منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

 المحاضن الأرقمية ودورها في التغيير

 المحاضن الأرقمية ودورها في التغيير/ عبد المولى الإسماعيلي

0

 المحاضن الأرقمية ودورها في التغيير

بقلم: عبد المولى الإسماعيلي

مقدمة:

 بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على نبيه المصطفى الكريم، وعلى آل البيت والصحب الكرام ومن سار من بعدهم على النهج القويم.

أما بعد

حال أمتنا كحال أهل الأرض كلهم يموج بالمنكرات والموبقات والفتن ما ظهر منها وما بطن، في الأمم السابقة استوجب هذا الوضع غضب المولى عز وجل، فأهلكهم بِذُنُوبِهِمْ وظلمهم وإسرافهم، وانتقم منهم لإجرامهم، وعاقبهم بكفرهم، ودمرهم لفسوقهم… نسأل الله العفو والصفح واللطف.

فما السبيل للخروج من هذه الظلمات الموجبة لسخط القوي الجبار سبحانه، إلى النور والهداية والرشاد، نور يزكي الأنفس ويغيرها لتمشي في القوم تغير من حالهم؟ ما السبيل ومن أين البداية؟

﴿ لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا﴾ سورة الأحزاب: 21

أسوتنا وقدوتنا كما علمنا ربنا هو الحبيب المصطفى. في هذه المقالة سنعرض حال أهل الأرض قبل الإسلام ودور المحضن التربوي (دار الأرقم بن أبي الأرقم) في إعداد جيل الخلافة الأولى، لنستحضر بعد ذلك كيف تمرد الغرب على الفطرة وانعكاس ذلك على الإنسانية جمعاء، ونختم بتقديم نموذج من زماننا الحاضر لعالمنا المفتون، هذا النموذج يحاكي المحضن الأرقمي الذي تخرج منه رجال غيروا الأنفس والتاريخ.

نبدأ على بركة الله، ونسأله سبحانه وتعالى السداد والقبول.

 حال أهل الأرض قبل البعثة النبوية:

 قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “… وإن الله نظر إلى أهل الأرض، فمَقَتهم عربهم وعَجَمهم، إلَّا بقايا من أهل الكتاب… “.

فكيف كان حال أهل الأرض قبل البعثة النبوية؟

انحرفت اليهودية في الحجاز كما انحرفت النصرانية في الشام والحبشة، وكان يسود الحكم القسري المطلق، في بلاد فارس كان الناس يعبدون النار ويؤلهون الحاكم، وكان المجتمع الفارسي مقسما إلى سبع طبقات، كانت أدناها طبقة عامة الشعب، ولم تكن لهم أية حقوق على الإطلاق. وكان أهل اليمن يعبدون النجوم والأوثان ويقدمون لها القرابين، وكان أهل مصر يقدمون الفتيات قرابين للنهر، خوفا من فيضانه وغضبه. وكان الكل يعتقد بالسحر والكهانة. كما كان الزنى منتشر بشكل كبير بينهم، ناهيك عن شرب الخمر والإسراف فيه.

و نتيجة لانتشار المنكرات ومختلف أصناف المعاصي في المجتمعات، ساءت الأخلاق، وتفشت الفاحشة، وفسدت العقيدة والشرائع، وأصبحت الحياة جحيما على العبيد والمستضعفين، لدرجة مقت الله عز وجل فيها أهل الأرض عربهم وعجمهم، إلا بقايا من أهل الكتاب، الذين لم يحرفوا ولم يبدلوا.

لكنه سبحانه، وهو الرحمان الرحيم، رغم مقته لهم، بعث من يصلح حالهم ويهديهم إلى الصراط المستقيم، أرسل نبيه المصطفى شاهدا ومبشرا ونذيرا.

محضن دار الأرقم بن أبي الأرقم التربوي ودوره في التغيير:

 بعد آيات المدثر، “يَا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ* قُمْ فَأَنذِرْ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ*“.. قام النبي الكريم يدعو إلى الله سرًا لأكثر من أربع سنوات بعد الوحي، بدأ بأهل بيته وأصدقائه وأقرب الناس إليه.

