مما لا شك فيه أن اعتبار مآلات الأفعال ونتائجها من الأصول الجليلة التي ينبغي أن يتسلح بها المجتهدون في السياسة الشرعية، سواء أكانت هذه الأفعال من المكلف بوصفه فردا يتحمل مسؤولية أعماله، أم مؤسسة بوصفها مكلفة بمسؤولية عامة، نائبة بموجبها على مجموع المكلفين في بلد ما.
إن سداد الاجتهاد في قضايا السياسة الشرعية رهين بالنظر في مآلات التصرفات ونتائجها المتوقعة، بناء على الدراسات العلمية العميقة. اختيار هذا الاجتهاد أو ذاك، والحكم عليه بالوجوب أو الندب أو الحرمة أو الكراهة أو سائر درجات الحكم الشرعي، متوقف أساسا على مدى تحقيقه المقاصد الشرعية المآلية أو عدمه. فما المآل؟ وما القواعد المؤسسة عليه؟ وكيف يمكن ضبط الاجتهاد في السياسة الشرعية بواسطتها؟
المآل مأخوذ من مادة: (أ-و-ل)، وفيه معنى الرجوع والمصير والعاقبة، قال صاحب اللسان: “الأَوْلُ: الرجوع. آل الشيءُ يَؤُول أَولاً ومآلاً: رَجَع؛ قال ابن الأَثير: “هو من آلَ الشيءُ يَؤُول إِلى كذا أَي رَجَع وصار إِليه. وآل اللبنُ إِيالاً: تَخَثَّر فاجتمع بعضه إِلى بعضُ.”[1] أي باعتبار ما يصير إليه ويختم به.
وأما في الاصطلاح فهو: “أصل كلي يقتضي اعتباره في تنزيل الحكم على الفعل بما يناسب عاقبته المتوقعة استقبالا”، معنى هذا أنه دليل حاكم بإطلاق. فهو ينتظم مجموعة من القواعد الاستدلالية التي تشكل بمجموعها كليته”[2]. يقول الإمام الشاطبي: “النظر في مآلات الأفعال معتبر مقصود شرعا، كانت الأفعال موافقة أومخالفة. وذلك أن المجتهد لا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل. فقد يكون مشروعا لمصلحة فيه تستجلب، أو لمفسدة تدرأ، ولكن له مآل على خلاف ما قصد منه، وقد يكون غير مشروع لمفسدة تنشأ عنه أو مصلحة تندفع به، ولكن له مآل على خلاف ذلك. فإذا أطلق القول في الأول بالمشروعية، فربما أدى استجلاب المصلحة فيه إلى المفسدة تساوى المصلحة أو تزيد عليها، فيكون هذا مانعا من إطلاق القول بالمشروعية، وكذلك إذا أطلق القول في الثاني بعدم المشروعية ربما أدى استدفاع المفسدة إلى مفسدة تساوي أو تزيد، فلا يصح إطلاق القول بعدم المشروعية. وهو مجال للمجتهد صعب المورد، إلا أنه عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة.”[3]
هذا النص الثمين المتين يرسم الخط الاجتهادي المبني على المآلات والعواقب، وفيه:
- بيان لعمل المجتهد بناء على هذا الأصل: فلا يحكم على فعل من الأفعال الصادرة من المكلفين بالإقدام أو الإحجام إلا بعد نظره إلى ما يؤول إليه ذلك الفعل.
- أن مآلات الأفعال قد تكون على ضد ما قصدت إليه أصلا: إذ يؤدي استجلاب المصلحة في فعل ما إلى مفسدة تساوى تلك المصلحة أو تزيد عليها، وقد يكون العكس، فيكون استدفاع مفسدة سببا في مفسدة تساوي أو تزيد.
- أن مجال الاجتهاد المبني عليه يحتاج إلى حذق دقيق، وفهم عميق: ذلك أنه صعب المورد، بيد أن فيه حلاوة ومتعة ومنفعة للعباد في كل زمان، فهو “عذب المذاق، محمود الغب، جار على مقاصد الشريعة”، خاصة في مجال عمت به البلوى، وارتبطت به مصالح الأمة الإسلامية ارتباطا كليا كالسياسة الشرعية.
