منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

الخطاب المقدماتي في التراث العربي

الخطاب المقدماتي في التراث العربي/ د. رشيدة مصلاحي

0

 

الخطاب المقدماتي في التراث العربي

د. رشيدة مصلاحي

مقدمة

إن المقدمة خطاب موجه للقارئ يحمل تصورات وتوجيهات وتنبيهات تتخذ نبراسا لفهم مقاصد صاحب الكتاب. فهي تلك المعلومات التي يقدمها المؤلف أمام قارئه بهدف إطلاعه على قيمة الكتاب وغايات صاحبه، ثم إن تلك المعلومات مرتبطة بطبيعة الكتاب حتى يكون القارئ على بينة منه فيوظف تلك المقدمة في وضع الكتاب في إطاره المعرفي وسياقه التاريخي، وتحديد منهجه ومضمونه[1].

يشير الدكتور عباس أرحيلة إلى أن أدب الـتأليف في حضارة الإسلام متأثر في مساره بأدب الترسل. فكتابة الرسالة بشكليها الرسمي والشخصي، كانت حاضرة في توجيه أدب التأليف عامة. ولا يخفى علينا أن عددا من الكتب التي ألفت في التراث العربي كانت تحمل اسم الرسالة.

ولقد أكد بعض القدماء – منهم علي بن خلف الكاتب [مطلع القرن الخامس] في كتابه: مواد البيان– على ضرورة وجود المقدمة في كل تأليف، حيث قال: “لا يحسن بالكاتب أن يخلي كلامه، وإن كان وجيزا نافذا في أحقر الأمور، من مقدمة يفتتحه بها وإن وقعت في حرفين أو ثلاثة ليوفي التأليف حقه”. وقد رأى علي بن خلف –كما يذكر ذلك الدكتور عباس أرحيلة

– أن كل قسم من أقسام الكلام المؤلف (الرسائل والخطب والأشعار): “يحتاج إلى تقديم مقدمة تكون فرشا وبساطا لما يتلوها”. ويرى هذا الكاتب المنشئ أن منزلة المقدمات بمثابة الرأس من الجسد، والأساس من البناء[2].

 I- التصور العربي القديم لمفهوم المقدمة

1- إشكالية المصطلح

  • المفهوم اللغوي
  •  مادة”قدم” في المعجم

مادة”قدم” و”قدم” في المعجم العربي تفيد معنى السبق والأولية، وترجع تراكيبها إلى معنى الأولية. قيدوم كل شيء: مقدمه وصدره. وقدام: نقيض وراء. والقدام: رئيس الجيش. والقدمة من الغنم التي تكون أمام الغنم في الرعي والتنزيل العزيز: (وبشر الدين امنوا أن لهم قدم صدق عند ربهم) [يونس:2] أي سابق خير وأثرا حسنا. والمراد أن لهم قدم صدق في الخير، أي أن لهم عملا صالحا قدموه. والقدم هنا بمعنى التقديم، كما نقول: هؤلاء القدم في الإسلام، أي الدين قدموا خيرا، فكان لهم فيه تقديم، كما في معاني القران للاخفش (1 /369 ).

وجاء في شرح أسماء الله الحسنى في الكتاب والسنة: و”المقدم” و”المؤخر” من أسماء الله الحسنى المزدوجة المتقابلة لايطلق واحد منها بمفرده على الله إلا مقرونا بالأخر؛ فإن الكمال في اجتماعهما ، فهو تعالى  لمن شاء والمؤخر لمن شاء بحكمته… وأنواع التقديم والتأخير في الخلق والتقديم بحر لاساحل له “[3].

  • المفهوم الاصطلاحي

ارتبطت المقدمة عامة بمجال التأليف، وأصبحت تطلق في الاصطلاح على الألفاظ التي تتقدم على المقصود من الكتاب، أي تطلق على ما يقدم به الكتاب  وباختصار فالمقدمة في نظر الدكتور عباس أرحيلة  قد أطلقت على الجماعة التي تتقدم الجيش ثم استعيرت لأول كل شيء، فقيل مقدمة الكتاب. ومعنى مقدمة الكتاب أول ما من شأنه أن يفتتح به الكتاب ويقدم إلى القارئ. وهي جزء لا يتجزأ من الكتاب، لها موقعها ووظيفتها، ينتفع بها وتفتقد إن غابت[4]. “ومصطلح “مقدمة الكتاب” ساد في التراث العربي بشكل عام وإن شاركته أسماء أخرى مثل فاتحة الكتاب، خطبة الكتاب، صدر الكتاب، رسالة الكتاب، ديباجة الكتاب… “[5].

2-  أهمية المقدمة التراثية ووظيفتها

يقول الدكتور يوسف الإدريسي في كتابه الذي صدر أخيرا “عتبات النص”: “تعتبر المقدمة من أبرز ما اهتمت  به الكتب الأدبية القديمة التي انشغلت بتحديد عنصر “التصدير” ودراستها، وذلك لأنها تعتبر المدخل الرئيسي والطبيعي إلى أغوار النص، فضلا عن كونها تمثل كلا جامعا لعناصر وجزئيات عديدة كالاستفتاح واسم المؤلف والعنوان وغير ذلك. بيد أن القيمة الأساس للمقدمة في أدبيات “التصدير” في التراث العربي لا تنحصر في هذين الاعتبارين، بل تهم –بالدرجة الأولى- المجال الدلالي للنص، ومستويي إنتاجه وتلقيه”[6].

ويرى الدكتور عباس أرحيلة في كتابه “الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ” أن أول من استعمل لفظ مقدمة وتوطئة هوالجاحظ في رسالته “المسائل والجوابات:4/65، حين قال: “ولولا أن هذا الكلام لم يكن من ذكره بد، لأنه تأسيس لما بعده، ومقدمة بين يديه، وتوطئة، لاقتضبت الكلام في المعرفة اقتضابا، ولكن يمنعني عجز أكثر الناس من فهم غايتي فيه إلا بتنزيله وترتيبه”.

