نموذج تطبيقي لمصطلح الشاذ عند المحدثين
بقلم: الأستاذ جمال أيت بوجمعة
أستاذ مادة التربية الإسلامية المديرية الإقليمية بني ملال المغرب.
الحمد لله وحده والصلاة والسلام على سيدنا محمد وآله وصحبه أجمعين.
وبعد:
فهذا مقال يقارب مصطلحا من المصطلحات المتداولة عند المحدثين؛ أعني به مصطلح الشاذ، ذلك المصطلح الذي يندرج ضمن الشروط العدمية لقبول الروايات والآثار، لأن الناظر في شروط قبولها وردها سيخلص إلى هذا، ويهتدي إليه بإمعان النظر ودقة الملاحظة.
والدراسة النظرية التي اعتمدها المحدثون في التمييز بين المفاهيم والمصطلحات التي تميز مفهوما عن آخر تقتضي البحث والتنقيب عن الأمثلة لما يذكرونه، لأنها نتاج النظر في الأحاديث النبوية والآثار، ويكون ذلك بالرجوع إلى كتب التراجم والطبقات وشروح الحديث لمعرفة الرواة ورواياتهم ومراتبهم.
وقد شاع في سنين خلت؛ الجدل في جملة من الجزئيات الفقهية بناء على نصوص استند إليها بعض من لم يحقق آليات الفهم والتنزيل، واستنباط الأحكام من النصوص الجزئية، وهذا منهج له أثر سلبي على الأفراد والمجتمعات.
ومما يستنكره البعض في هذا الباب عقد التسبيح باليدين معا دبر الصلوات المفروضة وغيرها، معتبرين ذلك بدعة وفعلا مباينا للهدي النبوي، وسلوكا محدثا في الدين، وشططا في القول، وهدما لتعاليم الإسلام بالزيادة فيها.
والآثار السلبية التي ظهرت في الساحة مرجعها في الغالب إلى عدم إعمال النظر، وتوظيف أدوات الاشتغال الحقة، وغلبة الحظوظ والهوس، والعزوف عن علوم الآلة التي تمكن الناظر من الفهم وتربية الملكة الحديثية والأصولية والفقهية.
وهذا المقال يروم تقريب حديث من الأحاديث التي تعتبر نموذجا من بين النصوص التي بنيت عليها أحكام فقهية لا يزال البعض إلى يومنا هذا يجادل فيها، ويصف رأي المخالف فيها بأشنع الأوصاف وأقبح النعوت، الشيء الذي يعارض ما دلت عليه النصوص الصحيحة الصريحة في باب الاختلاف المحمود.
بين يدي نص الحديث:
لن أعرج على تحديد مفهوم الشاذ بالدراسة والتحليل، واستعراض التعاريف وعزوها لأصحابها، ولن أخوض في تحديد القيود والمحترزات، لكن حسبي ذكر تعريف الحافظ الذهبي ـ رحمه الله ـ لأنه فيما يبدو أسلم من النقد، وأوضح في عدم وجود التداخل بين المصطلحات الحديثية، كما أنه اختيار جملة من الأئمة الأعلام، منهم الإمام الشافعي والحافظ ابن حجر وزين الدين العراقي والسخاوي وغيرهم. قال الإمام الذهبي:” الشاذ هو ما خالف راويه الثقات”([1]). يفهم من هذا التعريف أن الشذوذ ناتج عن الاختلاف في رواية الحديث، إما بالزيادة أو النقصان، ذلك أن الحديث الذي اتحد مخرجه ينفرد أحد رواته بزيادة لفظة في متنه، أو راو في سنده دون أن يشاركه في تلك الزيادة بقية الرواة الذين شاركوه رواية الحديث عن شيخ معين.
نص الحديث:
من الأمثلة التي ينسحب عليها الوصف السابق ـ أعني الشذوذ ـ؛ وبالضبط أحد قسميه وهو الشذوذ في المتن؛ ما رواه محمد بن قدامة عن عثمان عن الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص- رضي الله عنهما ـ قال:” رأيت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعقد التسبيح، قال ابن قدامة([2]): “بيمينه“([3]).
