التَّكْبِيرَة أوْ حق الملح والطعام
نورالدين النبهاني
التَّكْبِيرَة أوْ حق الملح والطعام
بقلم: نورالدين النبهاني
احتفظت دول شمال إفريقيا بعادات جميلة وعريقة لسنوات طويلة كتلك التي ترتبط بانتهاء شهر رمضان و حلول عيد الفطر، وتسمى التكبيرة، وهي عادة اجتماعية كان يكرم من خلالها كل زوج زوجته في لمسة رومانسية، اعترافا منه لها بكل ما كانت تقدمه على مائدة الإفطار من طعام خلال شهر رمضان.
واختلفت تسمية هذه العادة باختلاف المناطق وحسب اللهجات بشمال افريقيا، ففي تونس كان يطلق عليها حق الملح، و في الجزائر حق الطعام، و في ليبيا (لكبيرة)،و في المغرب كان يطلق عليها اسم التكبيرة.
وهي عادة قديمة جدا توارثها سكان شمال إفريقيا جيل بعد جيل منذ سقوط الأندلس واستقرار ساكنيها بشمال افريقيا حيث نقلوا معهم العديد من العادات و التقاليد و الموسيقى و تنوع الأطعمة، في حين يرى البعض أنها انتقلت مع وصول العثمانيين إلى شمال إفريقيا، لكن إذا بحثنا في كتاب التاريخ و الثرات لا نجد هذه العادة متداولة في المجتمعات العثمانية، بالطريقة و بالشكل و بالصورة المتداولة في شمال إفريقيا و بالتالي فهي عادة مغاربية بامتياز، وكما اختلفت التسمية اختلفت معها المبررات،في تونس مثلا سميت حق الملح في إشارة لاضطرار الزوجة في بعض الحالات تذوق ملوحة الطعام وهي صائمة (التذوق يتم بطرف اللسان حتى لا يفسد الصيام)، و في المغرب سميت بالتكبيرة لأن الزوجة تقدم طعاما شهيا طيلة شهر رمضان بملح معتدل دون ان تتذوق الطعام و هي صائمة معتمدة فقط على خبرتها و مقادير تقديرية حسب الإحساس و رؤية العين .
انتشرت هذه العادة بالمغرب بشكل سنوي مع صعود نجم الدولة السعدية والرفاهية التي حققتها مع السلطان أحمد المنصور الذهبي، وظلت هذه العادة متداولة في الحواضر وعند أغلب الأسر المغربية المتأثرة بالحضارة و المدنية في ذلك الوقت، لكن مع مرور السنين و الأزمنات ظلت هذه العادة تندثر بشكل تدريجي و تتلاشى مع الظروف الاقتصادية الصعبة التي عاشها المغرب آبتداء من المجاعات التي حلت بسبب الجفاف و الأوبئة التي انتشرت بسبب الطاعون إلى أن اختفت مع تحكم الاستعمار الفرنسي في أغلب مناطق المغرب، و دخول العالم في حرب عالمية ثانية.
قبل هذه الأحداث كان الزوج حسب التقاليد المغربية حين يعود من صلاة عيد الفطر يطرق الباب ثلاث طرقات ولا يفتحه بالمفتاح، بمجرد ما تفتح له الزوجة الباب و هي في كامل زينتها بعد أن تكون قد نظفت البيت و أعادت ترتيبه وبخرت زواياه بالمسك و البخور الزكية و هيأت المائدة بأطباق متنوعة من الحلويات و الفطائر التي تتميز بها المائدة المغربية في المناسبات وفي قلب تلك المائدة و وسط كل تلك الحلويات تتربع كؤوس الحليب مرفوقة بالتمر و ماء الزهر، قبل أن يظهر المشروب السحري الشاي في أوائل القرن الثامن عشر خلال فترة حكم السلطان مولاي إسماعيل، لتنطلق بعد ذلك صينية الشاي المغربية التي تحتوي على (البراد و الكيسان ) التي ستصبح سلطانة المائدة بالمغرب عند استقبال الضيوف و رمز اللمة المغربية في الأعياد و المناسبات إلى يومنا هذا.
يستقبلها الزوج عند الباب بابتسامة جميلة، يبارك لها العيد، و يهديها هدية من ذهب او فضة في حلة مزركشة حسب إمكانية الزوج المادية تعبيرا عن حبه لها و اعترافا منه على كل خدماتها وعلى كل ما قدمته للأسرة خلال شهر رمضان.. تتسلمها منه وتقبل يده وهو بدوره يقبل رأسها و تقول له بالحرف:
(كِيفْ كَبَّرْتِ بِيَ الله يكبر بيك)..
وسميت هذه اللمسة الرومانسية ب (التكبيرة) تقديرا لها و لمكانتها في البيت و اعترافا لها بالجميل.. و في بعض مناطق المغرب يقبلا يدي بعضهما في حركة أخد و رد لعدة مرات ولا زالت هذه العادة متداولة .
وفي الغالب هدية (التكبيرة) يشتريها الزوج في العشر الأواخر من رمضان وبالضبط في ليلة القدر حتى تكون مباركة ويُحْتَفظ بها في مكان آمن و سري إلى صباح يوم العيد والبعض يشتريها عند خروج زكاة الفطر والتي تسمى (بالفَطْرة)
بعد استقلال المغرب عادت هذه العادة إلى الظهور في بعض الأسر لكن بشكل محتشم، و لم تعد تقتصر الهدية على الذهب و الفضة بل تعدتها إلى هدايا متنوعة دخلت فيها (التفصيلة ) وهي هدية من قماش ثم انتقلت في الآونة الأخيرة الى الهاتف أو علبة التزيين أو الورود عند الأزواج حديثي العهد بالزواج من الشباب ( الذين لهم إلمام بتاريخ المغرب و يحاولون الحفاظ على الهوية المغربية ) وعند الأسر الميسورة، كما أضيفت إلى العادات المعاصرة التي ظهرت حديثا في المجتمع المغربي و التي يتم فيها تقديم الهدايا للمرأة مثل تقديم وردة حمراء في عيد المرأة و باقة ورد أو هدايا في عيد الميلاد و هدية قيّمة في ذكرى عيد الزواج، بينما في الماضي كانت فقط عادات( التكبيرة) و(التفكور ) و ( الدْفوع ) وكلها هدايا يدفعها الزوج أو الخاطب الى زوجته أو خطيبته في الأعياد و المناسبات .
كل هذه العادات القديمة منها و الحديثة، حتى لو قلنا عنها بدعا فهي بدع حميدة لأن غاياتها توطيد العلاقة بين الأشخاص وتمكين أواصر المحبة بين الأفراد والأسر والجماعات في الأعياد و المناسبات .