ثم يعلق الدكتور عباس أرحيلة على كلام الجاحظ بقوله: “لقد أدرك الجاحظ أهمية المقدمة؛ لأنها تؤسس وتحدد فيها الغاية من التأليف، وتوطئ لما بعدها”[7]. ثم إن للمقدمة دور تواصلي فهي “تربط القارئ بالكتاب بشكل مباشر، وتكشف عن مضمونه وأهميته وغاية صاحبه، وعن نظرة مؤلفه لمشروعه في إطار مجاله. وتحمل المقدمة للقارئ إفادات وتوجيهات، يستطيع من خلالها أن يضع بها الكتاب في إطاره العلمي والتاريخي، ويقف على محتوياته، ويعرف بها مكانة المؤلف. ويمكن القول إجمالا أن ماهية المقدمة تتمثل في كونها: تمثل الرأس من جسد الكتاب، والأساس من بناءه، وهي مفتاح له، ودليل على حاجة صاحبه، وإنباء عن المقصود، واستدراج للقارئ”[8].

ويختزل الدكتور عباس أرحيلة وظائف المقدمة في أربع:

ا) وظـيـفـة الإخـبــار

ب) وظـيـفـة التوجـيه

ج) وظـيـفـة الكـشـف

  • وظيفة الاستدراج

ونظرا لأهمية هذه الوظائف التي أنيطت بالمقدمة كانت الدعوة إلى العناية بها واتخاذها موضع براعة وحذق، واعتبار نجاحها نجاحا للكتاب وصاحبه. ويحدد الدكتور يوسف الإدريسي وظيفة المقدمة في الكتب الأدبية القديمة بقوله: كانت المقدمة “تنتج خطابا واصفا لمتن الكتب تبين فيه طبيعة موضوعه، وتحدد مجاله المعرفي، وتكشف دواعي الكاتب الذاتية والموضوعية لتأليفه، وتشير أحيانا إلى المنطلقات النظرية الموجهة لتصوراته وأحكامه، وإلى الضوابط المنهجية التي تتحكم في طرق عرضها وتحليلها والدفاع عنها، كما كانت تتضمن خطاطة مختصرة لأبرز مواد الكتاب وأهم أبوابه وفصوله، وذلك بهدف وضع القارئ المفترض للنص أو المستهدف به في المدار المعرفي للمتن، وإلى تهييئه نفسيا وذهنيا لكي يجيد فهمه ويحسن تلقيه”[9].

3-  مكونات المقدمة التراثية ومحتوياتها

عن مكونات المقدمة في التأليف القديم لاحظ علي ابن خلف أن المقدمات يشترك في استعمالها “الخطباء والشعراء والكتاب وغيرهم من المصنفين، أما الخطباء فإن عادتهم جارية بافتتاح خطبهم بفنون محامد الله تعالى والثناء عليه والصلاة على رسول الله محمد صلى الله عليه وسلم. وأما الشعراء فإن عادتهم جارية أن يفتتحوا قصائدهم بالتشبيب الرقيق والغزل، فأما الكتاب فإن عادتهم جارية أن يفتنوا في المقدمات التي يقدمونها أمام رسائلهم بحسب أفنان أغراضها”[10].

يقول الدكتور يوسف الإدريسي: “وثمة نصوص كثيرة حددت المكونات الموضوعية للمقدمة، وعينت وظائفها في التراث العربي من أبرزها ما قدمه التهانوي في كشافه، حيث قال: <<الواجب على من شرع في شرح كتاب ما أن يتعرض في صدره لأشياء قبل الشروع في المقصود يسميها قدماء الحكماء الرؤوس الثمانية،

أحدها: الغرض من تدوين العلم أو تحصيله (…)

وثانيها المنفعة (…) هي الفائدة المعتد بها ليتحمل المشقة في تحصيله ولا يعرض له فتور في طلبه.

وثالثها: السمة وهي عنوان الكتاب ليكون عند الناظر إجمال ما يفصله الغرض (…)

ورابعها: المؤلف وهو مصنف الكتاب ليركن قلب المتعلم إليه في قبول كلامه والاعتماد عليه لاختلاف ذلك باختلاف المصنفين.

وخامسها: أنه من أي العلم هو؛ أي من اليقينيات أو الظنيات، من النظريات أو العمليات، من الشرعيات أو غيرها ليطلب المتعلم ما يليق به من المسائل المطلوبة له.

وسادسها: أنه أية مرتبة هو، أي بيان مرتبته فيما بين العلوم إما بعموم موضوعه أو خصوصه أو باعتبار توقفه على علم آخر أو عدم توقفه عليه باعتبار الأهمية أو الشرف ليقدم تحصيله على ما يجب أو يستحسن تقديمه عليه، ويؤخر تحصيله عما يجب أو يستحسن تأخيره عنه.

وسابعها: القسمة، وهي بيان أجزاء العلوم وأبوابه ليطلب المتعلم في كل باب منها ما يتعلق به ولا يضيع وقته في تحصيل مطالب لا تتعلق به كما يقال: كتابنا هذا مرتب على مقدمة وبابين وخاتمة. وهذا الثاني كثير شائع لا يخلو عنه كتاب.

وثامنها: الأنحاء التعليمية، وهي أنحاء مستحسنة في طرق التعليم.

  • أحدها التقسيم وهو التكثير من فوق إلى أسفل؛
  • وثانيها التحليل، وهو عكسه، أي التكثير من أسفل إلى فوق؛ أي من أخص إلى أعم (…) >>[11]. (التهانوي: كشاف اصطلاحات الفنون,دار صادر، بيروت د.ت،1/10-11).

4- صياغة المقدمة التراثية والتفنن في ديباجتها[12]

لقد أبرز الدكتور عباس أرحيلة في كتابه: “مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي” أن هاجس الإبداع ظل متحكما في بنيات صدور المقدمات في المؤلفات العربية ومحددا لاختلافات أساليبها ومضامينها، وأن تجلياته لم تقتصر على الجانب الشكلي للاستهلالات فحسب، بل شملت جانبها المضموني أيضا[13].

