الاستقامة على طريق الحق (تحقيق مخطوط ينشر لأول مرة)
د. عبد العظيم صغيري
“الاستقامة على طريق الحق” موضوع أشبعه علماء الإسلام بحثا وتدقيقا، وقد خلدت لنا كتبهم شهادات ناطقة تبرز مدى الفهم العميق والخبرة الواسعة التي اكتسبوها وهم يروضون أنفسهم ويأطرونها على الحق أطرا، فانقادت خواطرهم للحق، وقويت إرادتهم فأثلوا المجد، وصنعوا التاريخ.
لذلك سعت أسرة تحرير مجلة “منار الهدى” إلى إحياء بعض المخطوطات القيمة التي تساهم في تربية أجيال الصحوة الإسلامية، وتوجيه سيرها التربوي، الوجهة الصائبة.
نقدم للقراء الكرام في هذا العدد وصية مشفق ناصح، خطها بعبارة واضحة بليغة، وبيان فصيح، الشيخ محمد بن عباد النفري[2]رحمه الله:
الحمد لله وحده، من أراد الاستقامة على سبيل الحق في دينه، والتحصن من عدوه، والتخلص من وساوس النفوس وضيقها وتقلبها، والحصول على شرح الصدر، فليصحح مقام الأدب مع الله تعالى ظاهرا وباطنا في جميع أحواله، فذلك هو الشكر الموجب للمزيد.
ويبني ذلك على أصلين: معرفته بعظمة ربه وكبريائه، واتصافه بالصفات العليا والنعوت القدسية، وعلمه بخسة نفسه، وضَعَتِها[3] وعيوبها وآفاتها.
فإذا أحاط علما بهذين الأصلين نظر إلى نفسه، وإلى ما أجرى الحق تعالى عليه، من الأفعال والأقوال، وما صرفه فيه من الأحوال، فسيرى حينئذ من لطف الحق تعالى عليه، ورحمته وعنايته وفضله، ما لا مطمح لأحد في إدراكه وفهمه، فيوجب له ذلك محبة وحياء، يحملانه على الشكر للحق تعالى بشهود النعم منه، وحسن الأدب معه.
فإذا رأى نفسه على طاعة، فرح بمنة ربه عليه بها، من غير استحقاق ولا وسيلة، وكم من شخص لم يعطها، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في تحسينها، ونفي الآفات عنها، وإخلاصه فيها لربه عز وجل، فيكون حينئذ بهذه الرؤية والأدب، أفضل ممن استغرق أوقاته في الطاعات، وأنواع العبادات، مع فقدان ذلك[4].
وكذلك إن رأى نفسه بحال نعمة من صحة بدن، أو نيل رزق وإن قل، فليفرح بذلك، وليشكر ربه عليه لعلمه أنه لا يستأهل ذلك[5] ولا يليق به، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في الاستعانة بهما على طاعة ربه عز وجل، ولا يستعملها في معصية، فكم من شخص مبتلى بمرض أو فقر، يتمنى ذلك ولا يجده.
وكذلك إن ابتلي بفقر، أو أصيب بمرض أو مصيبة من مصائب الدنيا، فليفرح بذلك، لأنه سلك به مسلك الأولياء والصالحين، وليفرح بمنة ربه عز وجل أن لم تكن أكثر من ذلك[6] كما ابتلي به طوائف من الناس، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في الصبر والرضى، ونفي الجزع والشكوى، والدعاء إلى الله تعالى في سعة الرزق وكشف الضر، وسؤال العافية في الدين والدنيا والآخرة، وإن أمكنه التسبب لاكتساب ما يغنيه… فليفعل ذلك، وهو من حسن الأدب، وليشكر الله تعالى على تمكينه من ذلك، وإذنه له فيه.
وكذلك إن ابتلي بذنب أو غفلة أو سوء أدب، فلا يغفل عن اللطف وخفي المنة بذلك فقد يكون ذلك سببا لخوفه، ونفي عجبه والتجائه إلى ربه، كما ورد في الخبر في قوله: “لو لم تذنبوا لخشيت عليكم ما هو أشد من ذلك العجب العجب”[7]، وكم من شخص مرتكب للكبائر، مستحل لها، فرح بها.