– أما أدلة اعتباره فقد ثبتت من عدة وجوه:
الأول: أن الشريعة بما هي تكاليف تقع على مسؤولية المكلف، إنما شرعت لمصالح العباد المآلية، فهي إما أخروية أو دنيوية، فإن كان الأول فمعنى المآل فيه واضح جلي، ولا ينبغي إهماله في كل مشروع اجتهادي رشيد، وإن كان الثاني “فإن الأعمال مقدمات لنتائج المصالح، فإنها أسباب لمسببات هي مقصودة للشارع، والمسببات هي مآلات الأسباب، فاعتبارها في جريان الأسباب مطلوب، وهو معنى النظر في المآلات.”[4]
الثاني: “أن مآلات الأعمال إما أن تكون معتبرة شرعا أو غير معتبرة، فإن اعتبرت فهو المطلوب، وإن لم تعتبر أمكن أن يكون للأعمال مآلات مضادة لمقصود تلك الأعمال، وذلك غير صحيح لما تقدم من أن التكاليف لمصالح العباد، ولا مصلحة تتوقع مطلقا مع إمكان وقوع مفسدة توازيها أو تزيد، وأيضا فإن ذلك يؤدي إلى ألا تطلب مصلحة بفعل مشروع ولا نتوقع مفسدة بفعل ممنوع وهو خلاف وضع الشريعة.”[5]
الثالث: أن الأدلة الشرعية والاستقراء التام أن المآلات معتبرة في أصل المشروعية: والأمثلة على ذلك كثيرة سواء ما كان على الجملة أم على الخصوص.
فأما ما كان على الجملة، فكتشريع كثير من الأمور لتحقيق تقواه سبحانه، أو دفعا لتطاول المشركين على هتك الحرمة الربانية كقوله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون)[6].
– وأما ما كان على الخصوص فكثير:
- كقوله صلى الله عليه وسلم حين أشير عليه بقتل من ظهر نفاقه: فعن عمرو بن دينار سمع جابر بن عبد الله يقول: “كنا في غزاة قال سفيان: يرون أنها غزوة بني المصطلق، فكسع[7] رجل من المهاجرين رجلا من الأنصار، فقال المهاجري : يا للمهاجرين. وقال الأنصاري: يا للأنصار فسمع ذلك النبي صلى الله عليه وسلم فقال: “ما بال دعوى الجاهلية. قالوا: رجل من المهاجرين كسع رجلا من الأنصار. فقال: رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دعوها فإنها منتنة، فسمع ذلك عبد الله بن أبي بن سلول، فقال: أو قد فعلوها، والله لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجن الأعز منها الأذل، فقال: عمر يا رسول الله دعني أضرب عنق هذا المنافق، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: دعه لا يتحدث الناس أن محمدا يقتل أصحابه.”[8]
- عن عائشة رضي الله عنها زوج النبي صلى الله عليه وسلم، أن رسول صلى الله عليه وسلم قال: “ألم تري أن قومك لما بنوا الكعبة اقتصروا عن قواعد إبراهيم. فقلت: “يا رسول الله، ألا تردها على قواعد إبراهيم”، فقال: “لولا حدثان قومك بالكفر.”[9] وبمقتضى هذا أفتى مالك الأمير حين أراد أن يرد البيت على قواعد إبراهيم فقال له لا تفعل لئلا يتلاعب الناس ببيت الله.
- عن ثابت عن أنس أن أعرابيا بال في المسجد، فقام إليه بعض القوم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دعوه، ولا تزرموه، قال: فلما فرغ دعا بدلو من ماء فصبه عليه.”[10]
فجميع هذه الأدلة أفادت القطع باعتبار الشارع للمآلات فيما يشرعه لعباده. وعليه فإن من أهم القواعد المبنية على هذا الأساس والتي لا يستغني عنها المجتهد في السياسة الشرعية هي:
- قاعدة الذرائع.
- قاعدة الحيل.
- قاعدة الاستحسان.
- قاعدة مراعاة الخلاف.