يقول الشيخ أبو العباس أحمد القلقشندي في كتابه الضخم “صبح الأعشى” الجزء السادس: “يأتي الكاتب في أول المكاتبة بحسن الافتتاح المطلوب في سائر أنواع الكلام: من نثر ونظم مما يوجب التحسين: ليكون داعيا لاستماع ما بعده”[14]. ويرجع حسن الافتتاح في المكاتبات -في نظر القلقشندي- إلى معنيين:

  • المعنى الأول:

أن يكون الحسن فيه راجعا إلى المبتدإ به. إما بالافتتاح بالحمد لله كما في بعض المكاتبات: لأن النفوس تتشوف إلى الثناء على الله تعالى، أو بالسلام الذي جعله الشارع مفتتح الخطاب أو نحو ذلك. وإما بالافتتاح بما فيه تعظيم المكتوب إليه (…) فإن أمر المكاتبات مبني على التملق واستجلاب الخواطر وتألف القلوب، إلى غير ذلك مما يجري هذا المجرى، على ما يقتضيه اصطلاح كل زمن في الابتداآت.

  • المعنى الثاني:

أن يكون الحسن فيه راجعا إلى ما يوجب التحسين: من سهولة اللفظ، وصحة السبك، ووضوح المعنى، وتجنب الحشو، وغير ذلك مما موجبات التحسين”[15].

ويتطرق القلقشندي في كتابه إلى ضرورة ملائمة مقدمة المكاتبة لموضوعها وكذلك للفن الذي تنتمي إليه حيث رأى أن يأتي الكاتب في ابتداء المكاتبة ببراعة الاستهلال المطلوبة في كل فن من فنون الكلام. “بأن يأتي في صدر المكاتبة بما يدل على عجزها. فإن كان الكتاب بفتح، أتى في أوله بما يدل على التهنئة. أو بتعزية، أتى في أوله بما يدل على التعزية. أو في غير ذلك من المعاني، أتى في أوله بما يدل عليه: ليعلم من مبدإ الكتاب ما المراد منه”[16].

يصرح الدكتور عباس أرحيلة في كتابه “الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ”: أن الجاحظ قد تناول جودة الابتداء عامة، ثم ذكر أنه جاء في “البيان والتبيين” أن شبيب بن شيبة [نحو 170هـ] قال: “الناس موكلون بتفضيل جودة الابتداء، وبمدح صاحبه (…) وأسموها جودة الابتداء”[17].

II-التصور الغربي الحديث لمفهوم المقدمة

1- المقدمات ظاهرة حديثة في الثقافة الغربية

 لقد لاحظ بعض الدارسين المعاصرين وفي مقدمتهم الدكتور عبد الواحد ابن ياسر في مقاله “الخطاب المقدماتي” -(مجلة علامات، المجلد 12-الجزء 47، مارس2003، ص:626)- أن المقدمات ظاهرة حديثة في الثقافة الغربية، لم تظهر إلا مع القرن السادس عشر، وتحديدا على يد رابليه (Rabelais )؛ لكنها أصيلة في الثقافة العربية، وتستطيع أن تشكل في حد ذاتها نوعا معرفيا، وشكلا ثقافيا قائما بذاته… ويقابل هذا البروز للمقدمات في التراث العربي القديم كمونها في الثقافة الغربية [ص 626].

ثم إن المقدمة في رأي الدكتور ابن ياسر تعتبر نصا موازيا (Paratexe) أخذت حيزا هاما في مجال اشتغال النقد الأدبي، ووجد أن أهميتها تكمن في مساعدتنا “على التعرف على محيط النص، والإلمام بمقاصد مؤلفه،وكيفية تلقيه من قبل الجمهور عموما”[18].

“مجمل المعلومات المتوافرة اليوم عن المقدمات تستمد مرجعيتها من نقاد فرنسيين، يأتي في طليعتهم اسم جرار جنيت، الذي قدم جهازا مفاهيميا متكاملا لدراسة ما أسماه بالعتبات أو النصوص الموازية في الآثار الإبداعية، والروائية منها بشكل خاص، لدى الغربيين. وقد انتشر هذا الجهاز المفاهيمي الغربي في الدراسات النقدية الحديثة (..) ويلاحظ أن الاهتمام بالنصوص الموازية من الانشغالات الحديثة التي أدت إليها الدراسات النقدية المرتبطة بتحليل الخطاب[19].

2-الفرق بين المقدمات القديمة والمقدمات الحديثة

يقول الدكتور يوسف الإدريسي إن جرار جنيت يرى أن مصطلح المقدمة في اللغات الواصفة لعتبات النص يشمل “المدخل والتوطئة والديباجة والحاشية والملخص والتمهيد والتقديم والاستقصاء والاستهلال والفاتحة والخطاب التمهيدي والقول الأمامي”. (…) ويبدو من خلال متابعة ج. جنيت للأدب الغربي القديم، خاصة خلال الفترة الممتدة من الشاعر الإغريقي هوميروسPP Homere إلى رابليه Rabelais، أن السطور الأولى كانت تؤدي وظيفة المقدمة وتقوم بها (…) لذلك فقد كانت تتضمن –بدرجات وأساليب متفاوتة- خطاب يعرض فيه الكاتب لنواياه، وطريقته في تناول موضوعه، كما كان المؤلف يعلن عبرها عن إسمه وعنوان مؤلفه”[20].

ثم إن ج. جنيت حين قارن بين مقدمات المؤلفات القديمة والحديثة لاحظ أن المقدمة قديما لا تثير إشكالات كبيرة، لكونها كانت توضع في السطور الأولى للنص وأحيانا في سطوره الأخيرة، كما أن زمن كتابتها يماثل زمن كتابة النص نفسه ونشره بين الناس، وشكلها شكل النص نفسه، ويتحدد مرسلها في الكاتب الحقيقي أو المفترض، ومستقبلها هو مستقبل النص[21].