وليستعمل حينئذ حسن الأدب في المبادرة إلى التوبة وتذكر الخوف وكثرة الاستغفار والدعاء والبكاء.
كذلك إن كان على مذهب إمام من أئمة الدين، مجمع على إمامته، وهو يجد في الحال من يأخذ عنه ممن تفقه فيه من أهل الدين، وقد أخذه عن شيوخه، وشيوخه عن شيوخهم، إلى أن ينتهي ذلك إلى الإمام، فليفرح بذلك، وليشكر الله عليه، وكم من شخص قد قلد مبتدعا، أو ابتدع هو من تلقاء نفسه فهلك بذلك، وليستعمل حينئذ حسن الأدب معه في توقيره واتباعه… إلا إن رأى في مذاهب غيره من الأئمة المجمع على إمامتهم ما يقتضي احتياطا إن قوي عليه، أو يقتضي رخصة إن احتاج إليها، فيفعله، ولا يسقط ذلك عن درجة الأدب.
وكذلك إن ظفر بشيخ من شيوخ الصوفية سالك سبيل السنة فليفرح بذلك[8] وليشكر الله عليه، وكم من شخص لعبت به أيدي الضالين والمبتدعين، فهلك بذلك…
وكذلك إن كان له صاحب أو أخ يسلم معه دينه، ويجد معه مرافق في دنياه، ويدخل في هذا: الزوج والزوجة، وليفرح بذلك، وليشكر الله عليه، وكم من شخص مبتلى بصاحب يخسر معه دينه ودنياه، ولا يجد فكاكا عنه، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في القيام بحق صحبته والوفاء بعقد أخوته…
وليستعمل حينئذ حسن الأدب في نصح المسلمين… وترك الغل، واجتناب جميع مناهي الشرع التي يتعرض لها بسبب ذلك.
وإن كان في عمل من أعمال البر كتعليم القرآن أو غيره، فليحتسب مع ذلك ثوابه وليترفق في تعليمه ما أمكن، ولا يجف على متعلم، ولا يظلمه، وليراقب ربه في ذلك.
وكذلك إن سمع بمثل هذه النصيحة أو رآها مكتوبة فليشكر ربه على ذلك، وليفرح بها، وكم من شخص مصحوب بالغفلة والسهو، أو مستنصح، ولا يجد ناصحا، وليستعمل حينئذ حسن الأدب في امتثالها، والوقوف على حدودها وبذلها لأهلها.
وملاك ذلك: صدق الافتقار إلى الله تعالى، والضراعة إليه في أن يوفقه لذلك ويعينه عليه، فمن أعطي ذلك فليفرح، وليشكر الله تعالى عليه، فكم من شخص مبتلى برؤية نفسه واعتماده على عقله وحيلته.
وليستعمل حينئذ حسن الأدب في اتهام نفسه في تصحيح الافتقار والضراعة اللذين ذكرناهما.
والذي ذكرناه من أوله إلى آخره داخل في معنى ما ورد به الخبر الصحيح من قوله صلى الله عليه وسلم: “انظروا إلى من هو أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم فإنه أجدر ألا تزدروا نعمة الله عليكم”[9].
وبالله التوفيق، لا رب غيره، ولا معبود سواه.
مراجع التحقيق:
- فتح الباري شرح صحيح البخاري
- صحيح مسلم بشرح النووي
- مسند الإمام أحمد
- سنن الترمذي
- سنن ابن ماجة
- مختار الصحاح للرازي
- “المعجم العربي الأساسي”، المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم (ألسكو 1989)
- “اقتفاء الأثر بعد ذهاب أهل الأثر” ـ فهرس أبي سالم العياشي ـ تحقيق ودراسة: نفيسة الذهبي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. سلسلة رسائل وأطروحات رقم 33
- “الرسائل الصغرى”، لمحمد بن عباد، مخطوط بالزاوية الحمزاوية، بدون رقم ولا تاريخ
- “التوصية والنصيحة”، لمحمد بن عباد، مخطوط بالزاوية الحمزاوية، بدون رقم ولا تاريخ
- “رسائل إلى إبراهيم الشاطبي”، لمحمد بن عباد، مخطوط بالزاوية الحمزاوية، بدون رقم ولا تاريخ
- “طريق سلوك الصوفية”، لمحمد بن عباد، مخطوط بالزاوية الحمزاوية، بدون رقم ولا تاريخ
- “مكتبة الزاوية الحمزية، صفحة من تاريخها”، للدكتور: محمد المنوني
- سير أعلام النبلاء للحافظ الذهبي
- “طبقات الحنابلة”، لمحمد بن أبي يعلى أبو الحسين. دار المعرفة، تحقيق: محمد حامد الفقيه
- “المدينة المنورة في رحلة العياشي”، دراسة وتحقيق: محمد أمحزون، دار الأرقم بالكويت، الطبعة الأولى: 1408هـ/1988م.
