عجائب القرآن بين التدبر وأسباب النزول
عجائب القرآن بين التدبر وأسباب النزول/ الأستاذ رشيد بغدادي
عجائب القرآن بين التدبر وأسباب النزول
الأستاذ رشيد بغدادي
قال إبراهيم بن أدهم: لقيت عابدا من العباد قيل إنه لا ينام بالليل،فسألته:” لما لا تنام ؟ فقال منعتني عجائب القرآن أن أنام “. عجائب القرآن تمنع عابدا من النوم!، ما السر في ذلك ؟
حكي عن الصحابة رضوان الله عليهم أنهم كانوا رهبانا بالليل، كانوا لا يجاوزون أقل من خمس آيات أو أكثر حتى يحفظونها ويعملون بها .
للقرآن خلق يتصف به ويتحلى به من آمن به وقدره واهتدى إليه، ومن لا يعرف في الإسلام إلا اسمه وفي القرآن إلا رسمه، تغيب عنه معانيه فلا أثر لخلق ولا معين.
إن من يتفكر في القرآن الكريم تنكشف له أسرار وعجائب تغمره بهما سعادة لا تنفك عنه ما حيي به ولازمه ورطب به لسانه في ليله ونهاره.
قراءة القرآن بدون تدبر وخشوع تفوتان على صاحبه الهدي النبوي والبركة اللازمة لآي القرآن التي نور الله بها رسوله صلى الله عليه وسلم وجعلها شريعة يتحاكم إليها المسلمون.
فكيف نرتقي بالقرآن الكريم ونرقى به في زمن هجر فيه القرآن و اختلف هو السلطان واتُبعت الأهواء، فنُسِّيت ونُسِيت آياته وغُيّبت أحكامه؟.
القرآن تدبر
يأتي التدبر في القرآن الكريم صريحا كما في قوله تعالى (أَفَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جَاءَهُم مَّا لَمْ يَأْتِ آبَاءَهُمُ الْأَوَّلِينَ) سورة المؤمنون الآية68. ونحو (أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِندِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا)سورة النساء الآية82 ويجيء التدبر بألفاظ أخرى قريبة نحو (كلوا وارعوا أنعامكم إن في ذلك لآيات لأولي النهى) طه 54. وقوله تعالى (وتلك الأمثال نضربها للناس لعلهم يتفكرون) سورة الحشر – الآية 21
التدبر هو الفهم لما يتلى من القرآن مع حضور القلب وخشوع الجوارح للعمل بمقتضاه.(1)
يقول الجرجاني: التدبر قريب من التفكر.(2) “أما التأمل في القرآن فهو تحديق ناظر القلب إلى معانيه وجمع الفكر على تدبره وتعقله وهو المقصود بإنزاله لا مجرد تلاوته بلا فهم ولا تدبر. قال تعالى (كتاب أنزلناه إليك مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب).(3) سورة ص 29 .
التدبّر مشتقّ من الدُّبر، أي الظَّهر، فقالوا تدبّر إذا نظر في دبر الأمر، أي في غائبه أو في عاقبته، فهو من الأفعال التي اشتقّت من الأسماء الجامدة. والتدبّر يتعدّى إلى المتأمَّل فيه بنفسه، يقال تدبّر الأمر. فمعنى { يتدبَّرون القرآن } يتأمّلون دلالته، وذلك يحتمل معنيين أحدهما أن يتأمّلوا دلالة تفاصيل آياته على مقاصده التي أرشد إليها المسلمين، أي تدبّر تفاصيله. وثانيهما أن يتأمّلوا دلالة جمل القرآن ببلاغته على أنّه من عند الله.
أثبت القرآن الكريم الفهم والتعقل للقلب بدل العقل الآلة ، يقول تعالى (أفلم يسيروا في الأرض فتكون لهم قلوب يعقلون بها) سورة الحج 45 ونحو(لهم قلوب لا يفقهون بها) سورة الاعراف179. يقول الأستاذ عبد السلام ياسين:“الفقه في القرآن ينشأ في باطن الإنسان في قلبه …وكمال العقل الآلة أن يخدم القلب وتطلعاته. (5) لذلك نجد أثر السلوك إلى الله تعالى إنما يحصل بعدالإيمان وليس قبله والانتفاع بتدبر القرآن لا يكون مع كدر القلب ولكن مع صفائه.
