الحيل في اللغة جمع حيلة، وتجمع أيضا على حيلات. وهي من الاحتيال. قال ابن سيده: الحَوْل والحَيْل والحِوَل والحِيلة والحَوِيل والمَحالة والاحتيال والتَّحَوُّل والتَّحَيُّل، كل ذلك: الحِذْقُ وجَوْدَةُ النظر والقدرةُ على دِقَّة التصرُّف. ورجل حُوَلٌ وحُوَلة، مثل هُمَزَة، وحُولة وحُوَّل وحَوَالِيٌّ وحُوَاليٌّ وحوَلْوَل: مُحْتال شديد الاحتيال. واللفظ أكثر ظهورها في الفعل المذموم، وقد يقصد بها الوجه المحمود، ومن هذا الوجه قوله تعالى في وصف من تخلف عن الهجرة لعذر:(لاَ يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَلاَ يَهْتَدُونَ سَبِيلاً) [1].
وشاع استعمالها في أعراف الناس فيما فيه توظيف للطرق الخفية، وأساليب الخداع للتوصل إلى أغراض مرسومة من قبل، قال ابن القيم رحمه الله تعالى: “ثم غلب عليها بالعرف استعمالها في سلوك الطرق الخفية التي يتوصل بها الرجل إلى حصول غرضه، بحيث لا يتفطن له إلا بنوع من الذكاء والفطنة؛ فهذا أخص من موضوعها في أصل اللغة، وسواء كان المقصود أمراً جائزاً أو محرماً، وأخص من هذا استعمالها في التوصل إلى الغرض الممنوع منه شرعاً، أو عقلاً، أو عادة، فهذا هو الغالب عليها في عرف الناس؛ فإنهم يقولون: فلان من أرباب الحيل، ولا تعاملوه فإنه متحيل، وفلان يعلم الناس الحيل، وهذا من استعمال المطلق في بعض أنواعه كالدابة والحيوان وغيرهما”[2].
الحيلة في الاصطلاح
اختلف المضمون الاصطلاحي بحسب موقف العلماء من مشروعيتها، فالذين رأوها مخالفة للشرع كالشاطبي رحمه الله يرون أن: “حقيقتها المشهورة، تقديم عمل ظاهره الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر.”[3] بينما يرى آخرون وعلى رأسهم الأحناف أنها مجرد الخروج من المحظور بنوع من التحيل، لا المكر والخديعة للانفلات من حوزة الشرع.[4] وعليه، فاعتبار مقصد المتحيل ونيته ركنٌ أساسي في هذه القاعدة، وهو أهم فارق بينه وبين القاعدة السابقة (قاعدة سد الذرائع). ولتتضح الصورة نبين موقف الحنفية، ثم غيرهم في الموضوع.
اشتهر الأحناف باعتبارها أكثر من غيرهم. وذلك ما لم يكن في الأخذ بها قصد صريح في التنصل من تكاليف الشرع وهدم مقاصده، مثل النطق بكلمة الكفر إكراهاً عليها تحيلاً بها لحفظ النفس من الإزهاق والقلب مطمئن بالإيمان.[5] واشتهار هم باعتبار الحيل والأخذ بها، سواء فيما نقل منها في مدوناتهم، أو ما روي عن أبي حنيفة رحمه الله من مسائل فلم يكن بالمعنى المحظور للأخذ بالحيل، وإنما كان فيه تطويع للواقع ليوافق الشرع وتبرئة ذمة لمستفتي مما قد يقع فيه، وفي كل ذلك معنى اعتبار المآل الذي يؤول إليه عمل المكلف. ولا شك أن حدة ذكاء الإمام أبي حنيفة وحسن فهمه، ودقة استنباطه، جعله قادراً على إيجاد مخارج شرعية سليمة لكثير من المعضلات الفقهية التي يقع فيها الناس، ولم يكن رحمه الله باحثا عن الترخص، أو التنصل من الأحكام الشرعية، ولم يكن يستخدمها إلا في حالات محدودة. إلا أن الذين جاؤوا بعده توسعوا في ذلك فزلت أقدام، وخرجوا عن حد الاعتدال المرغوب.