3-مميزات المقدمات الحديثة

أما المقدمات الحديثة فتتميز بخمس سمات:

  • الشكل: ليس النثر هو الصيغة الوحيدة والضرورية لكتابة المقدمة (…) يمكن أن تأخذ شكلا شعريا أو حواريا…
  • المكان: ليس هناك مكان قار مخصوص بالمقدمة تلزمة ولا تغادره…
  • اللحظة: تابع ج. جنيت لحظات كتابة المقدمة، فوجدها غير قابلة للعد والحصر(…) وقد لاحظ هنري متران في هذا الإطار أن المقدمة والخاتمة تشتركان في لحظة كتابتهما، فالمقدمة تكون دائما –وفي الواقع- خاتمة، لكونها تكتب بعد النص، وليس قبله.
  • المرسل: من الصعب تحديد المرسل في المقدمة، لأن أنواع المقدمين تختلف وتتعدد حسب طبعات النص الواحد الذي يعاد طبعه كل مرة بمقدمة جديدة، أو يضم في إحدى طبعاته أكثر من مقدمة كتبها أكثر من كاتب.
  • المستقبل: من السهل جدا تحديد مستقبل المقدمة مقارنة بمرسلها، لأنه يكون عادة

–      وبالضرورة- هو قارئ النص (…) وجمهور المقدمة الخاص…[22]

4-مكونات المقدمات الحديثة

لاحظ ميتران أن كل خطاب مقدماتي يتكون من مثلث تتقاسمه ثلاث ضمائر:

  • ضمير المتكلم المفرد (أنا): يعود على المتكلم في المقدمة، الذي يمكن أن يكون كاتب النص نفسه أو شخصا آخر يقدمه.
  • ضمير المخاطب المفرد (أنت): يعود على المخاطب في المقدمة، أي جمهورها الخاص.
  • ضمير الغائب المفرد (هو):  يعود على النص، حيث إن كل مقدمة تتحدث عن نصها وتقدمه باعتباره نصا نموذجيا، طالما الحديث عن الحاضر بضمير الغائب ينخرط ضمن أساليب التعظيم والإجلال[23].

5-وظائف المقدمة

وقد أكد ميتران أن وظائف المقدمة تتعدد وتختلف بحسب تعدد نوايا كتابها واختلاف متونها النصية (…) [لذلك] يؤكد ضرورة النظر إليها باعتبارها نصا إيديولوجيا بامتياز.

وتتحدد أهم وظائف المقدمة في:

  • ضمان قراءة جيدة للنص: ذلك أن كل مقدمة تحاول تحقيق شكل الإنتاج الأدبي الذي تتحدث عنه، وكذا “اقتراح” طريقة معينة لقراءة متنها…
  • التنبيه والإخبار: إذ تنبئ القارئ وتخبره “بطبيعة الكتاب، وظروف تحريره، ومراحل تكونه”، وهي طريقة مباشرة، تقبلها أخرى غير مباشرة يلجأ إليها الكاتب بالتعبير عن عميق شكره وامتنانه لكل من ساعده في إنجاز كتابه، أو بالإنباء عن الأشخاص والمؤسسات التي ساعدته في إخراجه.
  • اختيار القارئ: ذلك أن هناك بعض لمقدمات التي تعين قراءها الذين ترغب في وصول النص إليهم…
  • تحلل العنوان وتعلله: حيث يبرز المؤلف لماذا اختار عنوانه دون غيره من العناوين…
  • توكيد التخييلية: ذلك أنها تشدد على أن شخصيات النص وأحداثه ليست واقعية…
  • تنظيم القراءة وترتيبها: وذلك بتفسير فهرس موضوعات الكتاب وتفصيله،وترتيب المواد التي يتناولها…
  • تخبر القارئ بمؤلف جديد سيصدر لاحقا للمؤلف له علاقة بموضوع ذلك الكتاب.
  • البوح بالقصد: حيث يؤول الكاتب نصه، ويعلن في مقدمته عن نيته وقصده.

وبالرغم من قيمة المقدمة ووظائفها إلا أن بعض الكتاب في الأدب الحديث يرون أنها ليست ضرورية، ويرفضون استهلال نصوصهم بها[24]

إن “الرؤية إلى الكتاب، لدى مجموعة من النقاد، قد أصبح يتوزعها أمران: النص وما يؤطره ويحيط به، أي ما يكتنفه من خطابات تسير في سياقه، تتقدمه أحيانا، وتتوسطه حينا، وتلتحق به أحيانا أخرى. وتصبح المقدمة في هذا التصور الفني / النقدي / الإيديولوجي / الإشهاري جزئية من مجموعة من الخطابات المواكبة للنص، أو ما أطلق النصوص الموازية،، أو العتبات المتاخمة له أو الجهاز المقدماتي، أو الخطاب المقدماتي ترجمة لـ (Discours Prefacial) لنزوعه لتحديد رؤية نقدية لدراسة الخطاب، والكشف عما يكتنف تلك الرؤية من نزوع إيديولوجي يرتبط بشروط الإنتاج في معترك العصر.

III – مقاربة تحليلية للخطاب المقدماتي لكتاب “صبح الأعشى في كتابة الإنشا”

1.أنواع الخطاب في المقدمات التراثية العربية بصفة عامة

  • محاولة لتحديد العناصر

يؤكد الدكتور عباس أرحيلة أن المقدمة في كتب الثرات الإسلامي خطاب تتقاسمه الموضوعية والذاتية، ويمتزج فيه ما هو موضوعي بما هو ذاتي، ويلتقي فيه الجانب العلمي بالجانب الفني؛ فيتم تقديم ذلك البحث إلى القارئ حتى يكون على بينة من أهميته وطبيعته ومنهجه فيه ومقاصد صاحبه. فالمقدمة -في نظر الدكتور أرحيلة- خطاب تعرب فيه الذات عما ألهمها الله تعالى من إبداع، من أول كلمة في المقدمة حتى آخر كلمة فيها. ويمكن تقسيمها –حسب رأيه- إلى سبعة أنواع من الخطاب:

  • خطاب هو ديباجة الكتاب الإسلامي
  • خطاب موضوعي: عناصره ثابتة
  • خطاب موضوعي: عناصره متغيرة
  • خـطـاب مـوضـوعـي / ذاتــي
  • خطاب ذاتي
  • خطاب يشرك المتلقي في المسؤولية
  • خطاب تتخلله موضوعات عام

وقد خلص الدكتور عباس أرحيلة بعد دراسة العديد من مقدمات الكتب التراثية الإسلامية إلى أن هذه العناصر لا تتوافر بهذا الترتيب وبهذه الصورة في عامة مقدمات الكتب، وهي تتشكل بطرق مختلفة داخل المقدمات، ولكنها تظل ماثلة، بشكل عام، في مقدمات كتب التراث.

