﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزء التاسع – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزء التاسع – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
وما زلنا مع مدرسة الصلاة، تلك المدرسة الإسلامية العليا للتغيير لما بنفسك وحياتك والعالم من حولك، والتربية على القيم، ترتادها كل يوم عدة مرات، وما زالت تحمل لك حزماً من المعاني والبلاغات والتعلمات للحياة والمحيا ..
هيئاتها التي تؤديها بها، هل هي أشكال وقوالب فارغة من المعاني، هل هي حركات بلا أفكار وبلا قيم؟
كلا وكلا!!! بل “هيئاتها … قيم وأفكار”..
تعلم يقيناً أن كل ما شرعه الله تعالى له حكم وأسرار، ومغيى بمقاصد عظمى توجه حياتك، وتخدم رسالتك في الوجود، تحتاج فحسب إعادة القراءة وتجديد الوعي، وكما يقال “قراءة ما تحت السطور”، فالسطور هنا هي هذه الحركات والهيئات والأشكال من الانطلاق بتكبيرة الإحرام إلى كلمة السلام.
فلتتأمل هذه الخاطرة، والله أعلم من قبل ومن بعد..
كأنك بهذه الهيئات أمام مشهد رحلة الحياة كما يريدها الله تعالى من بدايتها إلى نهايتها، ألم تعلم -فيما تقدم- أنما الصلاة تدريب على الحياة بأسمى معانيها وأرقى صورها ؟؟..
تنطلق بإطلاق الشعار تكبيرة الإحرام “الله أكبر”، مع رفع اليدين كرمز لحالة العمل والجهد والنشاط والجد، ورفض حالة الكسل والخمول والقعود، أي أنك أمام ربط الشعار والفكرة والعقيدة مع الأيدي والجهد العضلي، وتكرر هذا الشعار “الله أكبر” وتلك الفكرة والعقيدة، في كل الدروب والساحات والمفاصل ووسط الأعمال المختلفة والحركات المتنوعة، وأثناء مخاض الحياة عسراً أو يسراً، تكرر ذلك الشعار”ربما لتستعيده كل مرة، ربما ليذكرك أن مقياسك للأمور في كل مفصل من مفاصل الحياة، يجب أن يكون هناك عند الله .. “الله أكبر” لا تلغي حقائق الحياة، وشروط الواقع وإشكالاته وإرهاصاته، لكنها فقط لا تجعل كل هذا أكبر منها، إنما تكون هي الأكبر”[1].. عقيدة “الله أكبر” وأفكارها هي الأكبر.
وكما تقدم في دلالات الآذان، فإن عبارة “الله أكبر” لا تلغي من اعتبار الحياة الإنسانية الأمور الأخرى التي تشغل، ولها الحق عليك أن تشغل، لكن “الله أكبر”.. هو ترتيب لأعمالك إذاً، وتنظيم لأولوياتك في الحياة، القمة فيها محجوزة له سبحانه وتعالى ولقائه، وهو الذي أمرك ألا تنسى دنياك وعمارتها والقيام بالرسالة فيها:﴿وَٱبۡتَغِ فِیمَاۤ ءَاتَىٰكَ ٱللَّهُ ٱلدَّارَ ٱلۡـَٔاخِرَةَۖ وَلَا تَنسَ نَصِیبَكَ مِنَ ٱلدُّنۡیَاۖ وَأَحۡسِن كَمَاۤ أَحۡسَنَ ٱللَّهُ إِلَیۡكَۖ وَلَا تَبۡغِ ٱلۡفَسَادَ فِی ٱلۡأَرۡضِۖ إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُحِبُّ ٱلۡمُفۡسِدِینَ﴾ القصص:٧٧.
هذا الشعار كانطلاق للصلاة محرِّم لأي شيء ليس منها ولا يدخل فيها، هو أيضا منطلق ومبدأ مشروعك في الحياة الذي هو باسم الله.
حين ترفعه تكون في هيئة قيام، وما القعود إلا رخصة واستثناء مؤقت حتمتها الضرورة والعجز، لكن الأصل والدائم هو هيئة القيام والوقوف كما تعلم من دينك بالضرورة عن الصلاة، وكما رفعت يديك عند التكبير دلالةً على حالة العمل والحركة ترجمةً للفكرة، فإن القيام هو الوضع الأسلم، وهو حالة مؤكدة للنشاط والاستعداد للعمل والإشراف والجد والاجتهاد.
