شهر رجب المحرم بين الدين والتدين وفقه الأولويات | سلسلة خطبة الجمعة
الشيخ الأستاذ بن سالم باهشام
شهر رجب المحرم بين الدين والتدين وفقه الأولويات | سلسلة خطبة الجمعة
للأستاذ بن سالم باهشام
عضو الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين
عباد الله، كل واحد منكم يلاحظ هذه الأيام المباركة من شهر رجب المحرم، تنافس المؤمنين والمؤمنات في مجتمعاتنا على الصيام، حتى العجائز و الشيوخ يصومون، وحتى الفتيان والفتيات يتنافسون على صيام النافلة، ابتغاء الأجر والثواب عند الله عز وجل، أتدرون عباد الله على ما يدل هذا العمل التطوعي الذي يتسابق عليه المؤمنون دون إرغام من أحد، وإنما بمحض إرادتهم واختيارهم؟ إنه يدل على بذرة الخير الموجودة في نفوس أفراد مجتمعنا، كما يدل على أن نبتة الإسلام لا زالت صالحة لتُسقى وليُعتنى بها حتى تُخرج شطأها و تستغلظ وتستوي على سوقها، فتعجب المؤمنين، وتغيظ الکفار والمنافقین، إذ رغم تخطيطات الكفار الماكرة ، قصد هدم الدين الإسلامي، ورغم مکائدھم التي تزول منها الجبال، ورغم غزوهم الإعلامي في قعر بیوتنا بالبرامج المفسدة للأخلاق والسلوك، فإن بذرة الخير لا زالت في نفوس أفراد أمتنا، وهذا الصيام هو دليل واضح على هذا الخير المستقر في النفوس وفي وسط الأسر، و هذا ما يشجعنا على عدم اليأس مما نلاحظه من انحراف عن الدين، وإعراض عن تعاليم الإسلام، كما يشجعنا على محاولة وضع الأمور في نصابها ، ودخول البيوت من أبوابها .
فیا عباد الله، علينا أن نحيط علما ببعض الحقائق من ديننا الإسلامي الحنيف، حتى لا نكون ممن ضل سعيهم في الحياة الدنيا، وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا، و هذه الحقائق هي كالتالي:
1 – يجب مراعاة الأولويات في أمور الدين الإسلامي، إذ لابد من تسبيق الواجب على النفل، بحيث لا ينبغي للمؤمن أن يحرص على نيل الثواب والأجر في النفل وهو يضيع الفرض.
2 – في إطار فقه الأولويات، يجب معرفة مرتبة الواجبات في الدين، فهناك واجب أهم من واجب، لهذا يجب تسبيق الأهم على المهم.
3 – الإسلام لا يجزأ، وإنما يؤخذ كله، فمن جزأه فأخذ بعضه و ترك البعض الآخر، فلا يسمى ما أخذہ إسلاما، لأن دين الله متکامل، يقول الحق عز وجل في الذين يأخذون ما يريدون من الدين، ويتركون ما لا يروقهم ويعجبهم في سورة البقرة: (أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ، فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ، وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ ) [البقرة: 85]، ويقول الحق عز وجل في سورة النساء: (وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ، وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا * أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا، وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا) [النساء: 150، 151]
عباد الله، قد يتعجل الفرد ويقول: ما علاقة صيامنا للأجر، وابتغائنا مرضات الله، بما سبق ذكره، من إيمان ببعض الکتب وإعراض عن بعض؟ و من تسبيق النافلة على الفرض، ومن عدم مراعاة أولويات الواجبات، نقول لهؤلاء وبالله التوفیق: إن من هؤلاء الصائمين من يبتغي الأجر والثواب في صيام شهر رجب، وينسى ماذا حدث في هذا الشهر المبارك، وبماذا يذكرنا هذا الحدث؟ أتدرون ماذا حدث في هذا الشهر؟ إنها رحلة الإسراء والمعراج، إذ نُقل الرسول صلى عليه وسلم جسدا وروحا ويقظة من مكة المكرمة، من المسجد الحرام، إلـى بیت المقدس، إلى فلسطين، إلى المسجد الأقصى، ومن هنالك عُرج به إلى سدرة المنتهى، إلى المكان الذي لم يصله إنس ولا جن ولا ملائكة، إذ لو اقترب من ذلك المكان أحد لاحترق، مهما بلغت مكانته عند الله، لكن الرسول صلى الله عليه وسلم وحده دوں غیرہ اخترق.