2- الديباجة الإسلامية في الخطاب المقدماتي لكتاب “صبح الأعشى”

لقد انقسم الخطاب المقدماتي في كتاب صبح الأعشى إلى خطبة ومقدمة، وتشتمل الخطبة على عناصر الديباجة الإسلامية المتمثلة في ثلاثة عناصر:

  • البسملة
  • الحمدلة
  • التصلية

وهذه العناصر تكاد تكون ثابتة في جل مقدمات كتب التراث كما يؤكد ذلك الأستاذ عباس أرحيلة.

يقول القلقشندي مستهلا خطبة كتابه الضخم “صبح الأعشى”:

“الحمد لله جاعل المرء بأصغريه قلبه ولسانه والمتكلم بأجمليه فصاحته وبيانه راقم حقائق المعاني بأقلام الإلهام على صفحات الأفكار جامع اللسان والقلم على ترجمة ما في الضمائر ذاك للأسماع وهذا للأبصار الذي حفظ برسوم الخطوط ما تكل الأذهان السليمة عن حفظه وتبلغ بوسائطها على البعد ما يعسر على المتحمل تأديته بصورة معناه ولفظه.

أحمده على أن وهب من بنات الأفكار ما يربو في الفخر على ذكور الصوارم. ومنح من جواهر الخواطر ما يزكو مع الإنفاق ولا ينقص بالمكارم”.

إن هذه الديباجة التي قدم بها القلقشندي كتابه تعتبر من ثوابت الكتاب الإسلامي بشكل عام؛ وذلك اقتداء بكتاب الله تعالى وتأسيا بالنبي صلى الله عليه وسلم في مكاتبته للملوك، وعملا بحديثه عليه الصلاة والسلام: “كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه ببسم الله فهو أبتر”، وفي حديث آخر: “كل أمر ذي بال لا يبدأ فيه بالحمد لله فهو أقطع[25](أقطع أي مقطوع منه البركة). فالتأليف أمر ذي بال ويعتد به ومن هنا يصدر بالبسملة والحمدلة في كتب تراث أهل الإسلام وهي أمور يراد بها مطلق الثناء؛يستعان بها ويتقرب بها إلى الله عز وجل[26].

ثم إن براعة الاستهلال أثناء الحمدلة تكمن–في نظر الدكتور عباس أرحيلة- في دقة تناسبها مع الموضوع وهذا نستشفه من قول القلقشندي التالي:

“الحمد لله جاعل المرء بأصغريه، قلبه ولسانه والمتكلم بأجمليه، فصاحته وبيانه. راقم حقائق المعاني بأقلام الإلهام على صفحات الأفكار. جامع اللسان والقلم على ترجمة ما في الضمائر…” وهذا يدل على أن القلقشندي يتفاعل مع بحثه وموضوعه من منطلق إسلامي. ثم إنه اهتم بجمالية ابتدائه وحرص على أن يكون مناسبا لمقصوده وبالتالي جاريا على مقتضى البلاغة في التراث الإسلامي العربي.

  • التصلية

والمراد بالتصلية في ديباجة الكتاب أن يصلي الكاتب على النبي صلى الله عليه وسلم، كأن يقول:

“وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له شهادة يوقع لصاحبها بالنجاة من النار ويكتب قائلها في ديوان الأبرار وأن محمدا عبده ورسوله الذي اهتزت لهيبته الأسرة وشرفت بذكره المنابر وضاقت عن درك وصفه الطروس ونفدت دون إحصاء فضله المحابروصحبه الذين قلدوا أمور الدين فقاموا بواجبها وحملوا أعباء الشريعة فانتشرت بهم في مشارق الأرض ومغاربها صلاة تسطر في الصحف وتفوق بهجتها الروض الأنف”.

“وقد حث القرآن الكريم والسنة النبوية على التصلية، قال تعالى: “إن الله وملائكته يصلون على النبي يا أيها الذين آمنوا صلوا عليه وسلموا تسليما” [الأحزاب: 56] (…) ولاحظ شراح الكتب عامة أن ذكر التصلية في بداية الكتب للاستعانة بالخالق، ويتوسط لهذه الغاية بالصلاة والسلام على نبيه؛ لأنه الآتي بأحكام هذه الشريعة”[27].

3- الخطاب الموضوعي: عناصر ثابتة

  • البعدية

نلاحظ أن البعدية في خطبة “صبح الأعشى” أتت لتفصل بين الديباجة وباقي المقدمة، فـ”أما بعد” أو “وبعد”؛ –كما يقول الدكتور عباس أرحيلة- عبارتان معدتان للانتقال وتؤذنان به إلى الغرض المقصود؛ ولذلك سميت -في رأيه- “أما بعد” بـفصل الخطاب لفصلها الكلام الثاني عن الأول. “ومن الثابت في السيرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان بأتي بها في خطبه ومكاتباته(…) وأصل “أما بعد”: مهما يكن من شيء بعد، فحذفت مهما ويكن، ونابت أما منابهما. وتستعمل غالبا لما سيأتي بعدها”[28].

  • موضوع الكتاب

يقول القلقشندي بعد حمد الله والصلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم: “وبعد فلما كانت الكتابة من أشرف الصنائع وأرفعها وأربح البضائع وأنفعها وأفضل المآثر وأعلاها وآثر الفضائل وأغلاها لاسيما كتابة الإنشاء التي هي منها بمنزلة سلطانها وإنسان عينها بل عين إنسانها لا تلتفت الملوك إلا إليها ولا تعول في المهمات إلا عليها يعظمون أصحابها ويقربون كتابها فحليفها أبدا خليق بالتقديم جدير بالتبجيل والتكريم

تسر مجانيها إذا ما جنى الظما *** وتروي مجاريها إذا بخل القطر

وكانت الديار المصرية والمملكة اليوسفية أعز الله تعالى حماها وضاعف علاها قد تعلقت من الثريا بأقراطها ورجحت سائر الأقاليم بقيراطها بشر بفتحها الصادق الأمين فكانت أعظم بشرى وأخبر سيد المرسلين أن لأهلها نسبا وصهرا فتوجهت إليها عزائم الصحابة زمن الفاروق فجاسوا خلال الديار وعرها وسهلها واقتطعتها أيدي المسلمين من الكفار “وكانوا أحق بها وأهلها”.