قاعدة الذرائع
الذريعة في اللغة لفظ يدل على عدة معان منها: السبب والوسيلة الموصلة إلى أمر ما، ومنها التستر والتأهب، ومنها الاحتيال والمخاتلة، ومنها أيضا القيد بالذراع. جاء في لسان العرب: “الذَّرِيعة: الوسيلة المفضية إلى الشّيء، وقد تَذَرَّع فلان بذَريعةٍ أَي توسَّل، والجمع الذرائعُ. يقال: فلان ذريعتي إليك أي سببي وَصِلَتي الّذي أتسبّب به إليك. والذّريعة السّبب إلى الشّيء، وأصله أنّ الذّريعة في كلامهم جَمَلٌ يُخْتَلُ به الصّيد؛ يمشي الصّيّاد إلى جنبه فيستتر ويرمي الصّيد إذا أمكنه، وذلك الجمل يُسَيَّبٌ أوّلاً مع الوحش حتّى تألفه. والتذْرِيع: فضل حبل القَيد يُوثَق بالذراع، اسم كالتَّنْبيت لا مصدر كالتَّصْويت. وذُرِّعَ البعيرُ وذُرِّعَ له: قُيِّدَ في ذراعَيْه جميعاً. يقال: ذَرَّعَ فلان لبعيره إذا قَيَّدَه بفضل خِطامه في ذراعه، والعرب تسميه تَذْريعا.”[11]
أما في الاصطلاح، فقد اشتهر سد الذرائع بالدلالة على: “الطرق المفضية إلى المفاسد، أو الأشياء التي في أصلها مباحة، لكن يتوصل بها إلى فعل محرم محظور”، قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله: “والذريعة: ما كانت وسيلة وطريقاً إلى الشيء، لكن صارت في عرف الفقهاء عبارة عما أفضت إلى فعل محرم – ولو تجردت عن ذلك الإفضاء لم يكن فيها مفسدة – ولهذا قيل: الذريعة الفعل الذي ظاهره أنه مباح وهو وسيلة إلى فعل المحرم”[12]. ومنهم من عرفها بأنها “حسم مادّة وسائل الفساد دفعاً لها، متى كان الفعل السّالم عن المفسدة وسيلةً للمفسدة، منع مالك من ذلك الفعل في كثير من الصور”[13]، وذهب الشاطبي إلى القول: “قاعدة الذرائع التي حكمها مالك في أكثر أبواب الفقه لأن حقيقتها التوسل بما هو مصلحة إلى مفسدة.”[14]
والحق أن الذريعة كما تكون بفعل المباح للوصول للمحظور، تكون بفعل يؤدي إلى مطلوب شرعا فيأخذ حكمه، وهذا ما نبه إليه القرافي رحمه الله حين قال: “تنبيه اعلم أن الذريعة كما يجب سدها يجب فتحها، وتكره وتندب وتباح، فإن الذريعة هي الوسيلة، فكما أن وسيلة المحرم محرمة، فوسيلة الواجب واجبة. الوسيلة إلى أفضل المقاصد أفضل الوسائل، وأقبح المقاصد أقبح الوسائل، وإلى ما هو متوسط متوسطة.”[15]
يتلخص لنا مما سبق:
- أن قاعدة الذرائع قاعدة اجتهادية، فرع من فروع اعتبار المآل الذي هو أصل اجتهادي عام يشغل مساحة واسعة أثناء تنزيل الأحكام الشرعية في الواقع.
- أن الأحكام الشرعية عموما، وما تعلق بالسياسة الشرعية على وجه الخصوص قسمان:
أولها: ما كان مقصدا مطلوبا من شرع الحكم، والمصالح المستجلبة والمفاسد المدفوعة.
ثانيها: ما كان وسيلة للمقصود، وطريقا مفضيا إليه، فحكمه حكم مقصوده، ومنه قاعدة “ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب”، كما نبه على ذلك الإمام القرافي رحمه الله تعالى.
- أن قاعدة الذرائع ذات شقين أساسين:
الأول: أن الاجتهاد الصائب هو فتحها ( فتح الذرائع) متى كانت مفضية لمقصود شرعي، ذلك أن وسيلة المطلوب وجوبا أو ندبا أو إباحة، مطلوبة بنفس القدر.
