القصص القرآني وبناء القيم(5): نبي الله يوسف عليه السلام من الرؤيا إلى تحققها.
عجيبٌ أمر هذه القصة تبدأ برؤيا وتنتهي بتأويل للرؤيا، فقد ذكر الله عز وجل قصة يوسف عليه السلام كاملة في سورة يوسف من كتابه الكريم، بغرض واضح في قوله تعالى:” كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ ۖ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا [1]“، رسالة واضحة للرسول الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وأمته من بعده اتباعا لهديه واقتداء بسنته، قال الله تعالى: “نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَٰذَا الْقُرْآنَ وَإِن كُنتَ مِن قَبْلِهِ لَمِنَ الْغَافِلِينَ”[2]، فكانت قصة يوسف عليه السلام منارة في طريق الدعاة لما حدث له من عقبات منذ صغره، مع إخوته وكيدهم له ورميه في البئر، ثم عقبة بيعه، فعقبات كثيرة في بيت العزيز وقد فضل السجن على الوقوع في الزنا وتوالت العقبات بعد أن تحمل المسؤولية في مصر، لكنه تمسك بجناب الله عز وجل فعصمه من كل العقبات وحفظه من كيد الكائدين.
رحلة كلها عبر، كلها دروس لمن ألقى السمع وهو شهيد، كلها قيم تعين على فهم الواقع والتفاعل معه بشكل سليم، تمكننا من حل مشاكله وفك رموزه والسير قدما نحو غذ الأمة المشرق، غذ يجمع ما تفرق منها ويتنظمه في سلك ناظم وخيط رابط ليعيد البناء على أساس متين، أساس الحق والعدل والشورى، أساس ينعم فيه الإنسان وتكون الأولوية له، لا لمصالح الطبقة المستكبرة المتجبرة في الأرض المتحكمة في خيرات البلاد ومدخرات العباد.
من القيم التي جاءت في قصة نبي الله يوسف عليه السلام نذكر:
1.تصديق الرؤيا:
من سمات الصلاح تصديق الرؤيا من عند الله عز وجل، ما بين ” إِذْ قَالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَبًا وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي سَاجِدِينَ”[3] إلى قوله تعالى: ” وَقَالَ يَا أَبَتِ هَٰذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِن قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا”[4]، ورؤيا الأنبياء حق ووحي، وقد جاءت في السورة رؤيا السجينين، ورؤيا الملك التي كانت مفتاح الخير والملك على يوسف عليه السلام وخروجه من ظلمات السجن وظلمات الظلم التي لحقته من امرأة العزيز، وتصديق الرؤيا من علامات المحسنين، وقد رزقه الله علم تأويل الرؤى.
2.العفو عن إخوته:
كان يوسف عليه السلام يحظى بمكانة في قلب أبيه يعقوب عليه السلام، وهو ما حرك الغيرة في قلوب إخوته، فبدأوا بالكيد له، وكانت حادثة رميه في البئر، وادعاءهم الباطل على الذئب، فصار مثلا يضرب في براءة الأشخاص، ” هذا بريء براءة الذئب من دم يوسف”، إلا أن يوسف عليه السلام عفى عنهم، رغم ما لاقاه من عنت وضيق بعدما ألقي في البئر، فكان جوابه بعدما طلبوا العفو: “قَالَ لَا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ ۖ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ ۖ وَهُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ[5]“، “لا مؤاخذة لكم ولا تأنيب اليوم. فقد انتهى الأمر من نفسي ولم تعد له جذور. والله يتولاكم بالمغفرة وهو أرحم الراحمين”[6]، كما هو حال الأنبياء جميعا، وهذا يذكرنا بفتح مكة وعفو النبي صلى الله عليه وسلم على أهل مكة.