و من السابقين الأولين الذين بادروا إلى الاستجابة لدعوة النبي صلى الله عليه وسلم، فآمنوا برسالته وصدقوه، نجد فتى لم يتجاوز السادسة عشر من عمره، إنه الصحابي الجليل الأرقم بن أبي الأرقم بن أسد بن عبد الله بن عمرو القرشي المخزومي، كان سابع سبعة أسلموا، وقيل: الثاني عشر، وكان من المهاجرين الأولين..

التصق اسم هذا الصحابي الجليل بداره (دار الأرقم بن أبي الأرقم) التي تعد إحدى الدور التي كان لها دور هام في تاريخ الإسلام؛ فقد كانت المحضن التربوي الأول الذي ربى النبي صلى الله عليه وسلم فيه أصحابه، الذين حملوا معه المسؤولية الكبرى في تبليغ رسالة الإسلام، ففي هذه الدار تلقى الرعيل الأول تعاليم الدين الإسلامي؛ حيث كان صلى الله عليه وسلم يتلوعليهم آيات القرآن، ويبين لهم أحكام الإسلام، ويعرفهم أيضاً بما يجري في واقعهم ومجتمعهم، وما يحاك حولهم، كما يربي فيهم المعاني الإيمانية التي تقوي عزيمتهم، ويبين لهم أن الاستمساك بالمنهج هو الذي يؤدي إلى النصر والتمكين.(1)

كان لهذا المحضن التربوي في ظل صحبة تتلو على جماعة الصحابة آيَاتِ الله وَتزَكِّيهِمْ وَتعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ، الأثر البليغ في تزكية الأنفس وتغييرها، لينجز الله وعده بعد ذلك بتغيير ما بقومهم ليدخلوا في دين الله أفواجا. ” إِنَّ اللَّهَ لَا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ “. (2)

حال أهل الأرض اليوم:

ما أشبه اليوم بأمس الجاهلية: انتشار المنكرات في المجتمعات، سوء الأخلاق، تفشي الفواحش، محاربة الدين والتدين، استكبار الغرب، فساد الحكام…

منذ أعلنت “الحضارة الغربية” مركزية الإنسان وانفكاكه عن الوحي السماوي، شهدت على نفسها بالعجز عن الرقي الأخلاقي؛ لأن الأخلاق لا يمكن أن تبنى إلا على الدين. “إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ” (3).

أصبح الإنسان هو معيار ذاته، فقد يستحسن أحدهم ما يستشنعه الآخرون، وقد يحصل العكس، وهو ما يعبر عنه بالنسبية الأخلاقية.. أي أن الأخلاق فقدت موضوعيتها.

لك أن تتصور أن الشذوذ ـ وهو الرذيلة الأخلاقية القبيحة المفسدة للنوع الإنساني ـ لا يستطيع الإنسان الغربي الذي بقيت فيه بقية من الفطرة السليمة أن يصرح باستشناعها. في أمريكا حكم على شاب أمريكي بالسجن ستة عشر عاما لمجرد أنه قام بحرق علم الشواذ، فحكمت عليه المحكمة بالسجن خمسة عشر عاما بسبب إهانة الشواذ، وسنة واحدة بسبب تهوره في استعمال النار. (4)

في عام 2015 أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة حكما تاريخيا يقضي بمنح الشواذ حق الزواج في كافة الولايات الأمريكية (يعني يتزوج الرجل الرجل، وتتزوج المرأة المرأة).. وكان تعليق رئيس أقوى دولة في العصر الحديث في ذلك الوقت “باراك أوباما” هو أنه قال: “إن هذا الحكم انتصار لأمريكا وانتصار للحب”… تخيل!!! تخيل أن هذا التمرد على الفطرة والانحراف عن سلوك البشر الأسوياء أصبح فعلا مشروعا يحمد الانتصار له، ويمجد من ضحى من أجله. (5)

هذا النمط اللاأخلاقي يحاول الغرب فرضه في الأرض كلها بسطوة القوة، كما يحدث فيما يتعلق بالاتفاقات الدولية مثل “سيداو” المتعلقة بحرية المرأة، والتي تخالف في الكثير من نصوصها ما اتفق عليه المسلمون، وما تعارفت عليه مجتمعاتنا، فضلا عن مساع أخرى تتعلق بتقديس الحرية الفردية حتى لو تطاولت على المجتمع، مثل الموقف من عقوبة الإعدام ومن ثم العلاقات الجنسية خارج مؤسسة الزواج والشذوذ وسواها من القضايا… (6)

كل هذا وغيره يجعل أهل الأرض عربهم وعجمهم عرضة لمقت ربهم إن لم تتداركهم عنايته سبحانه بمحاضن أرقمية يربى فيها رجال على يد ورثة الأنبياء بالمنهاج الذي ربى ونظم ودعا وجاهد به الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم والصحابة الكرام من بعده.

