النص الشرعي بين المنطوق والمسكوت عنه
بقلم: الطيب رحماني
اهتم الأصوليون باللغة العربية وعلومها ومباحثها، وأسدوا لها خدمة جليلة بقدر ما استمدوا منها من أدوات الفهم، فكانت كتبهم دليلا واضحا على أن هذه الشريعة قامت على اللسان العربي المبين مصداقا لوصف الحق جل وعلا كتابه ونبيه.
ومن المباحث المهمة المعززة لهذا الملمح مبحث القواعد الأصولية اللغوية، وهي قواعد مستمدة “من طبيعة اللغة العربية واستعمالاتها في المعاني حسبما قرره أئمة اللغة وعلى نحو ما دل عليه تتبع واستقراء النصوص العربية”[1]، وبما أن ألفاظ اللغة ليست على درجة واحدة، فمنها الواضح القطعي الذي يدل على معناه من غير تدبر، ومنها الخفي الذي لا يوصل إليه إلا باجتهاد وتفكر…فإن الأصوليين أبدعوا في سن الضوابط التي تمكنهم من الاستقراء والاستنباط السليم، فأنتجوا هذه القواعد التي يتكامل فيها اللغوي والشرعي مما يجعل القارئ في هذه المباحث يدرك أنه يطالع علوم العربية مرتبطة بنصوص الكتاب والسنة.
ولما كانت الألفاظ لباسا للمعاني والدلالات، وكان للسان العربي خصائصه التعبيرية المتميزة، وكان من وجوه إعجاز القرآن الكريم بيانُه، وكان من درر الحديث النبوي الشريف جملُه ومفرداتُه…كان لزاما أن يتم الإلمام بكل إشارة لغوية دالة من هذين المصدرين الجليلين.
وإذا كان الأصل في الكلام أن يشترك في فهمه العقلاء باختلاف مداركهم اللغوية العلمية، فإن ثمّة مراتب أخرى للفهم في حاجة إلى تدبر وتفكر ومقارنة واستدلال…ولذا فالدلالة عند الأصوليين كامنة في خبايا المنطوق أحيانا أولى من أن تكون بارزة على ظاهر الألفاظ،
ومن القواعد الأصولية اللغوية الدالة على ضرورة الانتباه لمستويات الفهم والإدراك مفهوم المخالفة، ويقابلها مفهوم الموافقة.
والمفهوم لغة اسم مفعول، والفعل فهِم أي علم، قال ابن فارس: “الفاء والهاء والميم علم الشيء”[2]، وفي اصطلاح الأصوليين هو المعنى المدلول للفظ الذي يفهم منه، فهو مرادف كلمة المدلول، سواء كان مدلولا للمفرد أو الجملة، وسواء كان مدلولا حقيقيا أو مجازيا[3].
وهذا التعريف لكلمة مفهوم مجردة من الإضافة إلى صفة الموافقة أو المخالفة أقرب إلى ما سماه بعض الأصوليين منطوق النص أي “ما يدل عليه اللفظ عند النطق” ويقابله عندهم “ما يدل عليه اللفظ لا في محل النطق”[4]
وعلى هذا فمفهوم النص الشرعي قد يكون على ثلاثة مراتب:
- المنطوق الصريح
- مفهوم الموافقة
- مفهوم المخالفة
وبإضافة المفهوم إلى صفتي الموافقة والمخالفة تتشكل ضميمتان مخصصتان له، أما الموافقة فهي الملاءمة، قال ابن فارس “الواو والفاء والقاف كلمة تدل على ملاءمة شيئين ومنه الوفق والموافقة”[5]، ومفهوم الموافقة عند الأصوليين “دلالة اللفظ على ثبوت الحكم المذكور للمسكوت عنه لاشتراكهما في علة الحكم مثل دلالة قوله تعالى: “فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفٍّ”[6] على تحريم الضرب من باب أولى”[7].
فالمسكوت عنه موافق للمنطوق في العلة كما “يتبادر إلى أفهام العقلاء”[8] بما معهم من قدرة فهم الدلالة وإدرام القرائن المصاحبة كقصد المتكلم وسياق الكلام…و من ثم وجب أن يكون موافقا له في الحكم.