عباد الله، إن مما تذکرنا به هذه الرحلة بأمرين مهمين:
الأمر الأول: إن رحلة الإسراء إلى المسجد الأقصی تذكرنا باحتلال فلسطین، وتدنيس المسجد الأقصى من قبل الصهاينة اليهود.
الأمر الثاني: إن رحلة المعراج تذکرنا بفرض الصلاة خمس مرات في اليوم، على المؤمنين والمؤمنات، وللحدثين علاقة بما أخبر به الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم، من انتقاض عرى الإسلام، وبقاء الشكل والاسم منه فقط، روى الإمام أحمد، وابن حبان، والطبراني، والحاكم،وقال : صحيح، عن أبي أمامة الباهلي رضي الله عنه، أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال: ( لتنقضن عرى الإسلام عروة عروة، فكلما انتقضت عروة تشبث الناس بالتي تليها، فأولهن نقضا الحكم، وآخرهن الصلاة ) [أخرجه أحمد (5/251 ، رقم 22214) ، وابن حبان (15/111 ، رقم 6715) ، والطبرانى (8/98 ، رقم 7486) ، والحاكم (4/104 ، رقم 7022) ، وقال: صحيح . والبيهقى فى شعب الإيمان (4/326 ، رقم 5277) . وأخرجه أيضًا : الطبرانى فى الشاميين (2/411 ، رقم 1602) . قال الهيثمى (7/281): رواه أحمد، والطبرانى، ورجالهما رجال الصحيح] .
عباد الله، المقصود بالعرى الواردة في الحديث النبوي الشريف، هي الفتحات التي تدخل فيها الأزرار، ليشد بها الثوب، فکأن سربال الإسلام يتمزق عن جسم الأمة من أعلى، والناس يتمسکون به مخافة أن تكشف عورتهم.
عباد الله، لما تركنا أحکام الله، وأعرضنا عنها، في كل جوانب حياتنا، وتقاضينا لغير کتاب الله، ضيقنا مجال تحكم الدين، في حياتنا.
عباد الله، لما حدث هذا، احتُلّ القدس الشریف، واحتل المسجد الأقصى ثالث الحرمين، وأول القبلتين، ومسرى الرسول صلى الله عليه وسلم، وسيبقى محتلا من قبل شرذمة من اليهود، أعداء الله والدين، وشر خلق الله أجمعين، حتى نعود إلى كتاب الله، نتحاكم إليه في کل شؤون حياتنا، ونعيد إبرام أول ما انتقض من عری الإسلام، ثم إن سوأتنا عباد الله ، والتي كان يسترها الإسلام، قد كشفت بانتقاض آخر عروة والتي هي الصلاة، فكيف يعقل عباد الله؟، وكيف نتصور حرص الشخص على صيام بعض أیام رجب ابتغاء الأجر ويحرص على النافلة؟ ويضيع الفرض! ما فائدة نافلة أمام الإعراض عن الواجب؟! . ولنفرض أنه قد يكون صيام الفرض، وهو رمضان أو القضاء،فإن فقه الأولویات يبين لنا أن جميع أرکان الإسلام فرضت في الأرض؛ إلا الصلاة، فإنها فرضت في السماء، وأن هذا الركن كان مفروضا على جميع الرسل عليهم السلام، قبل بعثة الرسول صلى الله عليه وسلم، وأن الصلاة هي هدية من الله عز وجل للمؤمنين قبل أن تكون تكليفا، فبالصلاة تفرج الكربات، وبالصلاة نطلب الحاجات، الدنیوية والأخروية،لأن الصلاة مفتاح لكل المشاكل الكونية، فضلا عن الشخصية،. فحين يخسف الله القمر؛ وهذا يكون بالليل؛ “نصلي”، أي صلاة الخسوف، وحين تُكسف الشمس؛ وهذا يكون بالنهار؛ “نصلي”؛ أي صلاة الكسوف، وحين تُجدب الأرض أيضاً “نصلي”؛ أي صلاة الاستسقاء، فإذا كانت الصلاة تحل مشاكل كونية؛ فكيف لا تحل مشكلة شخصية؟!. فما عليك أيها المؤمن إلا أن تتوضأ فتصلي صلاة الحاجة. لأن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد، لهذا أمرنا الرسول صلى الله عليه وسلم أن نجتهد في الدعاء حالة السجود، وبالصلاة نتزود بالصبر لنتخطى عقبات الحياة، وبالصلاة نقضي على المناكر والفواحش، قال تعالى في سورة العنكبوت: (اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ) [العنكبوت: 45]