واللفظة الشاذة في متن هذا الحديث هي “بيمينه”، وهي محل الجدل وإلقاء التهم، ومربط الفرس كما يقال، تفرد بها محمد بن قدامة وهو الشيخ الثاني للإمام أبي داود.
قال الشيخ خليل أحمد السهارنفوري:” وقد زاد هذا اللفظ ـ يعني بيمينه ـ ابن قدامة ولم يذكره عبد الله”[4]. يقصد بعبد الله، عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ ، لأن الحديث غريب مطلق أو فرد مطلق، حصلت له الغرابة في أصل السند.
قال الدكتور بكر أبو زيد – رحمه الله- مبينا ذلك:” وهذا الحديث من حيث سنده فرد في أوله، تفرد به عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ، وعن عبد الله تفرد به السائب بن زيد أو ابن مالك، وعن السائب تفرد به عنه ابنه عطاء بن السائب، ثم اشتهر بعد ذلك، حيث رواه عن عطاء جماعة، منهم: شعبة وسفيان الثوري، وحماد بن زيد، وأبو خيثمة وزهير بن حرب وإسماعيل بن علية والأعمش.
وهؤلاء جبال في الرواية والحفظ والإتقان والعلم، وكلهم يقولون بيده، لا يختلفون البتة، فليس فيهم واحد يقول:” بيمينه”([5]).
لقد كشف الدكتور بكر أبو زيد ـ رحمه الله- في كلامه الستار عن سند الحديث ورجاله وخلص إلى أنه فرد مطلق، وهذا الكشف إلزامي لصدق دعوى الشذوذ، لأنه لا يصح إطلاق وصف الشذوذ على مطلق المخالفة، وإنما يصح ذلك إذا كان مخرج الحديث متحدا، أي كونه فردا مطلقا، ثم يصبح الحديث بعد ذلك مشهورا في طبقة من طبقات السند، فإذا خالف الراوي باقي الرواة الذين نقلوا الحديث من التفرد إلى الشهرة، وخرج عن الجماعة صح حينئذ أن يحكم على رواية المخالف بأنها رواية شاذة، ولذلك قال ـ رحمه الله- :” والاختلاف إنما حصل من طريق أحد الرواة عن عثام بن علي، عن الأعمش به، من رواية شيخ أبي داود ـ محمد بن قدامة ـ عن عثام به بلفظ “بيمينه”. ” ومحمد بن قدامة بهذا يخالف أقرانه الآخذين عن عثام، الذين رووه بمثل لفظ الجماعة أقران الأعمش: “بيده”، أو بمعناه بلفظ :” يعقد التسبيح”([6]).
والذين خالفهم محمد بن قدامة في أخذهم عن عثام هذه الرواية هم: ابنه علي بن عثام، ومحمد بن عبد الأعلى الصنعاني، والحسين بن محمد الذراع البصري، وأبو الأشعث أحمد بن المقدام العجلي البصري، وعبيد الله بن ميسرة البصري.
قال الدكتور بكر أبو زيد:” فهؤلاء خمسة من تلاميذ عثام، وهم ما بين ثقة ثبت، أو ثقة أو صدوق، ومنهم أخصهم به ابنه علي بن عثام([7])، الإمام الثقة الحافظ، كما وصفه الذهبي بذلك، كلهم به بلفظ :” يعقد التسبيح”، واختلف محمد بن عبد الأعلى وأحمد بن المقدام فقالا مثل ذلك، وفي لفظ من طريقيهما:” يعقد التسبيح بيده”.
وهذه الرواية لا تخرج عن معنى روايتهما مع الآخرين “يعقد التسبيح”، لأن العقد لا يكون إلا باليد، فهذان اللفظان خرجا مخرج الصحيح، وانفرد شيخ أبي داود محمد بن قدامة المصيصي من بين الآخذين عن عثام بلفظ “يعقد التسبيح بيمينه”، ولم يتابعه عليها أحد وليس لها شاهد”([8]).
