منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

متى سنقرأ لأوريد المبدع الذي يقنعنا بشخصياته؟

متى سنقرأ لأوريد المبدع الذي يقنعنا بشخصياته؟/ مصطفى بوكرن

0

متى سنقرأ لأوريد المبدع الذي يقنعنا بشخصياته؟

مصطفى بوكرن

حين علمتُ بصدور رواية المفكر والروائي حسن أوريد زينة الدنيا، اتجهتُ مسرعا إلى المكتبة لشراء الرواية. رأيتها رواية ضخمة، تضم 639 صفحة. اشتريتها ب 120 درهما.
لست من هواة إحصاء الكتب التي سأقرأها في سنة 2022، لأنني أقرأ، وبجواري مصادر ومراجع، ألجأ إليها للتدقيق في المعلومات، أو مطالعة موضوع الرواية. قبل أن أقرأ زينة الدنيا، التي موضوعها: “الدولة العامرية”، أو “سيرة المنصور بن أبي عامر”، الذي أسس دولة داخل دولة الخلافة، أو بلغة رائجة في زماننا: “الدولة الموازية”. رجعت إلى كتاب دولة الإسلام في الأندلس للمؤرخ المصري محمد عبد الله عنان، ثم رجعت إلى مصدر تاريخي مهم وهو: “البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب لابن عذاري”. ركزتُ القراءة حول انتقال الحكم من المستنصر بالله إلى المؤيد بالله، ثم قرأت عن سيرة المنصور بن أبي عامر، وهذه أحداث وقعت في القرن الرابع الهجري.
قبل أن أبدأ قراءة الرواية، فهمت غاية المؤلف المرموق حسن أوريد من كتابتها، لأنني قرأت مقالا له حول ما سماه: “البنية الموازية” في مجلة زمان سنة 2015. وكان يحذر، من دولة داخل الدولة المغربية، كما وقع في إيطاليا وتركيا.
فهمتُ أن أوريد يستدعي سيرة “الرجل القوي” ابن أبي عامر في خلافة هشام المؤيد بالله، ليشرح لنا، كيف ينشأ الرجل القوي؟ وكيف يبسط نفوذه؟ وما مآل دولة داخلها دولة؟ أو بصيغة أخرى: ما مآل الحكم الأسري، إذا استولت عليه سلطة أخرى؟
اتضح لي، قبل قراءة الرواية، أن الرجل مسكون بإشكالية الحكم في المغرب، كان هو أحد “أدواته” بلغة أوريد، وأصبح واحدا من ضحاياه. إذن، الهدف، الاختباء وراء التاريخ، لشرح تفاصيل التفاصيل، دون خوف أو ملاحقة قضائية.
أن يقوم أوريد بهذه المحاولة الجريئة، فهذا يستحق لوحده التصفيق والثناء والتشجيع، بحيث يدخل القارئ النابه في مقارنة بين التاريخ والواقع، فيعيش القارئ متعة لا تضاهى، إذا اجتهد قليلا في الرجوع إلى المصادر التاريخية.
أعتبر موضوع الرواية موضوعا إشكاليا، يمس كل مواطنة ومواطن، مهموم بسؤال: ما النموذج المأمول لبناء مغرب الغد؟ بمعنى، أن قراءة هذه الرواية الضخمة، ليس مضيعة للوقت، بل إنها دعوة للتفكير الجماعي في مآل اختطاف الحكم الشرعي من قبل “الرجل القوي”، الذي يستعمل في الظاهر صورة الدولة الشرعية، لكن في الباطن يشتغل من داخل “البنية الموازية”.
إلى هنا، الموضوع ممتع، لكن ما إن يتم نقله إلى الأسلوب المستعمل في بيانه للقراء: “الرواية” نجد أنفسنا مضطرين، لمساءلة الروائي حسن أوريد لا المؤرخ وأستاذ العلوم السياسية. الكتابة التاريخية شيء، والكتابة الإبداعية شيء آخر. فلا يمكن أن نقرأ روايات عبد الله العروي: الغربة، واليتيم، والفريق، وأوراق، وغيلة.. من خلال الإيديولوجية العربية، وسلسلة المفاهيم، لأن العروي المفكر، ليس هو العروي الروائي، ففي الكتابة الفكرية، يكون الصوت الواحد للمؤلف، لكن في الرواية تكون الأصوات متعددة، كما قال الكاتب محمود عبد الغني.