عباد الله، إن المحروم من حرم لذة الصلاة، و حرم فوائد الصلاة، ثم اعلموا عباد الله أن الصلاة هي عماد الدين، فمن أقامها أقام الدين، وهي أول ما يحاسب عليه المرء يوم القيامة، فإذا صلحت صلح سائر عمله، وإذا فسدت فسد سائر عمله. فمهما تصدق وصام وزكى وحج، فالصلاة هي بمثابة التأشيرة، فقد يكون عندك المال للخروج لأوربا، وقد يكون عندك الجواز، ولكن إذا لم تكن عندك التأشيرة، منعت من دخول تلك الدول التي تريد الدخول إليها وكذلك أنت يا عبد الله، و أنت يا أمة الله، إذا أردتم تأشيرة دخول الجنة، بعد الشهادتين، فلا بد من المحافظة على الصلوات الخمس في أوقاتها وبشروطها، وإلا فالمصير معلوم، قال تعالى في سورة المدثر: ( مَا سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ * قَالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ * وَلَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ *وَكُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخَائِضِينَ * وَكُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ * حَتَّى أَتَانَا الْيَقِينُ *فَمَا تَنْفَعُهُمْ شَفَاعَةُ الشَّافِعِينَ) [المدثر: 42 – 48]، ولیعلم ذلك الذي يتكاسل في إقامة الصلاة، والمحافظة عليها، أنه لن يقيمها إذا لم يعزم عزمة قوية، يبدد بها ظلام التكاسل والتماطل، ولیعلم کذلك ذلک الشخص الذي يزعم أنه لا يبدأ الصلاة إلا إذا ترک المناكر، فهذا الصنف لن يقيم الصلاة ولا يزداد إلا انغماسا في الفواحش والمناكر، لأن الصلاة هي التي ستنهاه وتحفظه، ثم أخاطب الصنف الآخر الذي يقول: “أنا لا أصلي ولا أحضر الجماعات في المسجد، ما دام فيه أشخاص يتملقون وينافقون، سلوكهم وأخلاقهم في واد، والدين الإسلامي في واد آخر” ، نقول لهؤلاء: “إن كل ما تقولونه هو من تلبيس إبليس لكم، فكن أنت صالحا، وكن شمعة تضيء للآخرين بدل أن تلعن الظلام ، ثم أخاطب المصلين وأقول لهم: يا عباد الله، ویا إماء، كونوا قدوة للعاصي و تارک الصلاة بسلوككم وأخلاقكم و معاملاتكم، ولیکن همكم محاولة استقطاب كل تارک للصلاة إلى المسجد بالحكمة والموعظة الحسنة، فلأن يهدي الله على يدك رجلا واحدا خیر لك مما طلعت عليه الشمس، وإیاكم وصلاة التقلید الأعمى دون علم، وذلك بالدخول للمسجد ومحاولة محاكاة المصلين فيما يقومون به دون علم ولا معرفة،فإن الله عز وجل لا يعبد بجهل، بل ابحثوا عن أمور دينكم عند العلماء الصادقين،واسألوهم عن كيفية صلاة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فَقَدْ صَلَّى رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- الصَّلاَةَ مُرَتَّبَةً ، وَقَالَ فِي حَدِيثِ مَالِكِ بْنِ الْحُوَيْرِثِ رضي الله عنه الذي رواه البخاري في صحيحه : (صَلُّوا كَمَا رَأَيْتُمُونِى أُصَلِّى …)، [رواه البخاري (628)]، ولا سبيل إلى ذلك إلا بالعلم والبحث وسؤال المقيمين للصلاة. واجعلوا عباد الله هذا الشهر المبارك الحرام شهر رجب، شهر تعبئة شاملة لإقامة الصلاة داخل أسرنا، وفي إداراتنا،وفي مؤسساتنا التعليمية، وهذه مذكرة وزارية لآ أزال محتفظا بنسختها الأصلية، ولم يأت ما ينسخها لحد الآن، فهي لازالت سارية المفعول، فما علينا إلا أن نُحيّنها ، ونسعى لتطبيق فحواها، وهذا نصها:
المملكة المغربية، وزارة التربية الوطنية والفنون الجميلة، مذكرة رقم 14، بتاريخ 14 ديسمبر 1966 – مذكرة – إلى السادة مديري المدارس، والمعاهد الثانوية، والسادة مديري مدارس المعلمين الإقليمية، والسادة مديري المدارس الابتدائية، على يد السادة النواب والمفتشين الإقليميين لوزارة التربية الوطنية،
الموضوع: أداء الصلاة داخل المؤسسات التعليمية.