المحاضن الأرقمية ودورها في التغيير

قال الله عز وجل: لَقَدْ أَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ كِتَاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَفَلا تَعْقِلُونَ (7).

“وهذه الآية، مصداقها ما وقع، فإن المؤمنين بالرسول، الذين تذكروا بالقرآن، من الصحابة، فمن بعدهم، حصل لهم من الرفعة والعلو الباهر، والصيت العظيم، والشرف على الملوك، ما هو أمر معلوم لكل أحد، كما أنه معلوم ما حصل، لمن لم يرفع بهذا القرآن رأسا، ولم يهتد به ويتزك به، من المقت والضعة، والتدسية، والشقاوة، فلا سبيل إلى سعادة الدنيا والآخرة إلا بالتذكر بهذا الكتاب.” (8).

ورحم الله الإمام مالكا يوم قال: ” لن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها “.

وأول هذه الأمة صلح بتزكية وتعليم للكتاب والحكمة تلقاها السابقون من الصحب الكرام في محضن الأرقم بن أبي الأرقم رضي الله عنه وأرضاه. هذا المحضن الذي رأينا كيف غير ما بالقوم بعدما غير ما بالأنفس.

و آخر هذه الأمة لن تصلحه إلا محاضن على المنهاج النبوي يؤطرها ربانيون لهم حظ من الوراثة النبوية تصحبهم جماعة من التائبين والتائبات يتلقون تربية تتزكى بها نفوسهم، وعلما تتنور به عقولهم، ودراية بالتنظيم للحركة في المجتمع دعوة وجهادا.

في هذا السياق عرض الأستاذ عبد السلام ياسين رحمه الله مشروعا مجتمعيا متكاملا في كتاب بعنوان (المنهاج النبوي تربية وتنظيما وزحفا). كتابا بين فيه كيفية بناء الجماعة بمعناها النبوي التي تتأسس عملية بنائها وحركتها على التربية الإيمانية الإحسانية التي يتلقاها رجالها ونساؤها. بعد التنظير أسس الأستاذ جماعة العدل والاحسان، جماعة أنشأت محاضن تربوية أرقمية الروح والمخرجات، نلخص خصائص هذه التربية في مقتطفات من كتابات الأستاذ ياسين رحمه الله:

ــ التوازن:

“يجب ألا تكون السمة الغالبة على جند الله زهادة بدعوى الروحانية، ولا إغراقا في الفكر ولا تقصيرا ولا إسرافا في الحركة (..) إسلام الزهادة والهروب من المجتمع، والإسلام الفكري، والحركية على حساب التقوى والعلم ثلاثة مزالق، (9)

 ــ التدرج:

يقول “التربية معالجة لمادة إنسانية، وشخصية لها ماض، وبيئة اجتماعية، واستعدادات. هذه المعالجة تريد من النقيب المربي حلما كثيرا، وصبرا ومداراة (..) وكما تتأخر الشجرة الكريمة الثمار في الإنتاج (..) نصبر على ذوي الاستعداد الطيب السنين حتى ينضجوا”. (10)

ــ المستقبلية:

“نحتاج لجماعة تواجه عقبات الحاضر لتخرق طريقها إلى العزة بالله ورسوله عبر عقبات الاضطهاد، لكن مهمتها لا تنحصر في هذا، فلابد أن تهيء المستقبل، مستقبل تحمل مسؤولية دولة (..) فلا بد إذن أن يتطلع المؤمن الذي نربيه (..) ليكون من صانعي غد أمته”. (11)

ــ الاستمرارية:

“الواجهة الأولى في الجهاد هي واجهة التربية (..) التربية أولا ووسطا وآخرا، ودائما، لا نفرغ من تقويم أنفسنا، ومتى ظننا أننا أتممنا تهذيبها فذلك نزع الغرور، وغرة بالله، وطيش في ميزان الرجولة” (12)

ــ الفاعلية:

“ليست التربية الجهادية إنشاء جيل من الأصحاب المتبتلين، بل إنشاء جند الله المقاتلين، الطالبين وجه الله، الراغبين في الشهادة في سبيله” (13)

ــ تربية على شعب الإيمان:

“جند الله لابد أن يكونوا كلهم من المومنين لا يكفي أن يكونوا مسلمين بهذا المعنى الخاص لكن سعي كل واحد منهم لاستكمال إيمانه فالترقي إلى الإحسان أمر أساسي” (14). وعن سبب ذلك يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين “حزب الله المخاطب بالقرآن في قوله تعالى “يا أيها الذين آمنوا” افعلوا أو لا تفعلوا فالمفروض أنه جماعة يتمثل فيها الإيمان الذي هو مناط التكليف بحمل الأمانة الجماعية. فلا ينتظر من جماعة مؤهلها لا يتجاوز مرتبة الإسلام أن تقدر على حمل الأمانة” (15)

خاتمة:

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق لا يضرهم من خذلهم حتى يأتي أمر الله وهم كذلك”. (16)

و هذه بشارة على أن الخير باق في أمة رسول الله إلى يوم القيامة والشاهد على ذلك وجود مجموعة من الحركات والجماعات الإسلامية الصادقة التي انبرت وتنبري إلى إرجاع الأمة إلى خيريتها (﴿ كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ﴾. (17)

لكن رغم وحدة المرجعية اختلفت هذه الجماعات والحركات في تعاملها مع المنكرات والفتن السائدة في المجتمع وفساد الأنظمة الحاكمة: منهم من دعا إلى الانعزال عن الدنيا وفتنها للتفرغ للآخرة، ولا حديث عن الجهاد والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وكأن هذا الأمر ليس من الدين. في حين استفرغ آخرون جل جهودهم في العمل على بناء الأمة، ومدافعة الخصوم والمنافحة عن الفكر الإسلامي وأمجاد المسلمين مع اغفال جانب التربية والتزكية.

لكن التغيير الأنفسي والآفاقي لن يتأتى إلا عبر محاضن أرقمية تزاوج بين الأمرين بين ( الخلاص الفردي ) و( الخلاص الجماعي ).

إن التزكية والإعداد الروحي يجب أن يكون أساسا لما بعده؛ من الانطلاق نحو المجتمع ودعوة الخلق إلى الله عز ّوجل، وقد كان هذا شأن الأنبياء صلوات الله عليهم وديدن العلماء والعارفين. لقد اقتنع الأستاذ ياسين أن اجتهاد الصوفية في التربية فرع وأن التربية النبوية هي الأصل، فعمد إلى ردّ الفرع إلى الأصل، وسعى إلى تأسيس جماعة جعل لها ” العدل والإحسان” اسما وشعارا، وحَرِص على أن يكون جسم الجماعة جهادا وروحها تربية وإحسانا.(18)

نسأل الله أن يوحد كلمة هذه الأمة ويرص صفوفها ويقوي شوكتها وينور بصيرتها ويلهمها التأسي بمنهج نبينا وقدوتنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وسلم، (تربية وتنظيما وجهادا). آمين والحمد لله رب العالمين.


  • دار الأرقم بن أبي الأرقم ودورها الدعوي والتربوي في بداية الدعوة (الباحثة دة. خديجة أبوري)
  • الرعد 11
  • آت عمران 19
  • فريق محتوى موقع إسلام ويب
  • فريق محتوى موقع إسلام ويب
  • إشاعة الفاحشة بضغوط الخارج ووسائل الإعلام، ياسر الزعاترة
  • [الانبياء:10]
  • (تفسير السعدي)
  • عبد السلام ياسين، “المنهاج النبوي”، م. س. ص. 51.\
  • عبد السلام ياسين، “المنهاج النبوي”، م. س. ص. 293.\
  • ن. م. ص. 42.\
  • ن. م. ص. 383.\
  • عبد السلام ياسين، “المنهاج النبوي”، م. س. ص. 169.\
  • ن. م. ص. 34.\
  • عبد السلام ياسين، “مقدمات في المنهاج”، م. س. ص. 5
  • أخرجه مسلم والبخاري بنحوه وغيرهما، عن جمع من الصحابة بألفاظ متقاربة.
  • آل عمران (110).
  • التزكية الفردية والتزكية الجماعية الجهادية ذ / محمد شتوان
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.