معلوم في الروايات التاريخية، أن الروائي مضطر للإجابة عن هذا السؤال: ما الإضافة التي سأقدمها؟ هل الروائي قام بدراسة تاريخية واكتشف جديدا في التاريخ، وبنى عليه رواية، أو أنه أراد أن يملأ بياضات، المؤرخ لا يمكن له، أن يملأها بخياله.
قام أوريد بملء بياضات بالغة الأهمية، تتعلق بتاريخ الأندلس، لا السلطاني، بل الاجتماعي والثقافي، لأن التاريخ تاريخ سلاطين وملوك. وأحيانا يملأ أوريد بياضات في تاريخ الدولة بالأندلس، لها أهمية روائية.
إذن، أوريد لا يعيد لنا، ما كتبه ابن عذاري، أو جمعه محمد عبد الله عنان، فهذا يمكن أن يرجع له القارئ في مصادره ومراجعه، وحتى إن عرضها فهو يقدمها بأسلوب الرواية، وهذا واضح في وصفه الجميل لزفاف ابن أبي عامر، الذي تزوج بأسماء بنت غالب.
لست ناقدا روائيا، لكنني أحاول أن أقول رأيي في الرواية من منطلق قارئ يجتهد في قراءة الرواية. هناك حسنات كثيرة لأوريد في هذه الرواية، ويروقني اجتهاده في لغة الشخصيات، فنتعرف على لغة اليهودي، ولغة المسيحي، ولغة الأمازيغي، ولغة الإسباني، ولغة اللاتيني. إضافة إلى اجتهاد أوريد في أحياء ألفاظ عربية قديمة، مثل: “الزاملة”، وهي البغلة، إلى غير ذلك من النماذج المشرقة في الرواية.
ما يهمني روائيا، هو الإبداع. أوريد ليحكي لنا قصة ابن أبي عامر، وما تحمله من خلفيات معرفية، اختلق شخصية سماها زيري. إذن السؤال: هل أقنعنا أوريد بهذه الشخصية؟
هذا عرض مختصر، لشخصية بطل الرواية:
اسمه زيري. أصله من قبائل زواغة، درس في القرويين بفاس. قُتِل أبوه وأمه وإخوته. عاش يتيما في كنف خالته، لكن زوجها كان يعنفه. حين بلغ عمر 16 سنة، قرر الهجرة إلى قرطبة. درس اللغة والفقه، كان متفوقا على اقرانه، اختاره الحكم بن عبد الرحمن كاتبا له، والمعروف بالحكم المستنصر بالله، ثاني خلفاء الدولة الأموية بالأندلس. بعد وفاته، أصبح ابنه هشام المؤيد بالله خليفة وعمره 12 سنة، لكن الذي كان يحكم الدولة في الواقع، المنصور بن أبي عامر، الذي استعمل خطة دموية يضرب هذا بذاك، ليبقى له الملك المطلق.
أصبح زيري خارج الدولة الجديدة، فاختار لعبة التخفي، لأنه يخاف أن تلاحقه عيون الحاكم ابن أبي عامر، باعتبار أن زيري رجلا من العهد القديم، فظل زيري يتخفى، في شخصية اليهودي هارون، ثم انتقل للتخفي في شخصية قوميز يمتهن الحجامة، ثم انتقل للتخفي في شخصية المغيرة، يعمل بفُرن الحي، ثم انتقل للتخفي في شخصية الفقيه الذي يجيب عن اسئلة النساء، ثم انتقل للتخفي في شخصية ابن صمادح، إلى أن أعلن عن نفسه ليصبح وزيرا عند ابن أبي عامر.
تزوج زيري اليهودية راحيل، وانجبت له يوسف، ثم ماتت. أحب المسيحية سلطانة خادمة صبح أم الخليفة هشام المؤيد بالله، لكنها رفضته حين تزوج جمانة المسيحية، التي لقبها بالرميكية، لم تلد له طفلا، فتزوج عليها بفتاة اسمها تتريت أمازيغية مسلمة، في سن العشرين، وأنجبت له هندا. ماتت سلطانة والرميكية، وبقيت له تتريت.
أوريد ابتكر شخصية زيري المثقف، المحب لجميع الأديان، والذي يحتكم إلى العقل، في تدبير الاجتماع الإنساني، لعيش زينة الدنيا. هذه الشخصية، ضديد شخصية ابن أبي عامر رجل السلطة، الذي لا يؤمن بالاختلاف، ويواجه من يعارضه بالقتل لا بالعقل، ولو كان ابنه، وهذا وقع حقا في علاقة ابن أبي عامر مع ابنه عبد الله. إذن، حبكة الرواية صراع بين المعرفة والسلطة من داخل الدولة. وهذه حبكة مثيرة.
هل نجح اوريد في بناء هذه الحبكة داخل روايته؟
الإجابة: للأسف الشديد، لا.