الثاني: أن السداد في الاجتهاد هو سدها، و ذلك حينما تكون الوسيلة لغير مقصود من شرع الحكم، لأن وسيلة المحرم محرم، والمفضي إلى مفسدة منهي عنه.
حـجية قاعدة الذرائع
أوردت المصادر الأصولية في شأن دليلية هذه القاعدة اختلافات كثيرة، مآلها إلى الاتفاق المبدئي في تحقيق مناط القاعدة في بعض جزئياتها. ولقد بين القرافي أنه ليس خاصا بمذهب مالك، كما يتوهمه كثير من المالكية، بل الذرائع على ثلاثة أقسام:
- قسم أجمعت الأمة على سده ومنعه وحسمه.
- قسم أجمعت الأمة على عدم منعه، وأنه ذريعة لا تسد، ووسيلة لا تحسم.
- قسم اختلف فيه العلماء هل يسد أم لا؟
وأما الشاطبي فقد أنهى كلامه على الاختلاف الحاصل بقوله: “فقد ظهر أن قاعدة الذرائع متفق على اعتبارها في الجملة.”[16] وعموما فإن العمل بالذرائع ثابت بالنصوص الشرعية وبالاستقراء العام، وبيان ذلك كالآتي:
أولا: الأدلة من النصوص الشرعية
أدلة من القرآن الكريم:
- قال الله تعالى: (وَلاَ تَسُبُّواْ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ فَيَسُبُّواْ اللّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذَلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلَى رَبِّهِم مَّرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُم بِمَا كَانُواْ يَعْمَلُون)[17]، فقد نهى تبارك وتعالى عن سبّ آلهة الكفّار لئلاّ يكون ذلك ذريعةً إلى سبّ اللّه تعالى.
- قوله جل ثناؤه: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيم).[18] فنهى الله تعالى المؤمنين عن قول: “راعنا” للنبي صلى الله عليه وسلم سدا لذريعة اتخاذ اليهود ذلك سبيلا لسب النبي صلى الله عليه وسلم، وهي بلغة اليهود سب من الرعونة فسُرُّوا بذلك، وخاطبوا بها النبي صلى الله عليه وسلم.
- قوله جل ذكره:(ولَا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ مَا يُخْفِينَ مِن زِينَتِهِنَّ، وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُون)[19]، والذريعة المراد سدها من ذلك هو عدم سماع الرجال صوت الخلخال فيثر ذلك دواعي الفتنة.
- قوله تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ قَالْوَاْ أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُواْ فِيهَا فَأُوْلَـئِكَ مَأْوَاهُمْ جَهَنَّمُ وَسَاءتْ مَصِيراً) [20]، ففي هذه الآية نهى الله تعالى عن الإقامة في أرض الكفر، إن كان فيه مفسد محققة، وترك الهجرة إلى بلد الإسلام، حيث تؤمن المفسدة، مع أنَّ الإقامة لا يلزم منها في ظاهرها كفر ولا نفاق ولا ما دون ذلك، ولكن لما كانت الإقامة الدائمة بين الكفار تؤثر في سلوك المسلم سلبا، وتعرضه لفتنة ترك الدين أصلا، ولو بعد زمن، نهى الله تعالى عنها سداً لذريعة المفسدة، وفي هذا نظر ونقاش في الوقت الحالي.
من السنة النبوية الشريفة:
- عن أبي الحوراء السعدي قال قلت للحسن بن علي، ما حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: حفظت من رسول الله صلى الله عليه وسلم: “دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة”[21]. فاختيار ترك ما هو مباح، إنما هو لسد ذريعة الوقوع في المحظور.
- عن النعمان بن بشير رضي الله عنه قال: “قال النبي صلى الله عليه وسلم: “الحلال بين والحرام بين، وبينهما أمور مشتبهة، فمن ترك ما شبه عليه من الإثم، كان لما استبان أترك. ومن اجترأ على ما يشك فيه من الإثم، أوشك أن يواقع ما استبان. والمعاصي حمى الله من يرتع حول الحمى، يوشك أن يواقعه”[22].