عن أبي ذر رضي الله عنه قال:” صلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة فقرأ بآية حتى أصبح”.(6) رواه الترمذي وعن عبد الله بن شداد قال سمعت نشيج عمر بن الخطاب وأنا في آخر الصفوف في صلاة الصبح يقرأ في سورة يوسف (إنما أشكو بثي وحزني إلى الله) (7) ، وعن مقاتل بن حيان قال:صليت وراء عمر بن عبد العزيز فقرأ “وقفوهم إنهم مسؤولون” فجعل يكررها وما يستطيع أن يجاوزها . قالت فاطمة :“يا ليت كان بيننا وبين الخلافة بعد المشرقين، فوالله ما رأينا سرورا منذ دخلنا فيها(8) قال عمرو بن مرة: ما مررت بآية في كتاب الله لا أعرفها إلا أحزنتني،لأني سمعت الله يقول :“وتلك الأمثال نضربها للناس وما يعقلها إلا العالمون) سورة العنكبوت – الآية 43 .(9)
فقه ميسر
أنزل الله تعالى القرآن ويسره وبينه على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم (ولقد يسرنا القرآن للذكر فهل من مذكر)سورة القمر الآية 22، قال ابن كثير في تفسيره: يسرنا لفظه ويسرنا معناه. فقد أثّل علماؤنا فقها ميسرا وتفاسير مستفيضة بفضل هذا التيسير الإلاهي، وأغنوا المكتبات الإسلامية بتراث زاخر واستنبطوا الأحكام من الشرع الحنيف وذللوا الآيات لمن أراد أن يذكر أو أراد شكورا ، ولا حجة لمن يتعلل بصعوبة ألفاظ القرآن أو معانيه أو قال إنما أنزل في زمن الرسول صلى الله عليه وسلم أوقال إنما هو خاص بطائفة من قبلنا وأحوالهم. القرآن رسالة للعالمين صالح لكل مكان ولا يختص بزمان دون آخر. فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب. ونصوصه خالدة إلى يوم القيامة، وخير الناس من تعلم القرآن وعلمه .
أسباب النزول بين الأمس و اليوم
قال ابن عباس:” القرآن ذو شجون وفنون لا تنقضي عجائبه ولا تبلغ غاياته”(10).
إن الوقائع التي كانت سبب نزول بعض السور و الآيات، تجعل للقران متعة ولتوصياته عبرة .
وقد اعتمد عليها المفسرون في استجلاء ما استشكل في فهم بعض النصوص. و” لا يمكن تفسير الآية دون الوقوف على قصتها وبيان نزولها .إنها تيسر حفظ القرآن وتثبت معناه،لأن ربط الأحكام بالحوادث والأشخاص والأزمنة والأمكنة ،سيساعد على استقرار المعلومة وتركيزها”.(11).
عن إبراهيم التيمي قال:خلا عمر ذات يوم، فجعل يحدث نفسه: كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد؟،فأرسل إلى ابن عباس فقال :كيف تختلف هذه الأمة ونبيها واحد، وقبلتها واحدة ؟ فقال ابن عباس: يا أمير المؤمنين إنا أنزل علينا القرآن فقرأناه ،وعلمنا فيم نزل وإنه سيكون بعدنا أقوام يقرؤون القرآن ولا يدرون فيم نزل ،فيكون لهم فيه رأي فإذا كان لهم فيه رأي اختلفوا ،فإذا اختلفوا اقتتلوا .فعرف عمر قوله وأعجبه.(12)
نبه ابن عباس إلى تدبر القرآن وإلى أهمية علم أسباب النزول حتى لا يكون للمؤمن رأي في القرآن غير الحكم الذي أنزل فيه. كما أن الصحابة رضوان الله عليهم كانوا يعلمون بالفترة التي يقدم فيها الرأي بين يدي الله ورسوله وهي فترة الاختلاف والاقتتال ،الفترة التي سماها رسول الله صلى الله عليه وسلم “الخير الذي فيه دخن” وفترة “الحكم الجبري” التي يفترق فيها القرآن والسلطان .