وهاكم البيان: أوريد أرادنا أن نعرف سيرة ابن أبي عامر. أولى أهمية للتاريخي على الإبداعي، فكأنه اقتنص القارئ بشخصية زيري غير المقنعة مطلقا.
ارتكب أوريد خطأ فادحا، حتى ليظن القارئ، أن الراوي يسخر من ذكائه. اختار أوريد الراوي العليم في سرد القصة. هذا الراوي يقدم لنا معلومات عن شخصية معينة، كشخصية اليهودي هارون، أو شخصية الفقيه المسلم، أو شخصية قوميز العامل في الفرن، أو شخصية صمادح، حتى ليظن القارئ أن هذه شخصية جديدة، وفجأة، يصدمنا الراوي، بأن هذه الشخصية ليست حقيقية، إنما هي قناع لزيري. والأغرب أن يقول لنا: قوميز سيمتلك فرنا. ونظن أن قوميز شخصية حقيقية، وليست زيري، فجأة يخبرنا بطريقة غبية، أنه زيري. وهذا ضحك على القارئ ولا علاقة له بالإبداع مطلقا.
أوريد وقع في مشكلة سردية، لا يترك زيري هو من يعرف بنفسه، ليتخفى، بل إن الراوي العليم هو من يعرفنا بالشخصية التي يتخفى وراءها زيري، وفرق كبير بين الأسلوبين.
هذه العرض المرتبك للشخصية، أفقد عنصر التشويق، لأن ما إن نقرأ اسم شخصية جديدة، حتى نقول ها هو الراوي سيفاجئنا بغباء، بأنه هو زيري. وحين بدأت هذه اللعبة تفقد تشويقها، لم يتأخر الرواي، في الكشف عن شخصية ابن صمادح.
وهناك سؤال بالغ الأهمية، يتعلق بشخصية زيري، يبدو مثل رجل مريض نفسي، يتخيل عدوا يلاحقه، وفي كل مرة يختفي سرا وراء شخصية معينة. والسبب في هذه الصورة الغريبة حول الشخصية، أن الراوي، لا يحكي لنا، ملاحقات رجال ابن أبي عامر لزيري، بمعنى أن هناك صراعا بين طرفين، كل طرف يجتهد في الوصول إلى هدفه، رجال ابن أبي عامر يريدون القبض على زيري، وفي المقابل زيري يجتهد في التخفي. بدأت الشخصية غريبة جدا.
والأغرب من ذلك، فجأة، أعلن الراوي أن زيري أصبح من رجال ابن أبي عامر. وهذا مثير للضحك، لأن هذا الصراع بين من يتخفى، وبين من يلاحق، نتيجته المنطقية، إلقاء القبض والمحاسبة، إما بالعفو أو السجن أو القتل، لكن الرواي، راح يملأ الصفحات بتاريخ ابن أبي عامر في الأندلس، ويحكي لنا، عن رسائل هند إلى باشكوال. وفجأة، أصبح زيري وزيرا، ومقبولا داخل الدولة، ثم انطلقت قصة جديدة، وللإنصاف، تميزت بالتشويق، لأنا رأينا طرفين يتصارعان، والراوي يحكي لنا، ما يخطط له كل طرف، وهذا لم يشغل من الرواية إلا صفحات قليلة، بالمقارنة مع
قصة التخفي، التي غطت غالبية الصفحات.
أحسن أوريد في تناوله هذا الموضوع المثير، لكنه فشل روائيا في أن يقنعنا بشخصية زيري، فيجعل أنفاسنا تتوقف، وننحن نترقب ماذا سيفعل كل طرف.
لن أتحدث عن الملاحظات الجزئية الكثيرة حول الرواية، ولكن يمكن أن أشير أن الراوي العليم يظهر جليا أنه أستاذ العلوم السياسية والمؤرخ حسن أوريد من القرن 21، والمثير أنه يستعمل مفهوما لا علاقة له بالقرن الهجري الرابع: “مفهوم البنية السياسية”. بل الأغرب من ذلك، أن هذا المفهوم تردده بلفظه هند حبيبة باشكوال، ويردده باشكوال أيضا. وكأن أوريد يستعمل الشخصيات، لتبرر رؤية إيديولوجية واحدة، وهي أن المثقف مرآة حاكمه، والمثقف رجل التعايش، والسياسي رجل الاستبداد. وهذا ليس إبداعا روائيا.
إننا نريد حقا، أن نقرأ لأوريد الروائي لا المؤرخ، وأن نقرأ لأوريد المبدع الذي يقنعنا بنصه، لا أوريد رجل السلطة الذي يتذكر ماضيه.
ومع كل هذا يبقى أوريد شامة المثقفين المغاربة…
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.