ثم لم يزل يعلو قدرها ويسمو ذكرها إلى أن صارت دار الخلافة العباسية وقرار المملكة الإسلامية وفخرت مملكتها بخدمة الحرمين وخدمها سائر الملوك والأمم لحيازة القبلتين.

تناهت علاء والشباب رداؤها *** فما ظنكم بالفضل والرأس

وحظيت من فضلاء الكتاب بما لم تحظ مملكة من الممالك ولا مصر من الأمصار وحوت من أهل الفضل والأدب ما لم يحو قطر من الأقطار فما برحت متوجة بأهل الأدب في الحديث والقديم مطرزة من فضلاء الكتاب بكل مكين أمين وحفيظ عليم.

نجوم سماء كلما غاب كوكب *** بدا كوكب تأوي إليه كواكبه

هذا والمؤلفون في هذه الصنعة قد اختلفت مقاصدهم في التصنيف وتباينت مواردهم في الجمع والتأليف ففرقة أخذت في بيان أصول الصنعة وذكر شواهدها وأخرى جنحت إلى ذكر المصطلحات وبيان مقاصدها وطائفة اهتمت بتدوين الرسائل ليقتبس من معانيها ويتمسك بأذيالها وتكون أنموذجا لمن بعدهم يسلك سبيلها من أراد أن ينسج على منوالها ولم يكن فيها تصنيف جامع لمقاصدها ولا تأليف كافل بمصادرها الجليلة ومواردها بل أكثر الكتب المصنفة في بابها والتآليف الدائرة بين أربابها لا يخرج عن علم البلاغة المرجوع فيها إليه أو الألفاظ الرائقة مما وقع اختيار الكتاب عليه أو طرف من اصطلاح قد رفض وتغير أنموذجه ونقض فلا يغني النظر فيه المقلد من كتاب الزمان ولا يكتفي به القاصر في أوان بعد أوان على أن معرفة المصطلح هي اللازم المحتم والمهم المقدم لعموم الحاجة إليه واقتصار القاصر عليه.

إن الصنيعة لا تكون صنيعة *** حتى يصاب بها طريق المصنع

وكان الدستور الموسوم بالتعريف بالمصطلح الشريف صنعة الفاضل الألمعي والمصقع اللوذعي ملك الكتابة وإمامها وسلطان البلاغة ومالك زمامها المقر الشهابي أحمد بن فضل الله العدوي العمري سقى الله تعالى عهده العهاد وألبسه سوابغ الرحمة والرضوان يوم المعاد هو أنفس الكتب المصنفة في هذا الباب عقدا وأعدلها طريقا وأعذبها وردا قد أحاط من المحاسن بجوانبها وأعقمت الأفكار عن مثله ففاز من الصنعة بأحمد مذاهبها فكان حقيقا بقوله في خطبته:

يا طالب الإنشاء خـذ علـمـه *** عني فعلمي غير منكور!
ولا تقف في باب غيري فما ***  تـدخلـه إلا بـدسـتـوري

إلا أنه قد أهمل من مقاصد المصطلح أمورا لا يسوغ تركها ولا ينجبر بالفدية لدى الفوات نسكها كالبطائق والملطفات والمطلقات المكبرة في جملة كثيرة من المكاتبات فلم يقع الغنى به عما سواه ولا الاكتفاء بالنظر فيه عما عداه.

ثم تلاه المقر التقوي ابن ناظر الجيش رحمه الله بوضع دستوره المسمى بتثقيف التعريف مقتفيا أثره في الوضع وجاريا على سننه في التأليف مع إيراد ما أهمله في تعريفه وذكر ما فاته من مصطلح ما يكتب أو حدث بعد تأليفه فاشتهر ذكره وعز وجوده ووقع الضن به حتى بخل بإعارته من عرف كرمه وجوده .

وكان مع ذلك قد ترك مما تضمنه التعريف مقاصد لا غنى بالكاتب عنها ولا بد للمتلبس بهذه الصناعة منها كالوصايا والأوصاف التي هي عمدة الكاتب. ومراكز البريد وأبراج الحمام وغير ذلك من متممات الواجب وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب فصار كل من الدستورين منفردا عن الآخر بقدر زائد. ولم تقع الغنية بأحدهما عن الآخر وإن كانا في معنى واحد.

وكيفما كان فالاقتصار على معرفة المصطلح قصور والإضراب عن تعرف أصول الصنعة ضعف همة وفتور والمقلد لا يوصف بالاجتهاد وشتان بين من يعرف الحكم عن دليل ومن جمد على التقليد مع جزم الاعتقاد.

ولم أر في عيوب الناس شيئا *** كنقص القادرين على التمام

وقد ثبت في العقول أن البناء لا يقوم على غير أساس. والفرع لا ينبت إلا على أصل، والثمر لا يجتنى من غير غراس.
بعد البعدية يذكر الأعشى موضوع بحثه ويعرف بالمجال المعرفي الذي ألف فيه كتابه، حيث أن أول شيء يتطلع إليه القارئ هو معرفة موضوع الكتاب. ويقرن -غالبا- الكاتب الموضوع بالحديث عن أهميته وسبب تأليفه.

  • أهمية الكتاب وفائدته والغاية منه

يكشف أهمية كتابه قائلا: “لما كانت الكتابة من أشرف الصنائع وأرفعها، وأربح البضائع وأنفعها، وأفضل المآثر وأعلاها، وآثر الفضائل وأغلاها لاسيما كتابة الإنشاء التي هي منها بمنزلة سلطانها وإنسان عينها بل عين إنسانها لا تلتفت الملوك إلا إليها ولا تعول في المهمات إلا عليها يعظمون أصحابها ويقربون كتابها فحليفها أبدا خليق بالتقديم جدير بالتبجيل والتكريم.

