شهر شعبان المعرض السنوي لاستعراض الأعمال| سلسلة خطبة الجمعة
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
شهر شعبان المعرض السنوي لاستعراض الأعمال| سلسلة خطبة الجمعة
للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي
الحمد لله الذي أكرمنا بنعم لا تحصى بعضها فوق بعض، {ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ} عند الحساب والعَرض، وأشهد أن لا إله إلا الله شرع لنا من الدين ما يحفظ الشرف والعِرض، وحرم علينا كل ما يؤدي إلى الشحناء والحسد والبغض، وأشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله صاحب الكوثر والحوض، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه وأتباعه مادامت السماوات والأرض…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.
ها هو شهر شعبان قد حل بساحتنا وهو شهر يحمل إلينا نفحات ربانية مباركة، ويربطنا بالمصطفىﷺ في أكثر من حدث وحديث؛ ففيه وقعت معجزة انشقاق القمر التي يقول الله تعالى فيها: {اقتربت الساعة وانشق القمر}، وفيه تحولت القبلة من المسجد الأقصى إلى المسجد الحرام التي يقول سبحانه فيها: {فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ}، وفيه وقعت غزوة بني المصطلق المعروفة بواقعة الإفك الذي يقول سبحانه فيه: {إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ}، وفيه ولد حفيد الرسولﷺ سيدنا الحسين بن علي رضي الله عنه، وكان النبيﷺ يكثر فيه الصيام، روى البخاري ومسلم عن عائشة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت رسول اللهﷺ استكمل صيام شهر إلا رمضان وما رأيته أكثر صياما منه في شعبان كان يصومه إلا قليلا بل كان يصومه كله»، وفي رواية الترمذي عن أم سلمة رضي الله عنها قالت: «ما رأيت النبيﷺ يصوم شهرين متتابعين إلا شعبان ورمضان».
وذلك لأن شهر شعبان هو المعرض السنوي لأعمال العباد على رب العباد؛ والأعمال تعرض على الله تعالى أربع مرات: في معرض يومي، ومعرض أسبوعي، ومعرض سنوي، ومعرض نهائي.
● المعرض الأول: اليومي؛ ويقع العرض فيه مرتين: عند صلاة العصر وعند صلاة الفجر؛ يدل عليه ما روى البخاري ومسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه أن النبيﷺ قال: «يتعاقبون فيكم ملائكة بالليل، وملائكة بالنهار، ويجتمعون في صلاة الفجر، وصلاة العصر، ثم يَعرُج الذين باتوا فيكم فيسألهم ربُّهم وهو أعلم بكم: كيف تركتم عبادي؟ فيقولون: تركناهم وهم يصلُّون، وأتيناهم وهم يُصلُّون»؛ ومعنى التعاقب: هو أن يجيءَ واحد بعد واحد، أي: أن ملائكة الليل تصعَدُ عند الفجر، وفي نفس الوقت تنزِل ملائكة النهار؛ كما تصعد ملائكة النهار عند صلاة العصر، وفي نفس الوقت تنزل ملائكة الليل.
ولذلك كانت المحافظة على الصلوات الخمس عموما من أوجب الواجبات في شروطها وفي أدائها في وقتها وجماعتها وفي حضور القلب بها، وخصوصا صلاتي العصر والفجر.
● المعرض الثاني: الأسبوعي؛ ويقع العرص فيه أيضا مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس، أخبرنا بذلك رسول اللهﷺ حين قال فيما روى الإمام مسلم: «تُعْرَضُ أعمالُ الناس كل جمعة (أي كل أسبوع) مرتين: يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فَيُغْفَرُ لكل عبد مؤمن لا يشرك بالله شيئا؛ إلا رجلا كانت بينه وبين أخيه شحناء (أي: حقدٌ وعداوةٌ وبغضاءُ)؛ فيقال: أَنْظِرُوا هذين حتى يصطلحا، أَنْظِرُوا هذين حتى يصطلحا، أَنْظِرُوا هذين حتى يصطلحا» وفي رواية: «اتركوا هذين»، وفي رواية «أخروا هذين»؛ ولهذا كانﷺ يصوم يوم الاثنين ويوم الخميس؛ فقد روى الترمذي أنهﷺ قال: «تُعْرَض الأعمال على الله يوم الاثنين ويومَ الخميس، فأُحِبُّ أَن يُعْرَض عملي، وأنا صائم».
