قص علينا الله عزو وجل قصة إبراهيم عليه السلام من شبابه إلى كبره، وهي قصة فيها من العبر الكثير، وقد كان أمة قانتا لله وما كان من المشركين، شاكرا محتسبا صابرا من أجل تبليغ دعوة الله عز وجل، دون كلل أو ملل فقد وقف لوحده ضد قومه وأقرب الناس إليه، واجه قومه من أجل أن يقلعوا عن عبادة الأصنام ويتوجهوا إلى عبادة الله عز وجل.
سنتوقف في هذا المقال عند علاقته مع أبيه، لما تحمل من قيم تساعدنا على تطوير العلاقة مع الآباء وبناء علاقة متينة على أساس الحوار والخدمة والتفاني في الأداء، ومن القيم التي تدور عليه القصة:
1.الخطاب اللطيف مع الآباء:
“بهذا اللطف في الخطاب يتوجه إبراهيم إلى أبيه، يحاول أن يهديه إلى الخير الذي هداه الله إليه، وعلمه إياه وهو يتحبب إليه فيخاطبه: يا أبت“[1]، فهذا خطاب فيه رقة وأدب جم مع الأب، رغبة أن يكون ذلك مدعاة لاستجابته، وهذا خلق المؤمن ينادي بأحب الأسماء ويحاور بألطف العبارات وينصح بأحسن السبل، وليس الأمر تصنعا مع الوالد أو تكلفا وإنما هذا سجية المؤمن، “انظر حين أراد أن ينصح أباه ويعظه فيما كان متورطا فيه من الخطأ العظيم ، والارتكاب الشنيع الذي عصى فيه أمر العقل ، وانسلخ عن قضية التمييز ؛ كيف رتب الكلام معه في أحسن اتساق ، وساقه أرشق مساق ، مع استعمال المجاملة واللطف والرفق واللين والأدب الجميل والخلق الحسن “[2].
2.الخطاب المنطقي المبني على الحجج:
في حواره مع أبيه قدم لكل مقولة حججا، وجعل لكل مبتدأ خبرا، بشكل متسلسل وفق ترتيب متقن، فقد رتب إبراهيم عليه السلام كلمه ترتيبا منطقيا، لكل عبارة حكمة ولكل مقام مقال، فقد ابتدأ بالسؤال مستنكرا على أبيه صنيعه،” يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنكَ شَيْئًا”[3]، والأصل في العبادة أن يتوجه بها الإنسان إلى من هو أعلى من الإنسان وأعلم وأقوى. وأن يرفعها إلى مقام أسمى من مقام الإنسان وأسنى. فكيف يتوجه بها إذن إلى ما هو دون الإنسان، بل إلى ما هو في مرتبة أدنى من مرتبة الحيوان، لا يسمع ولا يبصر ولا يملك ضرا ولا نفعا. إذ كان أبوه وقومه يعبدون الأصنام كما هو حال قريش الذين يواجههم الإسلام[4]، ثم أخبره أنه مبعوث وأن ما يقوله موحى إليه، ” يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءنِي مِنَ مِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا” فهذا ليس طاعة للولد وإنما اتباعا للهدى الذي جاء به من رب العالمين.
3.الحرص الشديد على نجاة الأب:
كان إبراهيم عليه السلام حريصا على أبيه أشد الحرص، فهو يخاف أن يغويه الشيطان وأن يمسه عذاب النار، فدعاه إلى توحيد الله عز وجل وترك عبادة الأصنام التي لا تنفع ولا تضر، وأن ذلك سبيل الشيطان المفضي إلى عذاب الله، لكن الأب تشبت برأيه ودعاه إلى مفارقته والاعتزال عنه، وهو قرار “قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ ۖ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي ۖ إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا”[5] أخذ إبراهيم عليه السلام على نفسه الاستغفار لأبيه، برا بوالده رغم كفره وعصيانه له،
4.الثبات على الحق:
من خلال القصة القرآنية يتبين أن الأب له مكانة عظيمة، ذلك أنه سبب وجود الابن، فهو من رعاه لما كان صغيرا وغرس فيه أول مبادئ الحياة وكيف يتحدى الصعوبات ويواجهها، وفي المقابل نجد أن الابن له شخصية قوية، دافع عن رأيه ولم تزعزعه أنفة الأب وتجبره ولم يتنازل عن قراره لمجرد أن الأب عارضه، فقد حمل موقفه واعتزل قومه بعدما أنهى مهمة التبليغ التي أمره الله بها، فصار مثلا يضرب في الصبر على الحق.
[1] سيد قطب، في ظلال القرآن، ج 4 ص 2310.
[2] التفسير الكبير المسمى البحر المحيط، أبو حيان الأندلسي، ج6 ص192.
[3] سورة مريم، الآية 42.
[4] سيد قطب، في ظلال القرآن، ج 4 ص 2310.
[5] سورة مريم، الآية 47.