تسر مجانيها إذا ما جنى الظما *** وتروي مجاريها إذا بخل القطر

وقد تناول القلقشندي هنا رأسين مما سمي بالرؤوس الثمانية وهما الغرض والمنفعة (أنظر مكونات المقدمة التراثية ومحتوياتها، العنصر الثالث من المحور الأول من هذا العرض)، وقد يصرح الكاتب بأهمية العلم الذي ألف فيه بعبارات وجيزة وقد يسهب ويفيض في الحديث عن ذلك العلم تماما كما فعل القلقشندي، حيث يبين أثر الكتابة في حياة الناس كاشفا بأشكال من الاستشهاد من القرآن الكريم والحديث الشريف والأشعار المختارة والأقوال المنتخبة، وهذا ما يعرف بـ”مدح الفن”. وهدف القلقشندي من وراء ذلك تبيان أن موضوعه من الأمور التي تنفع الناس وتفيدهم في دينهم ودنياهم.

  • العنوان أو تسمية الكتاب

العنوان لا تخلو منه المقدمة التراثية إلا نادرا، وقد اهتم القلقشندي –كما يدو لنا- اهتماما  شديدا بصوغ عنوان كتابه المتميز، حتى جاء دالا بدقة واستيعاب على ما دخل فيه من مواضيع. والعنوان “في غالب الأحيان يصاغ صياغة التعريف؛ فيكون جامعا مانعا كما هو شأن التعريف إذا كان دقيقا (…) ويلاحظ أن الباحثين المعاصرين في مجالات السميوطيقا قد أولوا عناية خاصة بدراسة عناوين الدواوين الشعرية وعناوين الروايات بشكل خاص؛ باعتباها علامات سيميوطيقة، وباعتبارها مفاتيح تساعد المحللين على استنطاق النصوص وتأويلها، وأعطوها وظائف كثيرة.

ويكفي أن أشير هنا إلى أنه في ضوء هذه العناية المتزايد بالعنوان؛ ظهر علم خاص بالعنوان؛ « titrologie » وقد حدد جرار جنيت للعنوان أربعة وظائف هي: الإغراء، الإحياء، الوصف، التعيين وذلك في كتابه عتبات، أما هنري ميتران (Henri Mitterand ) في كتابه (Le discours du romam) فقد حدد لها وظيفتين: تعيينية وتحريضية (فهي تحث فضول المرسل إليه وتناديه وتحرضه)”[29].

يقول القلقشندي مقدما إسم كتابه: “وسميته صبح الأعشى في كتابة الإنشا راجيا من الله تعالى أن يكون بالمقصود وافيا وللغليل شافيا، وليعذر الواقف عليه فنتائج الأفكار على اختلاف القرائح لا تتناهى وإنما ينفق كل أحد على قدر سعته لا يكلف الله نفسا إلا ما آتاها ورحم الله من وقف فيه على سهو أو خطأ فأصلحه عاذرا لا عاذلا ومنيلا لا نائلا فليس المبرأ من الخطل إلا من وقى الله وعصم وقد قيل الكتاب كالمكلف لا يسلم من المؤاخذة ولا يرتفع عنه القلم والله تعالى يقرنه بالتوفيق ويرشد فيه إلى أوضح طريق وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب”.

وعلى العموم فإن العنوان يسعى إلى أن يختزل موضوع الكتاب، وإلى أن يكون دالا على مراد الكاتب بأسلوب يعتمد الإيحاء والرمز. “فوظائف العنوان هي: الدلالة على القصد، والإيحاء به حتى يتم التوافق والتطابق بين صيغة العنوان وموضوع الكتاب، وتتكشف الترجمة الدالة على المغزى، ويتحقق التواصل المباشر مع موضوع الكتاب ومع القارئ أيضا”[30].

  • التصميم: بيان كيفية التقسيم والتبويب والتفصيل

التصميم أو ما أسماه القدماء “القسمة” من الرؤوس الثمانية المكونة للمقدمة، “وهي بيان أجزاء العلم وأبوابه ليطلب المتعلم في كل باب منها ما يتعلق به، ولا يضيع وقته في تحصيل مطالب لا تتعلق به، كما في أبجد العلوم”[31].

ونلاحظ أن القلقشندي قد اختزل التصميم العام لكتابه في عبارة مقتضبة حين قال: “وقد رتبته على مقدمة وعشر مقالات وخاتمة”، وخصص التصميم الذي أتى به في مقدمة كتابه لهذه المقدمة ذاتها، حيث قسمها إلى أبواب وفصول تتعلق بـ”مباد يجب تقديمها قبل الخوض في كتابه الإنشاء”. فهو يعنون موضوع مقدمته كالتالي:
في مباد يجب تقديمها قبل الخوض في كتابة الإنشاء

ثم يقسم هذه “المباد” أو الأوليات الضرورية لطالب كتابة الإنشاء إلى خمسة أبواب:

الباب الأول: في فضل الكتابة ومدح فضلاء أهلها وذم حمقاهم وفيه فصلان

الفصل الأول: في فضل الكتابة
الفصل الثاني: في مدح فضلاء الكتاب وذم حمقاهم

 

 الباب الثاني: في ذكر مدلول الكتابة لغة واصطلاحا وبيان معنى الإنشاء وإضافة الكتابة إليه ومرادفة لفظ التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل وتفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة وترجيح النثر على الشعر وفيه ثلاثة فصول


الفصل الأول: في ذكر مدلولها وبيان معنى الإنشاء وإضافتها إليه ومرادفة التوقيع لكتابة الإنشاء في عرف الزمان والتعبير عنها بصناعة الترسل
الفصل الثاني: في تفضيل كتابة الإنشاء على سائر أنواع الكتابة
الفصل الثالث: في ترجيح النثر على الشعر

الباب الثالث: في صفات الكتاب وآدابهم وفيه فصلان

الفصل الأول: في صفاتهم الواجبة والعرفية
الفصل الثاني: في آدابهم

 الباب الرابع: في التعريف بحقيقة ديوان الإنشاء وأصل وضعه في الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك وفيه فصلان

الفصل الأول: في التعريف بحقيقته
الفصل الثاني: في أصل وضعه في الإسلام وتفرقه بعد ذلك في الممالك بالديار المصرية وغيرها

الباب الخامس: في قوانين ديوان الإنشاء وترتيب أحواله وآداب أهله وفيه أربعة فصول

الفصل الأول: في بيان رتبة صاحب هذا الديوان ورفعة قدره وشرف محله ولقبه الجاري عليه في القديم والحديث
الفصل الثاني: في صفة صاحب هذا الديوان وآدابه
الفصل الثالث: فيما يتصرف فيه متولي هذا الديوان ويدبره ويصرفه بقلمه
الفصل الرابع: في ذكر وظائف ديوان الإنشاء بالديار المصرية وما يلزم رب كل وظيفة منهم وما كان عليه الأمر في الزمن القديم وما استقر عليه الحال بعد ذلك.

