“لوكان يطيحو لحيوط” فيلم، يسرد هشاشة الجدران، وتناهي الإنسان
بقلم: ذ. علي علاوي
لكن عقدة التناهي هذه ليست على مايبدو أولا،
فما يبدو أولا وما يظهر هو هذه الأشياء، هذه الأحياء،
هؤلاء الأشخاص في العالم.
بول ريكور.
لعل التفكير في الولادة وما يعقبها من مرض وهشاشة وموت… هو لا محالة تفكير في الحياة، وما الجسد إلاّ وسيط للسكن والإقامة داخل جدران العالم. وقد يدخلنا ضرب التفكير هذا بدون ريب في دوامة أنطولوجية قد نزيغ عن دائرتها لنسقط في شراك الأسئلة السوداوية والعدمية من قبيل: هل الحياة بطبعها منصفة؟ وإذا كانت كذلك فما معنى انتهاء أجل الجدة يوم عرس بنت البنت؟ وما معنى موت طفلة صغيرة و ثدي الأم لم ينضب بعد من قطرات الحليب؟ وما معنى رحيل أب في ريعان شبابه تاركا طفلة صغيرة تستعطف القدر (سيدنا قدر) ليعيد والدها -لأنها لازالت في مسيس الحاجة إليه، لدرجة أنها تسمع صوته همسا- وليرحم ضعف أخيها العاجز، ويعين والدتها ( عاملة في مقهى شعبي)؟
لكن من يتابع سينما حكيم بلعباس ينأى بفكره عن كل هذا اللغط، ليتحوز عدة فكرية ومفاهيمية قريبة من “الوعي التراجيدي”، وبمعزل عن المقاربة التقنية ذات الزاوية الضيقة، الغارقة في التأويلات والقراءات الإنشائية.
الفيلم إذن يعالج تيمات عدة، برؤيا فلسفية، يتنزل فيها “الوعي التراجيدي” منزلة القطب من الرحى. لذا، فأي قراءة فيلمية مطالبة بأن تنحى المنحى الفلسفي، وأن تتوسل المفاهيم الفلسفية بالضرورة.
معهود أن العمل السينمائي، والفن، والسرد والأدب عامة، يريد أن يقول شيئا في نهاية الأمر. فما الذي أراد أن يقوله فيلم “لو كان يطيحو لحيوط Murs Effondrés” ؟ وهو الفيلم الأخير لتجربة امتدت من النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي بأفلام قصيرة، تلتها فيلموغرافية غزيرة منها على سبيل الذكر لا الحصر: “ثلاث ملائكة بأجنحة منكسرة” “خيط الروح” “شي غادي وشي جاي” “عرق الشتا” للمبدع المغربي حكيم بلعباس ابن مدينة “بجعد” أبي الجعد؛ هذه المدينة التي سكنها صغيرا فسكنته وهو مخرج بنظرة الكبار؛ ليصور ناسها وأحداثها، بل وجدرانها المهترئة الهشة…
يثير الفيلم المذكور 18 حكاية تتباعد عن بعضها البعض، لتلتقي في نقط عديدة منها: الفقد، العوز، الحاجة، الحرمان… فكل الشخوص تريد، لكن إرادتهم تُسلب وتُهشم أمام الأمر الإلهي (القدر)، وهذا مايشكل ماهية الوعي التراجيدي لأنه يعكس الصراع بين الإرادة والأمر. كل شخوص الفيلم تريد؛ فالمعلم يريد الحب، والتلميذ يريد تحصيل الدرس، لكن قدر الأخير يضعه أمام إرادة معلمِه الذي يرسله للممرضة بغية تسليمها رسالة حب. والطفل اليافع الذي يداعب الكرة بكل ضراوة وهيجان. يقابل كل هذا إرادة عجوز( جندي سابق) في تحدي هذه القوة والضراوة، وبين صراع الإرادات، هذا يحل الأمر الإلهي ليموت العجوز قبل الوصول إلى خط نهاية السباق المعقود بين القوة (الطفل اليافع) و الضعف ( الشيخ ).
إن الجامع المشترك بين شخوص حكايا الفيلم هو تحطم إراداتهم على صخرة الأمر المتعالي الذي يفوقهم، وهو ما تأكد مع كل شخصية. ولتقريب هذا المعنى، استعان مخرج الفيلم بمستويات جمالية حِيكت على منوال التناقض، و الأخير لايعني المفارقة، لأن التناقض هو “مجابهة تثبت فيها الأزواج طريقها نحو الوحدة، أما المفارقة فإنها تعمل على تصدع الوحدة ذاتها، وهذا ما تبين مثلا مع مؤذن المسجد الذي نام مخمورا، وحاول ابنه أن يؤدي الوظيفة عوضا عنه، لكن باب الصومعة استعصى فتحه، أو إن شئت قلت الأمر الإلهي تدخل ليمنع ما كان سيحدث.
إرهاصات الوعي التراجيدي حاضرة في كثير من أوقات الفيلم، وهو ما يجعلنا نقول إن المخرج متمكن من أدواته الفيلمية التي أضحت طيعة لتخدم رؤيته رغم تعدد مستوياتها. الفيلم بهذا المعنى له مستويات فكرية تعمق الرؤيا الإخراجية وتسندها، نعم، مثلا: الأم الشابة التي ستفقد طفلتها داخل المشفى من جراء ارتفاع درجة حرارتها؛ هذه الأم ذات وجه جميل ينم عن الخصوبة والطراوة، عكس الوجوه الأخرى التي اكتمل نضجها وتوقف الزمن عن الزحف، لتُرسم خطوط الطول والعرض معلنة أن الحياة مرت من هنا، والآن هرمت وتنتظر دنو الآجال. وهذا ما عنيناه بالتناقض الذي يؤدي إلى وحدة الرؤيا المكرسة للوعي التراجيدي. يظهر هذا أيضا مع المرأة المجذوبة التي بدأت تتقاسم الحناء مع رجال عديدين بعدما أشبعت ذاتها تطهرا… فكرة التطهير نفسها حاضرة بقوة في الفيلم وعبر مستوياته، حيث نجدها مرة على شكل انهمار حليب على رضيع مات، ومرة على شكل “جير” أو صباغة على أرض قاحلة، أو بوابة ميتة، وفي كثير من المرات عبارة عن ماء ينسكب على جثة أو على أرجل أو على قبر….