فتكون هذه الزيادة التي انفرد بها محمد بن قدامة ولم يتابعه عليها أحد من الرواة الذين شاركوه رواية الحديث عن عثام بن علي العامري الكوفي من باب مخالفة الثقة لمن هم أوثق منه.
قلت وهذه المخالفة ليست خافية على الإمام أبي داود ـ رحمه الله ـ لأنه لما ذكر هذه الزيادة نسبها إلى قائلها، إعلاما منه بأنه انفرد بها راو من رواة الحديث، ولذلك قال:” قال محمد بن قدامة: بيمينه”.
ويضاف إلى هذا الذي قيل أنه لم يترجم على الحديث بما يفيده معناه، وهو قصر عقد التسبيح على أصابع اليد اليمنى، وهذا منهج أصحاب الكتب الحديثية، فهم لا يترجمون للأحاديث التي اختلف فيها بالمعنى الذي تدل عليه، وإنما يذكرون في الترجمة لفظا يدل على الاختلاف، وهو منهج الإمام البخاري في بعض تراجمه، مثل: “باب من قال لا نكاح إلا بولي”، قال الحافظ ابن حجر في كلامه عن هذه الترجمة:” استنبط المصنف هذا الحكم من الآيات والأحاديث التي ساقها، لكون الحديث الوارد بلفظ الترجمة على غير شرطه”([9]).
فإذا اتضح هذا الذي ذكر علم حينئذ أن هذه الزيادة ليست من صلب الحديث، وإنما سببها تفاوت درجات الرواة في الضبط والإتقان، الذي ينشأ عنه أحيانا مثل هذه المخالفة التي يحكم على رواية من تلبس بها أو خالف الجماعة بأن روايته شاذة.
والرواية المحفوظة ـ لأن الشاذ يقابله المحفوظ ـ التي رواها الجماعة في عقد التسبيح هي ما رواه محمد بن عبد الأعلى الصنعاني عن عثام بن علي عن الأعمش عن عطاء بن السائب عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ قال:” رأيت النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ يعقد التسبيح بيده”([10]).
قال الإمام الترمذي ـ رحمه الله ـ عقب ذكره لهذا الحديث:” هذا حديث حسن غريب من هذا الوجه، من حديث الأعمش عن عطاء بن السائب. وروى شعبة والثوري هذا الحديث عن عطاء بن السائب بطوله”([11]).
ورواه الإمام النسائي ـ رحمه الله ـ :” من طريق محمد بن عبد الأعلى الصنعاني والحسين بن محمد الذراع، عن عثام بن علي عن الأعمش عن عطاء بن السائب دون ذكر لفظة: “بيمينه”([12]).
هذه هي الرواية الصحيحة المحفوظة التي اتفق على روايتها بلفظها المذكور سائر الرواة الذين رووها، وخالفهم محمد بن قدامة فرواها بلفظ “بيمينه”، وانفرد به عنهم.
الخلاصة:
الأحكام الشرعية مصدرها النصوص القرآنية والنبوية، لكن درجة القرآنية قطعي لا يتطرق إليها أي احتمال من جهة الثبوت، وأما الدلالة فمحل تفصيل وبيان، وقد بسط الكلام عن ذلك في كتب الأصول، وأما الحديثية ففيها المتواتر والأحاد بأقسامه المعلومة في كتب علم مصطلح الحديث، والأخير هو محل نظر المحدثين، تصحيحا وتضعيفا، تجريحا وتعديلا، وإذا كان قول من قال:” من أسند فقد أحالك” هو العمدة في الدراسة والنظر والمقارنة والبحث وتتبع أحوال الرواة ورواياتهم فإن جملة من أرباب الصناعة الحديثية حكموا على زيادة “بيمينه” بالشذوذ لمخالفة راويها سائر الرواة الثقات، وراوية الجماعة محفوظة لاستحالة تواطئهم على الخطأ.