سلام تام بوجود مولانا الإمام وبعد، فبأمر من صاحب الجلالة نصره الله، تقرر أن تقام الصلاة في أوقاتها المعلومة داخل جميع مدارس ومعاهد المملكة، ولذا يتعين تطبيق التعليمات التالية التي يفترضها وجود تشبثنا بقيمنا الدينية والأخلاقية بوصفنا أمة مسلمة:
أولا: يؤدي تلامذة جميع المؤسسات التعليمية، الصلوات التي تصادف وجودهم بها، على أساس أن يكون استعدادهم لها لائقا، وتوجههم إلى القبلة في هندام صالح ، ويجمل بالتلميذات أن يرتدين الجلباب في هذه الأثناء بالخصوص.
ثانيا: يسهر السادة المديرون على تحديد مكان مناسب لأداء الصلاة داخل المؤسسات، وذلك سواء في النادي، أو قاعة النوم، أو المطعم، أو أي مرفق صالح موجود أو مستحدث. كما يقومون بتوفير جميع اللوازم المتطلبة بما في ذلك :
– أنابيب الماء المخصصة للوضوء.
– الحُصُر المتطلبة لأداء الصلاة.
و يمكنهم استخراج النفقات الخاصة بالنسبة للمعاهد الثانوية من المصاريف الإضافية المتوفرة لديهم، أما المدارس الابتدائية، فتعتمد في هذا الباب على الصناديق المدرسية، والتعاونيات، وكذا جمعيات آباء التلاميذ .
ثالثا: يعهد بالسهر على تطبيق المخطط التنظيمي الذي ستضعه إدارة المدرسة لهذه الغاية، إلى أستاذ أو معلم مغربي مسلم، على أساس احترام أوقات الدراسة المقررة، واستغلال أوقات الاستراحة ما أمكن، و ترافق هذه الترتيبات العملية، توجيهات نظرية في شكل حملة توعية دينية تستمد جذورها من مثل المدير الصالح، وقدوة الأستاذ والمعلم الحسنة، هذا وسيقوم السادة النواب، بتبليغكم في اجتماع خاص، التعليمات الإضافية التي من شأنها أن تنير أمامكم سبيل الاستمساك بهذه التوجيهات، وتفتح أمامكم آفاق الإنجاز وحسن التدبير. واعتقادي أن في حميتكم الدينية، ما سوف يساعدكم على إذكاء شعلة الدين في سائر الأوساط التربوية والتعليمية، وإنارة سبيل الرشاد أمام الجيل الصاعد، وبه الإعلام والسلام.
الإمضاء: الدكتور بن هيما.
عباد الله، بعد هذه التعبئة حول الصلاة نكون قد بدأنا في إبرام ما انتقض من عرى الإسلام، وشرعنا في تحرير المساجد بعمارتها، لتتحقق النتيجة الحتمية التي وعدنا الله بها وهي الانتصار على الكفار، وتحرير فلسطين وبيت المقدس والمسجد الأقصى، أولى القبلتين وثالث الحرمين، ومسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذ لا تحرير للمسجد الأقصى إلا بعد تحرير المسجد الأدنى الموجود قرب سكن كل واحد منا، قال تعالى في سورة محمد: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ ) [محمد: 7].
فاللهم اجعلنا من المقيمين للصلاة ومن ذرياتنا، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.