراج فليس عليهم فيها صدقة.[20]

والحجة في ذلك ما رواه «أبو عبد الله، قال: ليس على أهل الذمة في نخلهم، ولا في مواشيهم، ولا زرعهم، ولا كرومهم صدقةإنما الصدقة على المسلمين، طهرة لهم.»[21]قال في كتاب أبي: وكذلك قال مالك.”[22]وأما ما استغلوه من الأرض العشرية فهي مسألة اختلف فيها إلى أقوال: روي عن ” أبي حنيفة قال: إذا اشترى الذمي أرض عشر تحولت أرض خراج.قال: قال أبو يوسف: يضاعف عليه العشر.

وروى بعضهم عن مالك أنه قال: لا عشر عليه ولكن يؤمر ببيعها، لأن في إقراره عليها إبطالا للصدقة.”[23]

ومذهب أحمد أنه ” يجب عليهم عشران وعليه أكثر نصوصه واحتجاجه، وكثير من أصحابه يحكي مذهبه أنه لا عشر عليه، ومنهم من يقول: وعنه عليهم عشران وإذا كانوا إذا اتجروا في غير بلادهم أخذ منهم ضعف ما يؤخذ من المسلمين مع جواز التجارة لهم، وأنهم لا يسقطون بها حقا لمسلم، فإذا دخلوا في الأرض العشرية بشراء أو كراء وهم ممنوعون من ذلك، فلأن يؤخذ منهم ضعف ما يؤخذ من المسلم بطريق الأولى، إذ لو لم يؤخذ منهم لتعطلت حقوق أرباب العشر وما عليه منالمنقطعين من الجند والفقراء وغيرهم، وفي ذلك فساد عظيم، فإنا لو مكناهم من الدخول في أرض العشر وهم يعلمون أنه لا عشر عليهم لتهافتوا وتهالكوا عليها لكثرة المغل وقلة المئونة فتذهب حقوق المسلمين وهذا باطل.

وقياس الأرض على المواشي والعروض قياس فاسد، فإن المواشي والعروض لا تراد للتأبيد بل تتناقلها الأيدي، وتختلف عليها الملاك والأرض إذا صارت لواحد منهم ولا عشر عليه فيها ولا خراج، عض عليها بالنواجذ وأمسكها بكلتا يديه، وعطل مصلحتها على أهل العشر ولهذا لما علم أبو حنيفة فساد هذا قال: إذا اشترى أرض العشر تحولت خراجية.”[24]

ومذهب الشافعي في هذا: أنهم لا يمكنون من شراء أرض العشر واكترائها، وأنه لا شيء عليهم في زروعهم وثمارهم، كما لا زكاة عليهم في مواشيهم وعروضهم ونقودهم. إذ يقول “ومن كان منهم ذا زرع يقتات من حنطة أو شعير أو ذرة أو دخن أو أرز أو قطنية لم يؤخذ منه فيه شيءحتى يبلغ زرعه خمسة أوسق يصف الوسق في كتابه بمكيال يعرفونه فإذا بلغها زرعه فإن كان مما يسقى بغرب ففيه العشر وإن كان مما يسقى بنهر أو سيح أو عين ماء أو نيل ففيه الخمس. ومن كان منهم ذا ذهب فلا جزية عليه فيها حتى تبلغ ذهبه عشرين مثقالا فإذا بلغتها فعليه فيها دينار نصف العشر وما زاد فبحساب ذلك. ومن كان ذا ورق فلا جزية عليه في ورقه حتى تبلغ مائتي درهم وزن سبعة فإذا بلغت مائتي درهم فعليه فيها نصف العشر ثم ما زاد فبحسابه.”[25] وهو اختيار ” أبي عبيد وطائفة من أصحاب أحمد، وهو المشهور عند أصحاب مالك، ومذهبه الذي نص عليه منعهم من شراء أرض العشر.”[26]

وغيرها من الاجتهادات في التاريخ الإسلامي، فالفقهاء تعاملوا مع مفهوم أهل الذمة وأصلوا من خلاله للعديد من الأحكام الشرعية في حقهم، بحيث رسموا بتأويلهم خطا لتحقيق التوازن، والتعادل في نفس الإنسان المسلم بين ثقته المطلقة، بأحقية دينه، وصوابيته من جهة، وبين احترام سائر الأديان وأصحابها من جهة أخرى، وهذا شهاب الدين القرافي من فقهاء المالكية، يشرح ما يجب على المسلمين للمعاهدين انطلاقا من المنهج النبوي قائلا:

إنعقد الذمة ” يوجب حقوقا علينا لهم لأنهم في جوارنا وفي خفارتنا وذمة الله تعالى وذمة رسوله – صلى الله عليه وسلم – ودين الإسلام فمن اعتدى عليهم ولو بكلمة سوء أو غيبة في عرض أحدهم أو نوع من أنواع الأذية أو أعان على ذلك فقد ضيع ذمة الله تعالى وذمة رسوله – صلى الله عليه وسلم – وذمة دين الإسلام.”[27] ثم قال في موضع آخر: ” وأما ما أمر به من برهم ومن غير مودة باطنية فالرفق بضعيفهم وسد خلة فقيرهم وإطعام جائعهم وإكساء عاريهم ولين القول لهم على سبيل اللطف لهم والرحمة لا على سبيل الخوف والذلة واحتمال إذايتهم في الجوار مع القدرة على إزالته لطفا منا بهم لا خوفا وتعظيما والدعاء لهم بالهداية وأن يجعلوا من أهل السعادة ونصيحتهم في جميع أمورهم في دينهم ودنياهم وحفظ غيبتهم إذا تعرض أحد لأذيتهم وصون أموالهم وعيالهم وأعراضهم وجميع حقوقهم ومصالحهم وأن يعانوا على دفع الظلم عنهم وإيصالهم لجميع حقوقهم.”[28]

مقتطف من كتاب:

”التأويل في الخطاب الأصولي وأثره في الفقه الحضاري للأمة”

رابط تحميل الكتاب:

https://www.islamanar.com/he-fundamentalist-discourse/

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.