3.العفة:
عرضت امرأة العزيز نفسها على يوسف عليه السلام، ووضعت خطة محكمة للإيقاع به في المعصية، قال الله تعالى:” وَرَاوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِهَا عَن نَّفْسِهِ وَغَلَّقَتِ الْأَبْوَابَ وَقَالَتْ هَيْتَ لَكَ ۚ قَالَ مَعَاذَ اللَّهِ ۖ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوَايَ ۖ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ”[7] لكن الله عصمه ورزقه قوة شخصية دفع بها الفاحشة ونجا منها بفضله، “فهذه هي المحنة الطويلة التي مر بها يوسف، وصمد لها، ونجا منها ومن تأثيراتها ومغرياتها وميوعتها ووسائلها الخبيثة. ولسنه وسن المرأة التي يعيش معها تحت سقف واحد كل هذه المدة قيمة في تقدير مدى الفتنة وخطورة المحنة والصمود لها هذا الأمد الطويل. أما هذه المرة فلو كانت وحدها وكانت مفاجأة بلا تمهيد من إغراء طويل، لما كان عسيرا أن يصمد لها يوسف، وبخاصة أنه هو مطلوب فيها لا طالب”[8]، فقد واجه يوسف عليه السلام جملة من العقبات في هذه المحنة:
- أن التي عرضت نفسها هي سيدة البيت وهو مولى في ذلك البيت، ومن عادة المولى أن لا يرفض طلب سيدته، وبذلك قلب النبي الكريم العادة الجارفة في القصور، “لقد همت المرأة بالبطش به لعصيانه أمرها ، وهي في نظرها سيدته وهو عبدها ، وقد أذلت نفسها له بدعوته الصريحة إلى نفسها بعد الاحتيال عليه بمراودته عن نفسه ، ومن شأن المرأة أن تكون مطلوبة لا طالبة ، ومراودة عن نفسها لا مراودة ، حتى إن حماة الأنوف من كبراء الرجال ؛ ليطأطئون الرؤوس لفقيرات الحسان ربات الجمال ، ويبذلون لهن ما يعتزون به من الجاه والمال ، بل إن الملوك ليذلون أنفسهم لمملوكاتهم وأزواجهم ولا يأبون أن يسموا أنفسهم عبيدا لهن[9].
- أنها غلقت الأبواب، فلا عين ترى من أهل البيت، والفعل بالتضعيف دال على الإحكام والأبواب جاءت بصيغة الجمع دلالة على الكثرة، وهذا سلوك يبين أنها كانت عازمة على فعل هذه المصيبة مخططة لها، وأن الإغراءات قد بلغت ذروتها لكن يوسف اعتصم بالملك الوهاب فحماه من كيدها.
- رغم أن الشاهد حكم لصالحه، إلا أن حجة امرأة العزيز كانت هي الغالبة، فهي الحكم والخصم في آن واحد، فبادرت بالحديث أولا وحددت الحكم سلفا، في قوله تعالى: “قَالَتْ مَا جَزَاءُ مَنْ أَرَادَ بِأَهْلِكَ سُوءًا إِلَّا أَن يُسْجَنَ أَوْ عَذَابٌ أَلِيمٌ”[10].
4.الصبر على المصائب:
كان مسار يوسف عليه السلام محاطا بالعقبات التي تعيق سيره وسلوكه لربه عز وجل، وتمنعه من تبليغ الرسالة، وكان شعار النبي الكريم، ” قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ ۖ “، فصبره على إخوته في بداية صباه، وصبره على مراودة امرأة العزيز وهو في قصرها مولى عند زوجها، وصبره في السجن فكان في ظلمات السجن وظلمات الظلم، وصبره في موقف الحكم والتسيير وإدارة شؤون البلاد، فكان جزاءه إحسانا من رب العالمين، فوفاه أجره في الدنيا والآخرة مصداقا لقوله تعالى:” إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ”[11].