وفي معرض بيان موقفهم من الحيل، قال الإمام شمس الأئمة السرخسي رحمه الله: “اختلف الناس في كتاب الحيل أنه من تصنيف محمد رحمه الله[6] أم لا، كان أبو سليمان الجوزجاني ينكر ذلك ويقول: من قال: إن محمدا رحمه الله صنف كتابا سماه “الحيل” فلا تصدقه، وما في أيدي الناس، فإنما جمعه وراقو بغداد. فإن الحيل في الأحكام المخرجة عن الإمام جائزة عند جمهور العلماء، وإنما كره ذلك بعض المتعسفين لجهلهم وقلة تأملهم في الكتاب والسنة. ثم ساق أدلة على رأيه من الكتاب والسنة كما يلي:
من الكتاب الكريم:
- قوله تعالى: (وَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِب بِّهِ وَلَا تَحْنَثْ. إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّاب)[7]. هذا تعليم المخرج لأيوب عليه السلام عن يمينه التي حلف ليضربن زوجته مائة، فإنه حين قالت له: لو ذبحت عناقا باسم الشيطان (في قصة طويلة أوردها أهل التفسير رحمهم الله). وذلك أن أيوب عليه الصلاة والسلام كان قد غضب على زوجته ووجد عليها في أمر فعلته قيل باعت ضفيرتها بخبز فأطعمته إياه فلامها على ذلك وحلف إن شفاه الله تعالى ليضربنها مائة جلدة وقيل لغير ذلك من الأسباب فلما شفاه الله عز وجل وعافاه ما كان جزاؤها مع هذه الخدمة التامة والرحمة والشفقة والإحسان أن تقابل بالضرب فأفتاه الله عز وجل أن يأخذ ضغثا وهو الشمراخ فيه مائة قضيب فيضربها به ضربة واحدة وقد برت يمينه وخرج من حنثه ووفى بنذره وهذا من الفرج والمخرج لمن اتقى الله تعالى وأناب إليه ولهذا قال جل وعلا: (إِنَّا وَجَدْنَاهُ صَابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ) أثنى الله تعالى عليه ومدحه بأنه “نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ” أي رَجَّاع منيب ولهذا قال جل جلاله: (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجاً.وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لَا يَحْتَسِبُ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْراً) [8].
- قوله تعالى: (وَلَمَّا جَهَّزَهُم بِجَهَازِهِمْ قَالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَّكُم مِّنْ أَبِيكُمْ أَلاَ تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَأَنَاْ خَيْرُ الْمُنزِلِينَ. فَإِن لَّمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلاَ كَيْلَ لَكُمْ عِندِي وَلاَ تَقْرَبُونِ) إلى قوله تعالى: (فبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعَاء أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَهَا مِن وِعَاء أَخِيهِ كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ) [9]. وكان هذا حيلة منه لاستبقاء أخيه عنده ليوقف إخوته على مقصوده.