- عن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “إن من أكبر الكبائر أن يلعن الرجل والديه، قيل: يا رسول الله، وكيف يلعن الرجل والديه؟ قال: يسب الرجل أبا الرجل، فيسب أباه ويسب أمه.”[23]
وعلى كلٍّ، فأَبواب الذرائع في الكتاب والسنة يطول ذكرها، ولا يمكن حصرها[24]، وقد ساق الإمام ابن القيم رحمه الله تسعة وتسعين دليلاً على اعتبارها.[25] وقد عُلم بالاستقراء أن موارد التّحريم في الكتاب والسّنّة يظهر أنّ المحرّمات منها ما هو محرّم تحريم المقاصد، كتحريم الشّرك والزّنى وشرب الخمر والقتل العدوان، ومنها ما هو تحريم للوسائل والذّرائع الموصّلة لذلك والمسهّلة له.
يقول ابن القيم: “لما كانت المقاصد لا يتوصل إليها إلا بأسباب وطرق تفضي إليها؛ كانت طرقها وأسبابها تابعة لها معتبرة بها، فوسائل المحرَّمات والمعاصي في كراهتها والمنع منها، بحسب إفضائها إلى غاياتها وارتباطها بها، ووسائل الطاعات والقربات في محبتها والإذن فيها بحسب إفضائها إلى غاياتها، فوسيلة المقصود تابعة للمقصود، وكلاهما مقصود، لكنه مقصود قصد الغايات، وهي مقصودة قصد الوسائل، فإذا حرم الرب تعالى شيئاً وله طرق ووسائل تفضي إليها، فإنه يحرمها، ويمنع منها تحقيقاً لتحريمه، وتثبيتاً له، ومنعاً أن يقرب حماه، ولو أباح الذرائع المفضية إليه لكان ذلك نقضاً للتحريم، وإغراءً للنفوس به، وحكمته تعالى تأبى ذلك كل الإباء، بل سياسة ملوك الدنيا تأبى ذلك، فإن أحدهم إذا منع جنده أو رعيته أو أهل بيته من شيء ثم أباح لهم الطرق والأسباب والذرائع الموصلة إليه لعد متناقضا، ولحصل من رعيته وجنده ضد مقصوده. وكذلك الأطباء إذا أرادوا حسم الداء منعوا صاحبه من الطرق والذرائع الموصلة إليه ، وإلا فسد عليهم ما يرومون إصلاحه. فما الظن بهذه الشريعة الكاملة التي هي في أعلى درجات الحكمة والمصلحة والكمال؟ ومن تأمل مصادرها ومواردها علم أن الله تعالى ورسوله سد الذرائع المفضية إلى المحارم بأن حرمها ونهى عنها.”[26]
إن مجالات حركة الاجتهاد في السياسة الشرعية عرضة في كل وقت وحين لذرائع تتطلب فتحا وتوسعة، وأخرى تستدعي سدا وتضييقا بحسب ما تفضي إليه من نتائج ومآلات، ولكن ما هي قيود وضوابط اللجوء إلى سد الذرائع؟
ضوابط سد الذريعة
الضابط الأول:
أن يكون الفعل المأذون فيه مؤدياً إلى الفساد أو إلى مفسدة غالبة، فإن كانت المفسدة المرتبة عليه نادرة فإنه لا يقال بذلك، لأن النادر لا ترتب عليه الأحكام ولا تعلَّق به. فيلزم النظر في أصل الفعل، فإن كان منهيا عنه غير مأذون فيه، فهو مجمع على منعه، كمن يدعي أن لا صلة للقرآن الكريم والسنة النبوية بشؤون الحكم وتسيير الدولة. أما إن كان أصل الفعل مأذونا به، وترتب عنه ضرر واضح لغيره فتسد ذريعة الضرر. وهو محل اجتهاد ونظر، كمن عرضت عليه المشاركة في حكومة ما، وكانت هذه المشاركة تفضي إلى هدم المقاصد التي من أجلها يعمل ويسعى، بحيث يصير في قبضة الحاكم الظالم، فالراجح عدم المشاركة، وعدم السكوت عن المطالبة برفع الظلم، وتحقيق حرية العباد في قول كلمة الحق.