ومفهوم الموافقة متفق عليه، قال الآمدي : “اتفق أهل العلم على الاحتجاج به إلا ما نقل عن داوود الظاهري”[9]
وأما المخالفة في اللغة هي ضد الموافقة، “خالفني الرجل مخالفة وخلافا”[10] لم يوافقني الرأي، ومفهوم المخالفة عند الأصوليين “أن يثبت الحكم في المسكوت عنه على خلاف ما يثبت في المنطوق”[11]
ومفهوم المخالفة متوقّف على تقييد المنطوق، وقيوده أحد الأمور الخمسة: الوصف والغاية والشرط والعدد واللقب. وقد اتفق الأصوليون على عدم الاحتجاج بالنص على مفهوم المخالفة في اللقب، وهو اللفظ الجامد الذي ورد في النص، أي أن ذكره لا يدل نفي ما سواه، فقوله تعالى: “محمد رسول الله”[12] لا يفهم منه أن غير محمد ليس رسول الله…كما اتفقوا في الاحتجاج بمفهوم المخالفة في ما عداه لكن في غير النصوص الشرعية.
لكن اختلفوا في الاحتجاج بمفهوم المخالفة في الوصف أو الشرط أو الغاية أو العدد في النصوص الشرعية، فذهب جمهور إلى أنه حجة، فقوله تعالى “أو دما مسفوحا”[13] منطوقه تحريم الدم المسفوح ومفهوم المخالفة دليل على إباحة الدم غير المسفوح، بينما ذهب الحنفية إلى أنه ليس بحجة، والنص ساكت عن بيان حكم غير المذكور، إلا أن يتقرر بدليل شرعي آخر[14].
وتجدر الإشارة إلى تعدد المصطلحات التي وضعها الأصوليون القدامى على اختلاف مذاهبهم لتسمية هذين المفهومين، فمفهوم الموافقة يسمى أيضا فحوى الخطاب، وتنبيه الخطاب والمفهوم ولحن الخطاب…أما مفهوم المخالفة فهو دليل الخطاب والمفهوم المخالف ولحن الخطاب…وهذه الملاحظة تجعل المطالع لمصادر علم أصول الفقه أمام إشكالية تعدد المصطلح الأصولي وما يرتبط بها من قضايا وإشكالات هي في حاجة إلى مزيد من القراءة والتأويل للمصادر الأصولية.
[1] الوجيز في أصول الفقه، وهبة الزحيلي، دار الفكر، دمشق، ط 1424هـ/ 2003م، ص 163.
[2] معجم المقاييس في اللغة، أحمد بن فارس بن زكريا، ت شهاب الدين أبو عمرو، دار الفكر، بيروت، لبنان، ط 1، 1432 هـ/2011م. ص 829
[3] معجم مصطلح الأصول، هيثم هلال، دار الجيل بيروت، ط1، 1424هـ/ 2003م، ص311
[4] أصول الفقه، شمس الدين المقدسي، ت فهد بن محمد السرحان، مكتبة العبيكان، ص 1059
[5] المقاييس في اللغة، ص 1099.
[6] الإسراء، 23
[7] الوجيز في أصول الفقه، وهبة الزحيلي، ص 171.
[8] أصول الفقه، شمس الدين المقدسي، ص 1060.
[9] الإحكام في أصول الأحكام، علي بن محمد الآمدي، المكتب الإسلامي، ط 1، 1327هـ، الرياض، ج 3، ص 67، وداود الظاهري هو داوود بن علي بن خلف، البغدادي، المعروف بالأصبهاني أصولي وفقيه ومحدث من أعلام الظاهرية.
[10] جمهرة اللغة، أبو بكر محمد بن دريد، ت رمزي منير بعلبكي، دار العلم للملايين، بيروت، لبنان، ط1، 1987م، ص 615
[11] القاموس المبين في اصطلاحات الأصوليين، محمود حامد عثمان، دار الزاحم، الرياض، ط 1، 1423هـ/2006، ص 277.
[12] الفتح، 29.
[13] الأنعام، 146
[14] علم أصول الفقه، عبد الوهاب خلاف، ط 7، القاهرة، ص 154ـ157