من السنة النبوية الشريفة:
- ما روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال يوم الأحزاب لعروة بن مسعود في شأن بني قريظة: “فلعلنا أمرناهم بذلك، فلما قال له عمر رضي الله عنه في ذلك، قال عليه السلام: “الحرب خدعة” وكان ذلك منه اكتساب حيلة ومخرج من الإثم بتقييد الكلام بـ “لعل”.[10]
- لما أتاه صلى الله عليه وسلم رجل وأخبره أنه حلف بطلاق امرأته ثلاثا أن لا يكلم أخاه قال له: طلقها واحدة، فإذا انقضت عِدَّتها فكلِّم أخاك ثم تزوجها. فالحاصل: أن ما يتخلص به الرجل من الحرام أو يتوصل به إلى الحلال من الحيل فهو حسن، وإنما يكره ذلك أن يحتال في حق لرجل حتى يبطله أو في باطل حتى يموهه، أو في حق حتى يدخل فيه شبهة فما كان على هذا السبيل فهو مكروه، وما كان على السبيل الذي قلنا أولا فلا بأس به.[11]
ولقد نبه الشيخ أبو زهرة رحمه الله تعالى إلى هذا الأمر في معرض بيانه لسوء تصوير المستشرقين لمفهوم فقه الحيل، قال: “فالحيلة في نظر هؤلاء المستشرقين عمل يوافق في شكله ومظهره مطلب الشرع، وهو في نتيجته احتيال على الخروج من سلطان الشرع، وتفويت لأحكامه، هذه نظرة أولئك العلماء الأوربيين إلى الحيلة، وهي تتفق إلى حد كبير مع الحيل التي ابتدعها المتأخرون للتخلص من الأحكام الشرعية مع اتفاقها في ظاهر الأمر، ولكنها لا تنطبق على الحيل المأثورة عن أبي حنيفة وأصحابه الأولين؛ فإن حيلهم كانت للوصول إلى الحق أحياناً، ولتتفق مع قيودهم التي قيدوا بها العقود، ولتتفق أحكامها مع المقاصد الشرعية لا لتجافيها وتنأى عنها، وللتيسير على الناس، ومنع الحرج إذا ضيقوا على أنفسهم بأيمان أقسموها، وكانت لإرشاد الناس إلى الشروط الشرعية التي يحتاطون بها لحقوقهم وحمايتها من العبث.”[12]
الحيل عند غير الحنفية وأقسامها:
يرى الحنابلة أن للحيل معنيان: معنى عام وهو التوسل إلى أمر بشيء من الحذق ودقة النظر، وهذا بحسب مآله، والثاني وهو استعمال الحذق والاحتيال للتنصل من مراد شرعي وهو الذي عليه الاصطلاح فهو عندهم محظور مذموم. فابن القيم رحمه الله تعالى قسم الحيل بالمعنى الأول إلى خمسة أقسام تبعاً للأحكام الخمسة: الواجب، المندوب، والمباح، والمكروه، والمحرم. قال رحمه الله تعالى: “وإذا قسمت باعتبارها لغة انقسمت إلى الأحكام الخمسة؛ فإن مباشرة الأسباب الواجبة حيلة على حصول مسبباتها؛ فالأكل والشرب واللبس والسفر الواجب حيلة على المقصود منه، والعقود الشرعية واجبها ومستحبها ومباحها كلها حيلة على حصول المعقود عليه، والأسباب المحرمة كلها حيلة على حصول مقاصدها منها. ثم قال: “وليس كلامنا في الحيلة بهذا الاعتبار العام الذي هو مورد التقسيم إلى مباح ومحظور؛ فالحيلة جنس تحته التوصل إلى فعل الواجب، وترك المحرم، وتخليص الحق، ونصر المظلوم، وقهر الظالم وعقوبة المعتدي، وتحته التوصل إلى استحلال المحرم، وإبطال الحقوق، وإسقاط الواجبات”[13].
فحكم الحيلة إذن يأخذ حكم مقصدها ووسيلتها، وبما أن الأعم الأغلب استخدامها في الشر، وتعطيل الشريعة والتنصل من أحكامها فيدخلها في المحظور. أما الإفتاء بها وتعليمها للناس، وإنفاذها في الحكم، إخراج بواسطتها مما يقعون فيه من مآزق؛ فأول ما حدث في الإسلام -كما أكد ذلك ابن تيمية رحمه الله تعالى- في أواخر عصر صغار التابعين بعد المائة الأولى، وليس فيها حيلة واحدة تؤثر عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل المستفيض عن الصحابة أنهم كانوا إذا سئلوا عن فعل شيء من ذلك أعظموه وزجروا عنه”.[14]
أما المالكية وعلى رأسهم الإمام الشاطبي رحمه الله تعالى فيطلق الحيل بالمعنى الأصولي على: “تقديم عمل ظاهر الجواز لإبطال حكم شرعي، وتحويله في الظاهر إلى حكم آخر. فمآل العمل فيها خرم قواعد الشريعة في الواقع.”[15] فالحيل بهذا المعنى منهي عنها وذلك لعدة اعتبارات:
الأول: إن “التحيل” في هذا الاصطلاح لا يتحقق إلا إذا كان هناك فعل ظاهر المشروعية، بيد أن الغرض منه تحقيق غير مقصد الشارع. ومثاله: “الواهب ماله عند رأس الحول فراراً من الزكاة؛ فإن أصل الهبة على الجواز، ولو منع الزكاة من غير هبة لكان ممنوعاً، فإن كل واحد منهما ظاهر أمره في المصلحة أو المفسدة، فإذا جمع بينهما على هذا القصد صار مآل الهبة المنع من أداء الزكاة، وهو مفسدة، ولكن هذا بشرط القصد إلى إبطال الأحكام الشرعية[16].