الضابط الثاني:
أن تكون المفسدة الناتجة عن فعل المأذون مساوية لمصلحته أو أكثر، فإن كانت مصلحة فعل المأذون أكثر من المفسدة المترتبة على الفعل، فإنه لا تسد الذريعة.
وبناء عليه، فالأقسام ثلاثة:
الأول: أن تكون المفسدة المترتبة على فعل المأذون مساوية لمصلحته :فحينئذٍ يسد هذا الفعل ويمنع.
الثاني: أن تكون المفسدة المترتبة على فعل المأذون أكثر من المصلحة المترتبة على سده فإنه يمنع حينئذٍ أيضاً، بأن تكون راجحة على مصلحة الفعل المأذون فيه من باب غلبة الظن.
الثالث: أن تكون المفسدة المترتبة على فعله أقل من المصلحة المترتبة عليه فإنه حينئذٍ لا يسد .
إن الاجتهاد في السياسة الشرعية ينبغي أن يتسلح بفقه الذرائع، ومن رزق الحكمة في تنزيل الأحكام الاجتهادية بناء على قاعدة الذرائع، فقد رزق ربع التكليف، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “وباب سد الذرائع أحد أرباع التكليف، فإنه أمر ونهي، و الأمر نوعان، أحدهما: مقصود لنفسه، والثاني وسيلة إلى المقصود، وهو نوعان، أحدهما: ما يكون المنهي عنه مفسدة في نفسه، والثاني: ما يكون وسيلة إلى المفسدة، فصار سد الذرائع المفضية إلى الحرام أحد أرباع الدين.”[27]
ينبغي للاجتهاد في السياسة الشرعية أن يتوخى الحذر من الانزلاق إلى التشديد على الناس بدعوى سد الذريعة، وذلك بالتدقيق في الموازنة بين المصالح والمفاسد، إذ هي معيار السياسة الشرعية في التعامل مع كل القضايا التي تتطلب إعمالا للفكر والاجتهاد، ولنضرب لذلك أمثلة بحسب ما يقتضيه المقام:
المثال الأول: فتنة النصر والفتح.
ذلك أن هجوم الأموال المكتسبة من البلدان المفتوحة كان فتنة للمسلمين الذين تربوا في عهد الإسلام الأول في حياة عادية امتازت بها الجزيرة العربية، فكان حريا بالناس أن يسدوا ذريعة الدنيا، إلا أن الفرح بالنصر كان في الدنيا، وبفعل التغيرات التاريخية، نشأ في الإسلام أجيال تتنافس الدنيا. وكذلك يقع في نصر كل أمة على غيرها في كل الأزمان، إلا من رحم الله تعالى، وهذا موطن هام للاجتهاد في الفقه السياسي. فقد حذر النبي صلى الله عليه وسلم من مغبة نشوة النصر والفرح بالعائد الدنيوي، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “مَا الْفَقْرَ أَخْشَى عَلَيْكُمْ وَلَكِنِّي أَخْشَى أَنْ تُبْسَطَ عَلَيْكُمُ الدُّنْيَا كَمَا بُسِطَتْ عَلَى مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، فَتَنَافَسُوهَا كَمَا تَنَافَسُوهَا وَتُهْلِكَكُمْ كَمَا أَهْلَكَتْهُمْ.”[28]
المثال الثاني: مشاركة المرأة في الشأن السياسي العام.
ضيق بعض الذين سبقونا بالإيمان في فقه المرأة إلى حد الانحباس خاصة فيما يتعلق بالشأن العام، بعد أن كان زمن النبوة والخلافة الراشدة خاليا من التضييق، وخير مثال على ذلك خروج المرأة إلى العبادة في المساجد، فعن ابن عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا تمنعوا إماء الله مساجد الله”[29]، ولكن لما تغيرت النفوس، وضعف وازع التقوى في القلوب، وصار خروج النساء إلى المساجد ليلا سببا في تعرضهن للأذى من ذوي النفوس المريضة من الرجال، قالت أمنا عائشة رضي الله عنها: “لو أدرك رسول الله صلى الله عليه وسلم ما أحدث النساء لمنعهن من المساجد” ثم صار هذا الرأي الاجتهادي الاستثنائي سدا لذريعة مؤقتة، حكما أصليا عليه تقاس النوازل.
