منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزء الحادي عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”

د.فاطمة الزهراء دوقيه

0

﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزء الحادي عشر – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”

د.فاطمة الزهراء دوقيه

ويصل بنا المقام إلى نهاية الرحلة الصلاتية التي سبق القول: كأنها تمثيل للرحلة الحياتية المتسمةِ بالعمل والحركية، والنشاط والجدية، وكل صفات الحياة والحيوية ..

وذلك منطلقاً بالتكبير، ممتلئاً بالحمد، مصاغاً بالخضوع والافتقار، ملتزماً بالحدود، متوقياً الطغيان، مبتغياً صلاح المعاش والعباد [1]، وصولاً إلى فلاح الآخر والمعاد ..

ختام هذه الرحلة هيئة القعود للتحية للمرور إلى “السلام “، هيئة كأنها استراحة من عديد الأعمال وكثير الأشغال. هذه الخاتمة تحمل معنى كبيراً متعلقا بطموحك، وغايتك من كل ما قمتَ ونهضتَ به، وما سعيتَ لأجله.

إنها جلسة الاستراحة الختامية التي تخبرك بالعديد من الأفكار والتفاصيل، لكن سيتم تسليط الضوء على فكرتها الإجمالية فحسب، وهي فكرة النهاية التي تعلق آمالك عليها .. وغايتك من كل هذا السعي وخوض هذه الحياة.

يا عبد الله ..

إلى ما تطمح بعد كل قياماتك ونهوضك، وكل حركاتك وسعيك وكدحك في الحياة، وقد تكون أوذيت وظُلمت وتعبت؟ وقد تكون في حال وصل بك السيل الزبى!! ألست تطمح إلى الراحة والسلام؟

في جلسة الختام تلك كأنها تدريب على التعلُّق بالأمل .. بتلك الراحة.. هي تذكيرٌ بما ينتظرك لتنظره … إنه يعلق آمالك وطموحك بالحيوان وَأنْت تخوض هذه الحياة:﴿وَمَا هَـٰذِهِ ٱلۡحَیَوٰةُ ٱلدُّنۡیَاۤ إِلَّا لَهۡوࣱ وَلَعِبࣱۚ وَإِنَّ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَ لَهِیَ ٱلۡحَیَوَانُۚ لَوۡ كَانُوا۟ یَعۡلَمُونَ﴾ العنكبوت:٦٤.

ماذا هناك في دار الحيوان؟؟ أليس السلام حيث لقاء الأحبة:﴿لَهُمۡ دَارُ ٱلسَّلَـٰمِ عِندَ رَبِّهِمۡۖ وَهُوَ وَلِیُّهُم بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾ الأنعام:١٢٧.

تأمل قوله تعالى الأخير بعد ذكر السلام عنده:﴿بِمَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ﴾، أليس لا بد من العمل لتحصيل هذا الوعد بالحيوان وذلك السلام ومن المزيد من القيام؟؟ فالتعلق بهذا الأمل يوجب دفعك إلى المزيد من العمل والقيام، لِأن المبدأ كما تعرف ليس بالتمني:﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ وَلَا یَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا* وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرࣰا﴾ النساء:١٢٣-١٢٤.

وهنا تحضر نظرة أخرى لهذه الجلسة الختامية للتحية ثم السلام، إنها الدعوة إلى الحياة نفسها، مع اعتبارها منصةً للتقويم والتقييم من أجل الانطلاق من جديد؛ وبتعبير آخر لكاتب يقول عنها:”تشبه جدا استراحة المحارب، المحارب الذي يحق له أن يستريح قليلًا، ليلتقط أنفاسه، ليجدد قواه، من أجل أن يواصل لاحقاً … لا، فلنقل إنها استراحة “المجاهد”: فالمعنى الأوسع الذي نقصده لا يمكن أن تحتويه كلمة غير “الجهاد” … إنها استراحة المجاهد، مثل ربوة يصل إليها بعد طول جهد.. يشرف منها على ما قطعه من رحلته، ولكن يشرف منها أيضاً على هدف رحلته، على ما لم يقطعه بعد من الطريق.. يقوم النتائج التي حصل عليها حتى الآن، ويلقي النظر على ما يجب تحقيقه.. وبين هذا وذاك، يسترق النظر إلى بعض ما وعد به.. إنها النهاية، التي تتجدد فيها البداية، وتشرق فيها روح الانطلاق من جديد.. وتتجدد فيها الطاقة من جديد.. لمواصلة الرحلة.. الطاقةُ المنبعثة من المفاهيم مجدداً، التي تنحت عبر تلك الكلمات.. التي ليست كالكلمات..”[2]

والكاتب يقصد كلمات التشهد التي تبدأ بالتحيات لله، معتبراً أن معناها الأعمقَ الأكثر جذرية كامن في اللفظ نفسه “التحيات” المشتق من “حيى”، وقد تعني في صيغتها هذه “الدعاءَ بالحياة الذي يأتي قرب النهاية، ليذكر بدعوة الحياة التي جاءت في النداء للصلاة “حي على الصلاة”، “حي على الفلاح” السابق لأدائها، تلك الدعوة إِلى الحياة، المرتبطةُ بالصلاة، المرتبطةُ بالفلاح، في علاقة تتساوى فيها “الصلاة” مع “الفلاح”، مع الإثمار، مع الفوز، الحياة بالمعنى الأعمق، حياة يرتبط معناها بالفاعلية فيها، بالايجابية في محتواها، وكل هذا كان قبل الشروع في الصلاة.. لكن هنا جاءت الدعوة إلى الحياة مرة أخرى قرب النهاية كما لو أنها تذكر بالبدايات، بنقطة الانطلاق بمحفزاته.. كما لو أنها تضع نصب عينيك “هدفا” أساسيًا كي لا تحيد عنه.. وهنا أيضا يشرق معنى هذه الدعوة إِلى الحياة، بجعلها مرتبطة بالله .. التحيات لله [3].

وختاماً..

ينتهي حديث الصلاة، وهو الحديث الذي لا ينتهي، وليس ما مر من أفكار وقيم المنتهى.. حتى يبقى أن تسبح بنفسك في رحابها لتكتشف ..

المهم أن تعلم أن الصلاة مدرسة تغييرية عليا، لن تجد لها نظيراً ولو اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثلها لا يأتون بمثلها .. هي وسيلتك العظمى لتتغير لتغير ما بواقعك وعالمك الصغير والكبير!!!

[1]– انظر المقالات السابقة المتعلقة بالصلاة.

[2]– خيري العمري، سدرة المنتهى، سلسلة كيمياء الصلاة (٥)، ص ٧-١٠.

[3]– انظر خيري العمري، سدرة المنتهى، سلسلة كيمياء الصلاة (٥)، ص ١١-١٣.

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.