الثاني: إن التحيل بهذا بالمعنى خاضع لقواعد المصالح التي سبق لنا بيانها، ذلك أنه تعارضت فيه مصلحة الأصل مع مفسدة المآل، فكان حكم التحيل المنع ترجيحاً لمفسدة المآل على مصلحة الأصل، فمفسدة المآل هادمة لمقاصد التشريع.
الثالث: إن التحيل المنهي عنه هو ما آل بالتصرف المُتحيَّل به إلى هدم أصل شرعي ذي مقصد كلي، ومناقضة مصلحة شرعية جزئية، وفي هذا يقول الإمام الشاطبي: “إذا ثبت هذا، فالحيل التي تقدم إبطالها وذمها، والنهي عنها، ما هدم أصلاً شرعياً، وناقض مصلحة شرعية، فإن فرضنا أن الحيلة لا تهدم أصلاً شرعياً ولا تناقض مصلحة، شهد الشرع باعتبارها، فغير داخل في النهي، ولا هي باطلة.”[17]
ولقد استدل أصحاب هذا الرأي بعدة أدلة منها :
من الكتاب الكريم:
- قوله تعالى: (وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ. فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِين)[18]، والمقصود أن طائفة من اليهود ابتلاهم الله تعالى بتحريم الصيد عليهم يوم السبت الذي كان السمك فيه كثيرا بعدما أباحه في بقية الأيام التي لا يكون فيها السمك بنفس الكثرة، فعمدوا إلى التنصل من أمر الله تعالى بالحيل الماكرة، وذلك بأن حفروا حفراً بجانب البحر ليدخلها السمك فلا يستطيع الخروج منه، وهكذا يستخرجوها يوم الأحد ويأكلوها، فكان عقابهم من الله جل وعلا المسخ إلى قردة وخنازير.
- قوله جل ذكره: (إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ وَلَا يَسْتَثْنُونَ. فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِّن رَّبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ. فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ. فَتَنَادَوا مُصْبِحِينَ. أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِن كُنتُمْ صَارِمِينَ. فَانطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ. أَن لَّا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُم مِّسْكِينٌ) [19]. لقد كان من عادة الفقراء أن يلتقطون ما تساقط من الثمر بعد حصاده فاتفق أصحاب الجنان أن يحصدوا ليلا من أجل حرمان الفقراء، فعاقبهم الله تعالى على احتيالهم هذا بإتلاف جنانهم وضياع أموالهم.
من السنة النبوية الشريفة:
- عن عقبة بن عامر قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ألا أخبركم بالتيس المستعار. قالوا بلى يا رسول الله. قال: “هو المحلل، لعن الله المحلل والمحلل له”[20]. فمعلوم أن الرجل إذا طلق زوجته ثلاثاً حرمت عليه حتى تتزوج غيره زواجاً حقيقاً مستوفيا أركانه وشروطه، ثم إذا حصل بينهما طلاق جاز رجوعها إلى زوجها الأول، فيعمد البعض إلى الاحتيال لتحل له زوجته، فيتفق مع آخر ليتزوجها ويطلقها لترجع إلى زوجها الأول، وقد لعن النبي صلى الله عليه وسلم أصحاب هذا الفعل، وفيه دليل على عظمة الجرم عند الله تعالى؛ لذلك استحق صاحبه العقوبة عليه، بل زاد النبي صلى الله عليه وسلم تحقيراً هذا الفعل وصاحبه فسماه: “التيس المستعار”.