ولفظة القيام التي تصف هذه الهيئة في الصلاة، معناها اللغوي نهوض، والنهوض حالة انتقال من حال جلوس أو قعود، وتلك لعمري الحاجة الملحة للأمة الإسلامية في عصرها الراهن .. وتحتاج أن تتذكر أنك المسؤول عن الخروج من مأزقه حسب وضعك وموقعك الذي جعلك الله فيه .. وصلاتك تدربك من خلال هذه الهيئة على فكرة القيام والنهوض، بما هي رسالة من المعاني العميقة، “يمكن أن تكون مقياساً لحياتك، تتعلق بك عندما تنهض من كبواتك، أو من سقطاتك، أو من كل ما هو متدن، ومنخفض في حياتك … أن تنهض دوما نحو الأعلى، أن تنهض دوما من سطح الأرض، نحو قمم تساهم أنت في بنائها.. القيام رمز لذلك المعنى العميق الكامن في الصلاة … إن الصلاة يمكن أن تساعدنا على القيام به، كدورة تدريبية، نعيد من خلالها صياغة أنفسنا، ونهيئها لإعادة صياغة العالم”[2].
والقيام المتحدَّث عنه هو المحمود عند الله تعالى؛ إذ هناك أنواع من القيامات التي تحدث عنها في كتابه، فهناك قيام لا مفر منه:﴿یَوۡمَ یَقُومُ ٱلنَّاسُ لِرَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾ المطففين:٦، وهذا القيام متوقف على كيف يكون قيامك في الحياة الدنيا، هل سيكون قيام من يتخبطه الشيطان:﴿ٱلَّذِینَ یَأۡكُلُونَ ٱلرِّبَوٰا۟ لَا یَقُومُونَ إِلَّا كَمَا یَقُومُ ٱلَّذِی یَتَخَبَّطُهُ ٱلشَّیۡطَـٰنُ مِنَ ٱلۡمَسِّ﴾ البقرة:٢٧٥، أم القيام بالقسط:﴿لَقَدۡ أَرۡسَلۡنَا رُسُلَنَا بِٱلۡبَیِّنَـٰتِ وَأَنزَلۡنَا مَعَهُمُ ٱلۡكِتَـٰبَ وَٱلۡمِیزَانَ لِیَقُومَ ٱلنَّاسُ بِٱلۡقِسۡطِۖ وَأَنزَلۡنَا ٱلۡحَدِیدَ فِیهِ بَأۡسࣱ شَدِیدࣱ وَمَنَـٰفِعُ لِلنَّاسِ وَلِیَعۡلَمَ ٱللَّهُ مَن یَنصُرُهُۥ وَرُسُلَهُۥ بِٱلۡغَیۡبِۚ إِنَّ ٱللَّهَ قَوِیٌّ عَزِیزࣱ﴾ الحديد:٢٥.
والقسط العدل وتحري الحق والاستقامة في كل شؤون الحياة. وهو القيام والنهوض الذي يأمر به الله، فيه عدل واهتداء واستقامة على منهج الله، لا ظلم فيه ولا طغيان، ولا ميل ولا انحراف ..
فهذا غيض من فيض ما تدل عليه هيئة القيام في الصلاة؛ حيث ترمز إلى حالة القيام بالمهمة والنهوض التي تشعر فيها بالقوة، بالنشاط والانطلاق للعمل. وهذا معنى جيد وجميل وسليم مطلوب، لكن تذكر أنك الفقير المحتاج إلى ربك، بدون إقداره لك لا تقدر، بدون ملكوته ونعمه لن تعمر ولن تحيا، ما أنت إلا مخلوق مقدَرٌ موهوب من نعم الله ما لا يحصى.. أنت الفقير إليه فلا تنس، والخاضع له، فلا تطغ ..
وهو المعنى الذي يُستوحى فيما يأتي من الهيئات التي تثبت لك أنها ليست مجرد حركات شكلية بلا معان، بل هيئاتها .. قيم وأفكار!!
[1]– خيري العمري، ملكوت الواقع، سلسلة كيمياء الصلاة (٢)، ص ١٠٨.
[2]– خيري العمري، فيزياء المعاني، سلسلة كيمياء الصلاة (٤)، ص١٤.