● المعرض الثالث: السنوي؛ وهو الذي يقع فيه العرض شهر شعبان؛ فإن الملائكة المكلفة بمراقبة أعمال العباد تقدم ملفات أعمال السنة الماضية لرب العباد في شعبان؛ روى النسائي عن أسامة بن زيد رضي الله عنهما قال: قلت يا رسول الله؛ لم أرك تصوم من شهر من الشهور ما تصوم من شعبان؟ قالﷺ: «ذاك شهر يغفل الناس عنه بين رجب ورمضان وهو شهر ترفع فيه الأعمال إلى رب العالمين وأحب أن يرفع عملي وأنا صائم»، وروى البيهقي بسند حسن أن النبيﷺ قال: (يَطَّلِعُ الله عز وجل على خلقه ليلة النصف من شعبان، فَيَغْفِرُ لجميع خلقه إلا لـمشرك أو مُشَاحِنٍ»، والـمُشاحن: الذي امتلأ قلبه بالحقد والعداوة والبغضاء.
● المعرض الرابع: النهائي؛ وهو الذي يقع فيه العرض يوم القيامة، يقول الله تعالى فيه: {يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَى مِنْكُمْ خَافِيَةٌ}؛ وفي هذا العرض النهائي الأخير يقول الرسولﷺ فيما روى البخاري ومسلم: «مَن نُوقشَ الحساب عُذِّب، فقالت عائشة رضي الله عنها: أليْسَ الله تعالى يقول: {فأما مَنْ أُوتِيَ كتابه بيمينه فسوف يُحاسَبُ حِسَاباً يسيراً وينقلب إلى أهله مسروراً}؟ فقال: إنما ذلك العرْضُ تُعرَضُون، وليس أحد يناقش الحساب يوم القيامة إلا عُذِّب».
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين والحمد لله رب العالمين.
الحمد لله رب العلمين…
أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ فائدة هذه العروض الأربعة تتمثل في غفران الذنوب؛ فما فاز إلا من نجى، وما نجى إلا من غفر الله ذنوبه وستر عيوبه وقضى أغراضه وصان أعراضه؛ ويستثنى من ذلك كله نوعان من الناس تبقى ذنوبهما متراكمة، وعيوبهما منكشفة، وأغراضهما منهوكة، وأعراضهما مهتوكة؛ هما: (المشرك، والمشاحن)؛ لأن الله تعالى أراد من المسلم صفاء علاقته مع الله، وصفاء علاقته مع عباد الله، وفي هذا المعنى قالﷺ فيما روى أبو داود والترمذي: «لا يشكرُ اللهَ مَنْ لا يشكرُ الناسَ»؛ فعلاقة المشرك بالله مُلَوَّثَة، وعلاقة المشاحن بالناس مُلْتَوِيَّة.
أما المشرك فأمره واضح؛ قال الله تعالى فيه: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ}، وقال سبحانه: {إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالاً بَعِيداً}.
أما المشاحن؛ فالشحناء هي الخصام والنزاع، والشقاق والصراع، ونحن في زمن قد وثر بأحداثه المتسارعة الأعصاب، وحير بوقائعه المتصارعة الألباب؛ فالشحناء بين شخصين يحول بين المسلم وغفران الذنوب؛ فكيف بالشحناء بين الأسر والعائلات؟! فكيف بالصراعات بين الجماعات؟! فكيف بالحروب بين الدول والحكومات؟!
ألا فاتقوا الله عباد الله، وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…