أخرج ابن جرير عن زيد بن أسلم قصة شاس بن قيس اليهودي لما غاضه تآلف الأوس والخزرج في الإسلام، فأراد أن يوقع ويفرق بينهما بذكر اقتتالهما يوم بعاث اليوم الذي كان يسل فيه السيف لغير الله بين القبيلتين في الجاهلية. فتنازع القوم وهموا إلى أسلحتهم لولا أن تداركهم رسول الله صلى الله عيه وسلم وذكرهم ما كانوا عليهم قبل الإسلام وبعده، فأنزل الله” ( يٰأَيُّهَاٱلَّذِينَ آمَنُوۤاْ إِن تُطِيعُواْ فَرِيقاً مِّنَ ٱلَّذِينَ أُوتُواْ ٱلْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنْتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ ٱللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ وَمَن يَعْتَصِم بِٱللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ )(13) آل عمران 100-101.
وهذا ما فعله الاستعمار الغربي الوحشي في الأوطان الإسلامية والعربية من غزو ثقافتها وتفريق شعوبها وإضعافها، لم تستطع لحد الآن بعد مرور زهاء سبعين سنة من تخطي الآثار السلبية لتلك الحقبة السوداء من تاريخ الأمة، فتدور مع كتاب ربها حيث دار وتجتمع عليه لترسم لنفسها مسارا يقطع مع الثقافة الدخيلة وما خلفه من ظلم وفساد ونهب للثروات.
ندم الأوس والخزرج على ما كان بينهما من نزاع ورجعوا عن ذلك وانصاعوا لأوامر رسول الله صلى الله عليه وسلم وسرعان ما انتبهوا لمكائد اليهود الذين أوقعوهم فيها.فما العمل وكتاب الله اليوم بيننا نتلوه بكرة وعشيا ولا يسعنا ما وسعهم ؟ هذا جزاء هجران كلام الله بلا تدبر و لا عمل.
التأليف من عند الله، قال تعالى (ولكن الله ألف بينهم) ، فلو اجتمعت الإرادات وعرفت نعم الله عليها سهل الاجتماع والتوفيق، فجذوة الإيمان راسخة في قلب كل مسلم. فالمشترك بين أبناء وبنات البلد الواحد أكثر من أن يحصى والرغبة في نشدان الوحدة والتغيير واحترام مقومات الأمة الفكرية والحضارية لتتبوأ الصدارة بين الأمم ممكن جدا .
روى البخاري ومسلم في صحيحهما من رواية ابن عباس رضي الله عنهما طواف الشياطين في مشارق الأرض ومغاربها لما حيل بينهم وبين خبر السماء ، فسمعوا تلاوة رسول الله صلى الله عامدا إلى سوق عكاظ يصلي الفجر بأصحابه، فأنزل الله تعالى سورة الجن (14) وقالوا:“إنا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد.” قال الطاهر بن عاشور” ووصف القرآن بالعجب وصف بالمصدر للمبالغة في قوة المعنى،أي يعجب منه، ومعنى ذلك أنه بديع فائق في مفاده.(15)
عن جابر بن عبد الله، قرأ علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم سورة الرحمان حتى ختمها، ثم قال :مالي أراكم سكوتا، للجن كانوا أحسن منكم ردا ،ما قرأتُ عليهم هذه الآية من مرة “فبأي آلاء ربكما تكذبان” إلا قالوا :ولا بشيء من نعمك ربنا نكذب فلك الحمد . رواه الترمذي والبيهقي في شعب الإيمان وفي دلائل النبوة.
يتعجب المرء من سرعة البديهة عند الجن وبمجرد سماعهم للقرآن الكريم في ساعة لم يشعر بهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قالوا (وإنا لما سمعنا الهدى آمنا به) رجعوا إلى قومهم ينذرونهم ويدعونهم لما سمعوه من هدي .