من الاستقراء:
يدل استقراء نصوص الشريعة على أن المبادئَ عامةٌ والقواعدُ كليةٌ، ناهضةٌ بحظر الحيل وإبطالها، ذلك أن أحكام الشرع قائمة على مقاصد مغياة، ومن ذلك:
- أنه على النيات في الأقوال والأفعال تتوقف الصحة والفساد، وعلى توافق قصد المكلف مع مقصد الشارع أو مخالفته يكتسب الفعل صحة أو فساداً، ذلك أن الأمور بمقاصدها أقوالا كانت أم أعمالا.
- أن مقصد الشارع من التشريع هو إقامة مصالح الدارين على وجه لا يختل لها به نظام، وعليه فكل من سعى في الإخلال به أُبطِل سعيه، ورُدَّ عليه تحيله، إذ: “كل من ابتغى في تكاليف الشريعة غير ما شرعت له، فقد ناقض الشريعة، وكل من ناقضها فعمله في المناقضة باطل، فمن ابتغى في التكاليف ما لم تشرع له، فعمله باطل.”[21] ومآل تصرف المتحيل إبطال لمقصد الشارع، و المآل معتبر مقصود شرعاً.
خلاصة
إن إدراك المجتهد في السياسة الشرعية لقاعدة الحيل أمر لا مناص منه، ذلك أن مجالات السياسة الشرعية الكثيرة والمتعددة، المتداخلة والمتشابكة، تعد بحق أكثر المجالات خصوبة لاعتماد الحيل من أجل الوصول إلى مقاصد سياسية شخصية أو حزبية، أو “مصلحية” ( بمعنى العقلية الانتهازية).
ففي التدافع السياسي اليوم أحزاب سياسية متنافسة متصارعة، ومصالح متنازع عليها، وأنظمة قائمة تحافظ على توازنها واستمرارها، وقوى عالمية تفرض توجهاتها، والكل مستعد لتبني بعض شعارات الإسلام من أجل تحقيق الهدف السياسي المرسوم من ذي قبل كالتسامح والحوار بين الأديان، والمشترك الإنساني و”لا أحد يحتكر الإسلام، فكلنا مسلمون”، إلى غير ذلك من المقولات التي قد تلبس على المشتغلين بالسياسة من أبناء المسلمين.
إنه من واجب المجتهدين اليوم في السياسة الشرعية أن يتخذوا الوسائل الشرعية للغايات الشرعية، مع مراعاة الظرف والعصر والمصر دون أن يتبلدوا أمام حيل الخصوم والأعداء، ودون أن ننسى أن الحرب خدعة، فتتخذ الحيل الملائمة لتحقيق المقاصد الشرعية الواضحة.
والأخطر من هذا أن تبتلع الأساليب السياسية – بما هي مهارات الاحتيال لأجل غلبة الخصم لا غير- المجتهدين في السياسة الشرعية من أبناء الحركات الإسلامية، ومراكز الدراسات الاستراتيجية، فيهدمون الشرع من حيث يعتقدون أنهم ينافحون عنه وينصرونه، ويؤخرون المقصد الأسمى اليوم وهو إقامة الحرية والعدل والكرامة للمسلم الفرد وللأمة الإسلامية، بل وللمستضعفين في الأرض أنى كانوا وأي دين اختاروا.