خاتمة

 

لقد كان القدماء على وعي كبير بأهمية المقدمة في كتبهم، وأدركوا أنها لحظة إبداع يعرب فيه المؤلف عن مدى جدة ما أتى به. ثم إن دراسة الخطاب المقدماتي في التراث تكشف عن حضور مسألة المنهج، منذ المراحل الأولى للتأليف في الثقافة العربية الإسلامية.

وأهم سمات المنهج العلمي الذي تعرب عنه مقدمات الكتب في التراث العربي هي:

  • المؤلف في حضارة الإسلام، يريد بعمله وجه الله، ويسعى إلى تقديم ما ينفع الناس…
  • ينطلق من تجربته الحياتية والعلمية، ويقيم القضية التي يعالجها على أساس من ملاحظة ما تم إنجازه في مجالها من أعمال سابقة.
  • يضع تصميما لبحثه يستجيب لمنهجيته، حيث يحدد في المقدمة موضوع بحثه ويكشف عن أهميته وعن غايته[32]

الكتب المعتمدة في إنجا ز العرض

 

  • مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس الإبداع للدكتور عباس أرحيلة، المطبعة والوراقة الوطنية- مراكش، الطبعة الأولى/ 2003.
  • الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ لنفس الكاتب، نفس المطبعة، الطبع الأولى/ 2004.
  • عتبات النص بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر للدكتور يوسف الإدريسي، مقاربات- آسفي، الطبعة الأولى: 2008.
  • صبح الأعشى في صناعة الإنشا للشيخ أبي العباس أحمد القلقشندي، الجزء الأول، مطبعة دار الكتب المصرية بالقاهرة 1340هـ / 1922م.

[1] د. عباس أرحيله: مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس  الإبداع, المطبعة والوراقة الوطنية- مراكش, الطبعة الأولى/ 2003, ص: 59، بتصرف.

[2]   المرجع نفسه، ص: 59- 60، بتصرف.

[3]  الدكتور عباس أرحيلة: مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي وهاجس الإبداع، المطبعة والوراقة الوطنية- مراكش، الطبعة الأولى: 2003م، رقم الإيداع القانوني: 0993/2003، ص: 53- 54، بتصرف.

[4]  المرجع نفسه، ص: 56، بتصرف.

[5]  المرجع نفسه، ص:57.

[6]  الدكتور يوسف الإدريسي: عتبات النص: بحث في التراث العربي والخطاب النقدي المعاصر، منشورات مقاربات، آسفي، المملكة المغربية، الطبعة الأولى: 2008، ص: 35.

[7]  د. عباس أرحيلة: الكتاب وصناعة التأليف عند الجاحظ، المطبع والوراقة الوطنية، مراكش، الطبعة الأولى:2004، ص: 91.

[8]  د. عباس أرحيلة: مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي، مرجع سابق، ص: 60 – 61.

[9]  د. يوسف الإدريسي: عتبات النص، ص: 35.

[10]  المرجع نفسه، ص: 60.

[11]  د. يوسف الإدريسي: عتبات النص، ص: 35- 36.

[12]  جاء في لسان العرب: دبج الشيء يدبجه دبجا: نقشه وزينه، من لتدبيج بمعنى التزيين. والديباج: ضرب من الثياب سداه ولحمته من الحرير. وديباجة الوجه حسن بشرته. وديباجة الكتاب: فاتحته، ويقال لكلامه وشعره ديباجة وكتبته ديباجة حسنة: أسلوب حسن…

[13]  د. يوسف الإدريسي: عتبات النص، مرجع سابق، ص: 23، بتصرف.

[14]  الشيخ أبو العباس احمد القلقشندي: صبح الأعشى، الجزء السادس، طبع بدار الكتب المصرية بالقاهرة: 1340هـ- 1982م، ص: 274.

[15]  المصدر نفسه، ص: 274- 275.

[16]  المصدر تفسه، ص: 276.

[17]  د. عباس أرحيلة: الكتاب وصناعة التأليف، ص: 90، بتصرف.

  د. عباس أرحيلة: مقدمة الكتاب،ص: 10- 11.[18]

 المرجع نفسه، الصفحة نفسها.[19]

[20]  د. يوسف الإدريسي: عتبات النص، مرجع مذكور، ص: 57.

 المرجع نفسه، ص: 58، بنوع من التصرف. [21]

 المرجع نفسه، ص: 58- 59.[22]

 د.يوسف الإدريسي: عتبات النص، مرجع سابق، ص: 59- 60.[23]

 المرجع نفسه، ص: 60- 61- 62.[24]

 أخرجه أبو داوود والنسائي وابن ماجة وابن حبان والبيهقي عن أبي هريرة.[25]

 مقدمة الكتاب في التراث الإسلامي: د. عباس أرحيلة، مرجع سابق، ص: 83- 84، بتصرف.[26]

 المرجع نفسه، ص: 96. [27]

 د. أرحيلة: مقدمة الكتاب، مرجع سابق، ص: 99- 80.[28]

 د. أرحيلة: مقدمة الكتاب، مرجع سابق، ص: 105- 106.[29]

 المرجع نفسه، ص: 106.[30]

 د. عباس أرحيلة: مقدمة الكتاب، مرجع سابق، ص: 109.[31]

 د. أرحيلة: مقدمة الكتاب، ص:249 – 250 – 251. بتصرف.[32]

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.