كان رجال من المسلمين يواصلون رجالا من يهود ويقيمون معهم صلات وعلاقات ،فأنزل الله فيهم ينهاهم عن مباطنتهم تخوف الفتنة عليهم ” يٰأَيُّهَا ٱلَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ بِطَانَةً مِّن دُونِكُمْ لاَ يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّواْ مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ ٱلْبَغْضَآءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآيَاتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ” آل عمران – الآية 118 (16)
دلت الآية على تحريم اتخاذ أولياء وخواص من غير المؤمنين خوف الفتنة والخبال اللذان يأتيان من قبل من يوالونهم . وما فلسطين الحبيبة عنا ببعيدة . عدو استباح أراضيها المقدسة واعتدى و فتك وحاصر وشرد أهلها، فكيف لنا أن نواليهم ونطبع معهم ؟ إنها الحماقة والخيانة، ومفارقة عجيبة بين من والى جيوش صلاح الدين الأيوبي ضد الصليبيين لتحرير القدس، وبين من يوالي اليهود ضد المسلمين لاحتلالها .
تطاول وجناية
تكررت الإساءة إلى نبي الرحمة فيما سمي بالرسوم المسيئة لرسول الله صلى الله عليه وسلم ومس مقدسات المسلمين جهارا نهارا تعدت إلى حرق المصحف الكريم في شوارع أوروبا وأمريكا .وينم هذا الفعل الشنيع عن جهل فضيع وسفاهة عقل .إن هذا العمل الاستفزازي و نشر ثقافة الإقصاء يرقيان إلى جرائم الإرهاب الفكري و الكراهية البغيضة. وسيؤدي حتما هذا التوجه إلى التباعد بين الشعوب وإلى أفق مظلم مجهول ، وتناقض صارخ في دعوى التعايش السلمي وحقوق المعتقد والحريات الجماعية.
نقل الطحاوي إجماع المسلمين على حرية أهل الذمة مما يَحل في دينهم.(17). لقد ضربت الأندلس ومصر وفلسطين تعايش مختلف الملل في كنف دولة الاسلام ويشهد على ذلك مؤرخوهم ومؤلفاتهم .
إن مشكلة الغرب اليوم هي أنهم لا ينتفعون مما في أناجيلهم وتوراتهم بشيء، جعلوها معلقة في كنائسهم ودور عبادتهم.قال الله تعالى : “ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني” سورة البقرة – الآية 78 أي لا يعلمون الكتاب إلا كلمات يحفظونها ويدرسونها ولا يفقهون منها معنى.إن الغرب صنع لنفسه دولة لائكية، أله قوانينها ورضيَها لنفسه ، وفرضها على غيره.
إن كتاب الله نور لا تعرفه القلوب الصدئة ونور الله لا ينطفئ بالتجني عليه (قل هو للذين آمنوا هدى وشفاء والذين لا يومنون في آذانهم وقر وهو عليهم عمى أولئك ينادون من مكان بعيد) سورة فصلت – الآية 44 .
إن إهانة القيم المقدسة لا يمكن الدفاع عنها بحال من الأحوال ولو كانت تحت ستار الحقوق والديموقراطية .
إن فضل القرآن على الأمة كبير ولولا كدر القلوب ما شبعت النفوس منه. ولو تحاكمنا إليه لشاع في الأمة العدل و لذهبت الأحقاد والضغائن وتصالحت وتصافت عليه الجماعات وتوحدت عليه الهمم والأمم . كتاب أراده الله تعالى عزة وتشريفا للأمة في الدنيا والآخرة . فبه تنال الأمة رضا ربها و به تنبعث من جديد وبه تعزز مكانتها في دنيا الناس .
1-كيف نتبدر القرآن ص12
2-التعريفات للجرجاني ص 54
3-مدارج السالكين149
4-التحريروالتنوير
5-محنة العقل المسلم ص8
6-رواه الترمذي
7-كتاب غرر البيان من سورة يوسف -عليه السلام- في القرآن ص161
8-البداية والنهاية . فصل ( مناقب عمر بن عبد العزيز ) ص: 686
9-الإتقان 2/175
10-كتاب مناهل العرفان في علوم القرآن ص80
11-أسباب النزول.الواحدي، ص6
12-العجاب في بيان الأسباب ص98
13-أسباب النزول للسيوطي.
14-أسباب النزول للسيوطي.
15-التحرير والتنوير
16-أسباب النزول للسيوطي
17-كتاب التعايش مع غير المسلمين في المجتمع المسلم ص21