5.الآمانة:
بعدما قضى يوسف عليه السلام السجن وأذن الله له بالخروج، تحمل يوسف عليه السلام مسؤولية مصر من أجل أن تخرج من السنوات العجاف فكان مسؤولا أمينا على أمر الأمة، وقف بكل قوة أمام الجميع من أجل أن يحفظ أموال وطنه وتصل لكل محتاج لها رغم كيد المحيطين به المستفيدين من مقدرات البلاد بلا حسيب ولا رقيب، “وروي أن يوسف كان لا يشبع من طعام في تلك الأيام، فقيل له: أتجوع وبيدك خزائن الأرض؟ فقال: أخاف إن شبعت أن أنسى الجائع”[12]، وقد وفى بوعده فكان حفيظا عليما بأمر التدبير والاقتصاد،” حفيظ للذي أتولاه، فلا يضيع منه شيء في غير محله، وضابط للداخل والخارج، عليم بكيفية التدبير والإعطاء والمنع، والتصرف في جميع أنواع التصرفات، وليس ذلك حرصا من يوسف على الولاية، وإنما هو رغبة منه في النفع العام، وقد عرف من نفسه من الكفاءة والأمانة والحفظ ما لم يكونوا يعرفونه، فلذلك طلب من الملك أن يجعله على خزائن الأرض، فجعله الملك على خزائن الأرض وولاه إياها”[13].
6.هم الدعوة في كل موقف:
كان يوسف عليه السلام رجل الدعوة في كل موقف يعيشه فهو مرتبط برسالته حاملا لهمها في السراء والضراء، “فهو في السجن وظلماته -مع الظلم وظلماته! – لا يغفل عن الدعوة لدينه، في كياسة وتلطف -مع الحزم والفصل -وفي إدراك لطبيعة البيئة ومداخل النفوس فيها. كما أنه لا يغفل عن حسن تمثيله بشخصه وأدبه وسلوكه لدينه هذا الذي يدعو إليه في سجنه”[14]، فهو يدعو الله عز وجل:
في السجن، قال الله تعالى:” يَا صَاحِبَيِ السِّجْنِ أَأَرْبَابٌ مُّتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْوَاحِدُ الْقَهَّارُ”[15]، بخطاب يناسب المقام ويدعو الصاحبين إلى التفكر في أمر الربوبية، أيعقل أن تكون متعددة، أم الأمر واضح أن هناك رب واحد معبود واحد إله واحد، ينبغي أن يتوجه الجميع لعبادته.
في آخر حياته ويتمنى أمنية عجيبة، فيها العبرة والعضة لكل من سار على درب الأنبياء، فبعدما من عليه الله بكل الخيرات وفتح له أبواب الدعوة والدلالة عليه، ها هو يطلب أمنيته الأخيرة، قال الله تعالى:” رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ وَعَلَّمْتَنِي مِن تَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ۚ فَاطِرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَنتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ ۖ تَوَفَّنِي مُسْلِمًا وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ”[16]، جاء في تفسير ابن كثير:” هذا دعاء من يوسف الصديق ، دعا به ربه عز وجل ، لما تمت النعمة عليه ، باجتماعه بأبويه وإخوته ، وما من الله به عليه من النبوة والملك ، سأل ربه عز وجل ، كما أتم نعمته عليه في الدنيا أن يستمر بها عليه في الآخرة ، وأن يتوفاه مسلما حين يتوفاه . قاله الضحاك، وأن يلحقه بالصالحين، وهم إخوانه من النبيين والمرسلين”[17].
[1] سورة الفرقان، الآية 32.
[2] سورة يوسف، الآية 3.
[3] سورة يوسف، الآية 4.
[4] سورة يوسف، الآية 100.
[5] سورة يوسف، الآية 92.
[6] سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4 ص 2028.
[7] سورة يوسف، الآية23.
[8] سيد قطب في ظلال القرآن، ج4 ص1979.
[9] محمد رشيد رضا، تفسير المنار، ج 12 ص 227.
[10] سورة يوسف، الآية 25.
[11] سورة الزمر، الآية 10.
[12] تفسير البغوي، ج 4 ص 253.
[13] تفسير السعدي، ج 4 ص794.
[14] سيد قطب، في ظلال القرآن، ج4 ص199.
[15] سورة يوسف، الآية 39.
[16] سورة يوسف، الآية 101.
[17] تفسير ابن كثير، ج4 ص414.