استخدام الآلات الغربية في الإبداع الموسيقي العربي، ما لها وما عليها
استخدام الآلات الغربية في الإبداع الموسيقي العربي، ما لها وما عليها/ شعيب البطار
استخدام الآلات الغربية في الإبداع الموسيقي العربي، ما لها وما عليها
“رؤى نقدية”
بقلم: شعيب البطار
إذا كانت العملية الإبداعية تقوم عموما على الابتكار والحرية والتجديد، فإن انفتاح الموسيقى العربية على الموسيقى الغربية يعتبر من أهم التجارب التي يمكن من خلالها بلورة أفكار جديدة من شأنها أن تُسهم في تطوير الموسيقى الآلية العربية.
ولاشك أن لهذا الانفتاح ما يبرره؛ كاستعمال الموسيقى الغربية للبوليفونية والهارموني، فضلا عن طبيعة الآلات الموسيقية الغربية والتي تغري الموزع الموسيقي العربي أحيانا باستخدامها.
إن من أجمل التجارب في الموسيقى الآلية العربية هو استخدام الآلات الموسيقية الغربية في الإبداع الموسيقي العربي.
في الحقيقة يعتبر هذا المحور من أهم المحاور في هذا البحث؛ فاستعمال الآلات الموسيقية الغربية مع الآلات الموسيقية العربية من شأنه أن يعمل على تطوير الآلات الموسيقية العربية وتطوير إمكاناتها، فضلا عن تطوير التأليف الموسيقي العربي نفسه.
تعتبر الموسيقى العربية مكونا من المكونات الثقافية في الحضارة العربية، ولاشك أن طبيعة الموسيقى الآلية العربية تمتح من هذه الثقافة العربية. كما أن تراكم التجربة الأدائية في الموسيقى الآلية جعل الآلة الموسيقية تنسج ثقافة أصبحت محيطة بهذه الآلة مما يضمن لها أصالتها وهويتها الخاصة، فخلقت لنفسها بفعل السيرورة التاريخية جوا نغميا أصبح ملازما للآلة الموسيقية العربية والذي يمكن أن نصطلح عليه برادايم(5) نغم الآلة الموسيقية العربية.
لقد خلق هذا الإطار المعرفي النغمي الآلي تصورا لدى العازف وتمثلا نغميا يقبع في وعيه قبل الشروع في العزف على الآلة الموسيقية العربية، أو بمجرد وضع الآلة بين يديه، ومن تَّم فإن هذا الأخير يعمل تلقائيا باستحضار هذا البرادايم الذي قد يتراءى أمامه بمجرد رؤية الآلة الموسيقية العربية، والذي يسهم وبشكل قوي في الحفاظ على الهوية الموسيقية للثقافة العربية وضمان أصالة الآلة الموسيقية العربية.
إن مزج الآلات الموسيقية العربية بالغربية يجسد في الحقيقة حوارًا جماليا بين آلات مختلفة، إذ لكل آلة شخصيتها وثقافتها، ويحمل هذا الحوار في ثناياه مجموعة من الانفعالات المرتبطة بثقافة كل آلة موسيقية والتي تقبع في لاوعي العازف الذي يعلم مسبقا بمميزات آلته وإمكاناتها، فيسعى العازف على الآلة الموسيقية العربية إلى خلق نوع من التجانس والانسجام مع الآلات الغربية في حدود إمكانات آلته الموسيقية طبعا، وفي سياق هذا التمازج والحوار بين الآلتين لا يحيد العازف العربي عن مراقبة إمكانات أداء الآلة الغربية؛ مما يجعله يسجل القدرات والإمكانات التي تتميز بها هذه الآلة والتي تفتقر إليها الآلة الموسيقية العربية، وهذا يسبب خلخلة في برادايم نغم الآلة الموسيقية العربية، مما ينبثق عنه مجموعة من التساؤلات ليولد سؤال الوجود وإثبات الذات.