الاجتهاد في السياسة الشرعية، النابع من المجتهد الموصوف بالتقوى والورع والرأفة بأمة رسول الله صلى الله عليه وسلم، والحرص على مصالحها الدنيوية والأخروية، لا تفوته الحنكة والحذق في تيسير تحقيق مصالح الأمة بما يحبب للناس دين الله تعالى، كما ينبغي ألا يفوته الحد الكافي من الخلق والعدالة والضبط والصدق، لأن مسارب العمل السياسي إذا انتقل من النظر الاجتهادي العام إلى التنزيل اليومي المتلون بتلون الواقع يحتاج لمن يمسك بالحبل المتين، ويزن بميزان الحق ما يعرض له من نوازل سياسية متعددة. فلا يروم التحيل الذي يعطل الشرع أو يتنصل منه، ولا يفوِّت الفرصة إن سنحت لترسيخ الأمة موطأ قدم النصر والتمكين. الاجتهاد السديد يتطلب معرفة بالمصالح والمفاسد في الطبيعة والميدان لا في الورق والنظر المجرد، ولا بأس في ذلك من إشراك الخبراء الأتقياء المتخصصين في العملية الاجتهادية السليمة، كل يدلي بما لديه من خبرة ومهارة تخصصية تفضي إلى جمع المجهود الجماعي الأعظم.
[1] سورة النساء الآية 98.
[2] إعلام الموقعين ج3ص188.
[3] الموافقات ج4 ص201
[4] لقد عني العلماء بقاعدة الحيل أيما عناية، منذ العصور الأولى لتدوين العلم وظهور المذاهب الفقهية فهذا الإمام البخاري رحمه الله تعالى يفرد كتابا خاصا سماه “كتاب الحيل”. ومن الحنابلة تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى عن هذا الموضوع لما بين بطلان التحليل في ” بيان الدليل على تحريم التحليل”، ولعله فعل ذلك لأن هذا النوع من الاحتيال، كان مشتهرا في زمانه. واختصر محمد بن علي البعلي مؤلفَ شيخ الإسلام السابق في “شفاء العليل في اختصار إبطال التحليل”، كما خصص ابن القيم رحمه الله تعالى قسماً كبيراً من كتابه”إعلام الموقعين” للكلام عن الحيل، ومعظم ما فيه مأخوذ من كلام شيخه ابن تيمية في “بيان الدليل”، زاد عليه حسن التنسيق، مع جمال الأسلوب وسهولته. أما لدى المالكية، فقد تصدى للموضوع إمام المقاصد رحمه الله تعالى في ” الموافقات في أًصول الشرائع” في قسم خاص من كتابه ليبين رأيه فيه. ونسب للإمام محمد بن الحسن الشيباني من الحنفية ” المخارج في الحيل”.. ومن الشافعية ألف القزميني كتابا تحت عنوان “الحيل في الفقه”، كما ألف الحصاف الحنفي كتاب” الحيل والمخارج”. هذا، وكتب أصول الفقه القديمة مليئة بالحديث عن الموضوع. أما في الوقت المعاصر فهناك بحوث جيدة، منها كتاب ” الحيل الفقهية في المعاملات المالية”، لمحمد بن إبراهيم، إذ خصص القسم الثاني منه لتطبيقات عملية للحيل في باب “المعاملات” مبينا الحكم الشرعي منها. ومنها أيضا “الحيل المحظور منها والمشروع” للدكتور- عبد السلام دهني.و” الحيل الشرعية بين الحظر والإباحة” لنشوة العلواني، و” الحيل وأحكامها في الشريعة الإسلامية” للدكتور- سعد بن غرير السلمي.
[5] الموافقات، ج4ص204، والاعتصام ج2ص139.
[6] هو محمد بن الحسن محمد بن الحسن بن فرقد ، العلامة ، فقيه العراق أبو عبد الله الشيباني، الكوفي، صاحب أبي حنيفة.
[7] سورة ص الآية 44.
[8] سورة الطلاق الآيتان 3و4.
[9] سورة يوسف الآيتان 59 ـ 60
[10] كنز العمال ج10 ص 459.
[11] المبسوط للإمام السرخسي كتاب ط الحيل ص 211.
[12] أبو حنيفة ص 434.
[13] إعلام الموقعين ج5 ص 188
[14] بيان الدليل ص 121.
[15] الموافقات ج 4 ص 201.
[16] نفسه
[17] الموافقات ج2ص387.
[18] سورة البقرة الآية65.
[19] سورة القلم من الآية 17 إلى 24.
[20] أخرجه ابن ماجة كتاب النكاح باب المحلل والمحلل له.
[21] الموافقات ج2 ص 331.