[1]ـ عثرت على هذه الرسالة التي تنشر لأول مرة، ضمن مخطوط بالزاوية الحمزاوية (قرب مدينة الريش بالراشدية)، وهو عبارة عن مجموع كبير، مقياس (17×24) مكتوب بخط مغربي مقروء، وحالته جيدة، لكنه بدون رقم ولا تاريخ، لم أجد له إشارة في الفهرسة الوحيدة للخزانة الحمزية للدكتور محمد المنوني رحمه الله، ولا في الفهارس الخاصة لورثة أبي سالم العياشي رحمه الله (ت: 1090هـ/1679م).
[2]ـ هو محمد بن إبراهيم بن عبد الله بن مالك بن إبراهيم بن محمد بن عباد النفري الرندي، المشهور بابن عباد، نزيل فاس، والمتوفي بها سنة (796هـ / 1390م). وهو غير محمد بن عباد المكي، المحدث المعروف، والذي يكثر ورود اسمه في كتب التراجم (انظر مثلا: سير أعلام النبلاء: 19/523 وطبقات الحنابلة: 1/62).
[3]ـ أي كونها وضيعة، غير ذات قيمة: (وضُع) الرجل بالضم (يوضعُ) (ضعة) بفتح الضاد وكسرها. و(الوضيعُ) الدنيء من الناس.
[4]ـ أي فقدان حسن الأدب والإخلاص في العبادة.
[5]ـ استأهل الشيء استئهالا أي: استحقه.
[6]ـ إذ عصمه من المصائب التي تضيع عليه دينه وآخرته، يقول المؤلف موضحا ذلك في رسالة أخرى: (واعلم أن ما أصابك في هذه الدار من صنوف المحن، وأنواع الهم والحزن طرقات (جمع جمع طريق) إلى جزيل الفوائد، ووسائل إلى رفيع المقاصد، لا يعرف قدرها إلا أهل الهمم العالية والقلوب الطاهرة الزكية (انظر: التوصية والنصيحة ص: 14 وما بعدها).
[7]ـ لم أقف على هذا الحديث بهذه الصيغة، لكن ورد في كتب السنة ما يعضده ويقوي معناه: “والذي نفسي بيده لو لم تذنبوا لذهب الله بكم ولجاء بقوم يذنبون فيستغفرون الله فيغفر لهم” أخرجه الإمام مسلم في كتاب التوبة 4936، والإمام أحمد في مسنده 7736/7700 وأخرجه الترمذي بصيغة أخرى في صفة الجنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم 2339.
[8]ـ يقول رحمه الله في نبرة مليئة بالأسى والغيرة على واقع زمانه: “والظاهر أن شيخ التربية في هذه الأزمنة متعذر وجوده أعز من الكبريت الأحمر، وكذلك شيخ التعليم، لأن كثيرا ممن يشار إليه ويعتمد عليه من المنتسبين إلى هذا الطريق لم يتصور معنى التصوف ولم يعثر له على حقيقة، فضلا عما وراء ذلك، ولا أدري أي المصيبتين أعظم، فقد الشيخ المتحقق، أو عدم التلميذ الصادق، فإنا لله وإنا إليه راجعون.” مخطوط “سلوك طريق الصوفية” ص: 3.
[9]ـ أخرجه الإمام مسلم في صحيحه: 5264 والترمذي في جامعه بهذا اللفظ 2437 في كتاب صفة القيامة والرقائق والورع، وابن ماجة في سننه 4132 في كتاب الزهد. والإمام أحمد في مسنده 7137.