لا ريب أن هذا السؤال الأنطولوجي يدفع الباحثين الموسيقيين إلى وضع مناهج وببيداغوجيات جديدة لتطوير العزف على الآلات الموسيقية العربية؛ ويسهم لا محالة في تطوير الأبحاث والتجارب العلمية التي تروم تطوير الآلة الموسيقية العربية.
إن من فضل استخدام الآلات الغربية ضمن الآلات الموسيقية العربية أنها تدفع بهذه الأخيرة إلى تطوير إمكانات العزف عليها، وتطوير الألحان وتنويعها، باعتبار أن المزج بين بعض الآلات الموسيقية العربية والغربية يبعث على المقارنة بينها، وخاصة إذا كانت متقاربة من ناحية شكلها أو طريقة العزف عليها كالعود و القيثارة، فيسعى العازف أو الملحن إلى تجاوز البرادايم المرتبط بالآلة الموسيقية العربية.
إن استخدام الآلات الموسيقية الغربية بجانب الآلات الموسيقية العربية لا يمثل حافزا للعازفين والباحثين والمؤلفين الموسيقيين فقط، بل قد يلهم صانع الآلة الموسيقية العربية إما بتطوير طريقة العزف عليها لتسهيل أداء بعض الجمل الموسيقية من جهة، أو إلى تطوير شكلها وكذا إمكاناتها الصوتية من جهة أخرى؛ كتطوير طريقة دوزنتها أو الزيادة في مساحتها الصوتية بإضافة وتر أو تعديل شكلها الهندسي أو أبعادها الرياضية.
لاشك أن الانفتاح على الآلة الموسيقية الغربية له حدود لا يجب تجاوزها وله ضوابط تؤطره فهو لا شك انفتاح مُسيج بالهوية الثقافية العربية، ولاشك أن عدم الوعي بأصالة الآلة الموسيقية العربية
يهدد الآلة الموسيقية العربية بفقدانها لبعض سماتها وخصوصياتها الثقافية والحضارية.
فقد يؤدي الانبهار بالآلة الموسيقية الغربية إلى التماهي والذوبان الكلي في الآلة الغربية مما قد يعني انهيار باردايم نغم الآلة الموسيقية العربية ، لذا فإن استخدام الآلة الموسيقية الغربية لا يجب أن يتجاوز كونه ملهما لتطوير بعض إمكانات طرق العزف فضلا عن تطوير إمكانات الآلة الموسيقية العربية.
إن الانفتاح على الآلات الغربية يطرح في الحقيقة سؤال الأصالة والهوية، ازدواجية مفروضة أم اختيار؟
فإلى أي حد يمكن للآلة الموسيقية العربية المحافظة على خصوصيتها التي تميزها عن باقي الانماط الموسيقية الأخرى ؟
لاشك أن بين هاجس انحفاظ الهوية والرغبة في الانفتاح على الموسيقى الغربية أو غيرها من صنوف الموسيقى الأخرى، يظل الانتصار للموسيقى مشتركا إنسانيا مادام يعبر عن المشاعر الإنسانية، ولعل عبارة دوبارك خير تجسيد لهذا المشترك عندما كتب مرة يقول: “إنه ما من فن يستطيع كما تستطيع الموسيقى أن يعبر عن المشاعر الكبرى التي تهز النفس الإنسانية، وهي نفس المشاعر التي نجدها في كل العصور، وفي كل البلاد مهما كان اللباس الذي تلبس به الموسيقى (6) .”
5- البارادايم، مصطلح يوناني، يعني: “النمط أو النموذج الفكري”، ويتصف بصفات عدة، ربما أهمها أنه “الصندوق” الذي يحتوي على الخبرات والقواعد، والثقافة بما فيها من معارف، التي تؤدي إلى تكوين قالب ذهني، يتحكم بشكل مباشر أو غير مباشر، بتواصلنا مع العالم المحيط بنا.
6 – دوبارك، نقلا عن جانبرتليمي في كتاب بحت عن الجمال، ص 317.