يذكر بول ريكور في كتابه “فلسفة الإرادة، الإنسان الخطاء” فكرة التناهي Finitude، حيث يسأل: هل أستطيع القول إن تناهي ma finitude يتركز في أن العالم لايظهر لي إلاّ من خلال توسط جسدي؟ والجواب هو نعم، لأن المعنى الحقيقي لمفهوم التناهي finitude هو ما يعكسه الفيلم، حيث يزيحه – بلعباس- من دلالته التجريدية وينزله إلى الواقعية بطريقة أقل ما يقال عنها إنهاغاية في الدقة.
وهذا ما تبدّى من خلال تجاعيد وجوه الممثليين الذين ليسوا بممثلين عاديين، إنهم بُرعاء، لأنهم ببساطة أناس طبيعيون. وقد حاول بعض الممثلين المحترفين التفوق على ذواتهم أمام فلسفة حكيم بلعباس التي يمكن نعتها بأنها فلسفة الحق في التمثيل، ومن هؤلاء الممثلين نذكر محمد سيبو، حسناء المومني، خليل اوبعقا… ناهيك عن تكريس تناهي الإنسان من خلال حركة الأجساد المتتاقلة، وتسليط الضوء على بقايا الزمن -الوشم مثلا- التي استقرت على الجسد بعدّه وسيطا يسكن جدران العالم.
هناك من يقول إن الفيلم طويل، وهذا قول صحيح نسبيا، لكن هل هو ممل؟ يقول أحد الفلاسفة: إن الحياة شريرة وماكرة، لدرجة أن لا أحد يغادرها حيا. وعندما تريد تصوير مسار حياة لأحدهم فإنك مهما حاولت أن تطيل، ستختزل كل مراحل العمر في زمن الفيلم وإذا كان الأخير مملا فحتى خمس دقائق ستقلقك. فما بالك أنك تصور زمن مدينة إبتدأ من قاعة السينما التي طالها النسيان وبدأت جدرانها في التآكل..؟ لحظة، لقد سرد حكيم بلعباس لحظات تآكل الجدران، وأي جدران إنها جدران مدينة مغربية تُضمر أكثر مما تُظهر.
وما شقوق جدرانها إلاّ منفذ عبَر من خلاله المخرج “الثعلب”، ليسرد لنا هشاشة الجدران وتناهي الإنسان. وبالأوبة إلى بول ريكور الذي يؤكد على أن أي تأمل فلسفي للتناهي يبدأ بملاحظة الجسد الخاص، ليغدو جسد الإنسان المغربي هو جسدنا الخاص، لقد صور بلعباس الجسد المدني والعسكري، جسد السلطة وجسد المواطن، جسد الفنان المسرحي، وجسد الإنسان العادي الرجل والمرأة، اليافع والرضيع، العاقل والمجذوب الجسد الراقص والثابت، الضاحك والباكي… وكلها -الأجساد – تتغيى التناقض لتُحصّل الوحدة طريقا سالكا. لقد تفحص الفيلم الهزيع الأخير من الجسد المغربي الخاص ليقول في الأخير إن كل الأجساد تلتقي في التناهي وذلك بنفس فلسفي يمتح من الوعي التراجيدي الذي تتحدد ماهيته من صراع الإرادة الخاصة، والأمر الإلهي المتعالي..هذا الزخم كلّه يسميه حكيم بلعباس القضاء والقدر.
لماذا بلعباس يصنف ضمن خانة المخرج الثعلب؟ لأنه ببساطة يصور ما لايصور، ويسرد ما يجب أن يسرد، لكن برؤيا فلسفية تنفلت من الإطار المفروض، المخرج الثعلب إذن يعرف عديد الأشياء وبطرق متعددة ورؤيته مدهشة لأن الأخيرة هي أصل التفلسف. أما المخرج القنفذ فهو لاتعوزه الرؤية، ويعرف شيئا واحدا فقط ورغم ذلك يكون مدهشا. لكن الشيء الواحد يكون بالضرورة خاليا من التناقض.
إن المخرج الثعلب هو من تتوفر له القدرة على تصوير إيماءة قط لتدخل ضمن خط السرد بدون نشاز، ومنه نسأل من هو هذا السيناريست الجبار القادر على كتابة هذه الإيماءة ضمن الخط الدرامي، البدئي و من تتوفر له القدرة عينها على كتابة جملة مفادها: أن رأس الحمامة سيتوسط شق الجدار لتنبش كاشفة عن 18 حكاية توارت بفعل الزمن، ومن سيكتب أن السلحفاة ستقف على شقوق الأرض لتتأمل حركة الزمن البطيئة.
وأخيرا بقي أن نشير إلى أن الفيلم” لوكان يطيحو لحيوط” سفر جمالي حاول أن يجيب بطريقة مبسطة جدا على إشكال فلسفي ظل قائما “منذ فيلون الإسكندري إلى ابن رشد، كما من ديكارت إلى هيدجر هو كيف نستشكل حقل التعالي الإبراهيمي بواسطة أنطولوجيا التناهي؟”.