والحق أن فقه المرأة في العصر الحالي يحتاج إلى اجتهاد مسدد يفتح الذريعة للمشاركة في الشأن العام من طلب للعلم، وإسداء للنصح، وتحفيزا على العمل الصالح، وتآمرا بالمعروف، وتناهيا عن المنكر. بل لا سعادة للرجل نفسه والمرأة قابعة في البيت، رهينة الجهل والخرافة. إن الله تعالى قسم العالم بين الرجل والمرأة قسمة تنوع في الوظائف وتكامل لا قسمة انعزال وانزواء.
المثال الثالث: دفع المال للكفار لاستنقاذ أسرى المسلمين.
فأصل دفع المال للكفار محرم لأن فيه إعانة للكفار وتقوية لهم على المسلمين، ومع ذلك فالدفع جائز عند المالكية لأن هذا الفعل يفضي إلى مصلحة راجحة على تلك المفسدة، وهي تخليص المسلمين من الرق والقتل والفتنة في الدين لو تركوا بأيدي المشركين، وهذا من تطبيقات الشافعية على قاعدة الذرائع، يقول السيوطي: “لو أحاط الكفار بالمسلمين ولا مقاومة لهم جاز دفع المال إليهم، وكذا استنقاذ الأسرى منهم بالمال إذا لم يمكن غيره، لأن مفسدة بقائهم في أيديهم واصطلامهم أعظم من بذل المال.”[30]
[1] لسان العرب لابن منظور مادة: (أ ـ وـ ل).
[2] المصطلح الأصولي عند الشاطبي للدكتور فريد الأنصاري ص 416
[3] الموافقات في أصول الشريعة ج4 ص194،195.
[4] السياسة الشرعية مصدر للتقنين للدكتور عبد الله محمد محمد القاضي ص195.
[5] الموافقات ج 4 ص195.
[6] سورة الأنعام الآية 108.
[7] ضرب دبره بيده أو بسيفه.
[8] أخرجه الترمذي تفسير القرآن عن رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال أبو عيسى حديث حسن صحيح.
[9] أخرجه البخاري كتاب الأنبياء باب قول الله تعالى” واتخذ الله إبراهيم خليلا”.
[10] صحيح مسلم كتاب الطهارة، باب وجوب غسل البول وغيره من النجاسات إذا حصل في المسجد.
[11] لسان العرب مادة (ذ . ر. ع).
[12] الفتاوى الكبرى ج 6 ص 172.
[13] الفروق للقرافي ج2 ص38.
[14] الموافقات ج4 ص198.
[15] الفروق ج2ص38 ـ 39.
[16] الموافقات ج4 ص 200 ـ201.
[17] سورة الأنعام الآية 108.
[18] سورة البقرة الآية 104.
[19] سورة النور الآية31.
[20] سورة النساء الآية 97.
[21] أخرجه الترمذي كتاب صفة القيام والرقائق والورع، قال:” وهذا حديث حسن صحيح”.
[22] أخرجه البخاري كتاب البيوع باب الحلال بين والحرام بين.
[23] أخرجه البخاري كتاب الأدب باب لا يسب الرجل والديه.
[24] ذكره ابن رشد في المقدمات نقلا عن تبصرة الحكام في أصول الأقضية ومناهج الأحكام
[25] إعلام الموقعين ج3 ص 177 – 205
[26] إعلام الموقعين ج3ص173.
[27] إعلام الموقعين ج 3 ص174 وما بعدها.
[28] صحيح البخاري حديث رقم [4015]، كتاب المغازي، باب شهود الملائكة بدرا.
[29] صحيح مسلم، كتاب الصلاة، باب خروج النساء إلى المساجد إذا لم يترتب عليه فتنة.
[30] السياسة الشرعية مصدر للتقنين بتصرف ص216.