وأما النظر الأصولي فإن له كلاما ينطلق من عبارة “بيده”، وله ارتباط بمبحث الدلالات، ولست هنا بصدد مقاربة الموضوع من الناحية الأصولية والفقهية أيضا، وإنما بيان درجة اللفظة المدرجة في الحديث السابق، وقد ركب عليها البعض في الترويج لرأي، واعتبار قول الآخر خطأ مرفوضا.
وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وآله وصحبه، والحمد لله رب العالمين.
[1]) الموقظة في علم مصطلح الحديث للحافظ الذهبي، تحقيق عبد الفتاح أبو غدة، دار البشائر الإسلامية بيروت، الطبعة الأولى 1405هـ، ص: 42.
[2]) هو أبو عبد الله محمد بن قدامة بن أعين المصيصي ــ بكسر الميم ثم صاد مشددة مكسورة ــ مولى بني هاشم، ذكره ابن حبان في الثقات، ووثقه الدارقطني وابن حجر، وقال الترمذي لا بأس به، توفي سنة 250هـ. تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني، مؤسسة الرسالة بيروت، الطبعة الأولى 1420هـ. حرف الميم فصل “ف ، ق”، ص: 437. تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال للذهبي، دار الفاروق الحديثة القاهرة، الطبعة الأولى 1425هـ. ج 8 ص: 260.
[3]) سنن أبي داود تحقيق رضوان جامع رضوان، مكتبة أولاد الشيخ للتراث، الطبعة الأولى 1403هـ، باب التسبيح بالحصى رقم 1502، ورواه البيهقي في السنن الكبرى، دار الكتب العلمية، الطبعة الثالثة 2003م. ج 2 ص: 267، رقم 3027.
[4]) بذل المجهود في حل أبي داود لخليل أحمد السهارنفوري، دار الكتب العلمية بيروت، الطبعة (بدون)، ج 7 ص: 354.
[5]) لا جديد في أحكام الصلاة لبكر أبي زيد، دار الحرمين القاهرة الطبعة (بدون). ص: 77 , 78.
[6]) لا جديد في أحكام الصلاة لبكر أبي زيد، المرجع السابق، ص: 78.
[7] ) هو الإمام الحافظ الثقة علي بن عثام بن علي أبو الحسن العامري الكلابي الكوفي، نزل نيسابور، وثقه أبو حاتم، وقال الحاكم أديب فقيه حافظ زاهد واحد عصره، كان لا يحدث إلا بعد الجهد، وكان يقول ليس علي أن أعلم إلا من يجيئني فيهتم لأمر دينه. و قال الحافظ ابن حجر: ثقة فاضل، حج سنة 225هـ، وتوفي سنة 228هـ. تذهيب تهذيب الكمال في أسماء الرجال للذهبي، دار الفاروق الحديثة القاهرة، الطبعة الأولى 1425هـ. ج 7 ص: 26. و تقريب التهذيب لابن حجر العسقلاني، مؤسسة الرسالة بيروت الطبعة الأولى 1420هـ. ص: 342.
[8]) لا جديد في أحكام الصلاة لبكر أبي زيد، المرجع السابق، ص: 78.
[9] ) فتح الباري بشرح صحيح البخاري للحافظ ابن حجر العسقلاني، دار طيبة الرياض، الطبعة الأولى 2005م. ج 11 ص: 443.
[10]) سنن الترمذي تحقيق محمد علي ومحمد عبد الله، دار ابن الهيثم القاهرة الطبعة الأولى 2004م. باب ما جاء في عقد التسبيح باليد، رقم 3486. سنن النسائي، مكتبة المعارف الرياض، الطبعة الثانية 2008م. باب عقد التسبيح رقم 1355.
[11] ) سنن الترمذي المصدر السابق. ج 1 ص : 854.
[12] ) سنن النسائي المصدر السابق. ج 1 ص : 222.