منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

ذهب الطيبون ولم يبقَ إلا القليل

ذهب الطيبون ولم يبقَ إلا القليل/ الدكتور وائل الزرد من فلسطين

0

ذهب الطيبون ولم يبقَ إلا القليل

بقلم: الدكتور وائل الزرد من فلسطين

 

كلامُ هذا المقال من القلب، بثثتُ فيه شيئًا من شوقي لمن رحل عنا من إخواننا الشهداء …

في الحقيقة لا أحب استذكار الماضي، لما فيه من كثير من آلام وأحزان، فقد فقدْنَا كثيرًا من أحبابِنا، إما أنَّ الموت تخطفهم لانقضاء أجلهم، وإما أنَّ الله قد اتخذهُم شهداء، وهؤلاء هم الأكثر فيمن نحب، ولنا مع كثيرٍ منهم ذكريات وحكايات، حين يسرح بنا الخيال إلى الماضي لا نملك إلا الدموع والدعوات.

غير أننا حتى لو استطعنا أن نتناسى الماضي، حتى لا يتجدد الحزنُ، فإننا لا نملك أن ننقطع عمَّن ارتبطنا بهم برباط الدم والعقيدة، أولئكم الأكرم منا جميعًا، الذين ذهبوا إلى الله شهداء، ما غيرتهم الدنيا ولا تلوثوا بها، بل مضوا في طريق ذات الشوكة، ما غيروا ولا فرَّطوا، وأعطًوا ضريبة الانتماء لهذا الدين من دمائهم وأرواحهم، لنا مع هؤلاء الطيبين ذكريات وأي ذكريات، فقد ذهب كثيرٌ منهم ولم يبق إلا القليل.

وفي كل تصعيد أو جولة عسكرية بيننا وبين الاحتلال، يرتقي بعض من بقِيَ من أحبابِنا شهداء، فيذكروننا بمن مضى، ويحيون فينا ذكريات ما كان لها أن تُمحَى، ويجددون لنا الماضي الجميل الذي بدأه أولئكم الأبطال، الذين كانوا على الجادة، مضوا في طريق الحق والقوة والحرية، لم تلههم تجارة ولا بيع، ولا أوقفهم زواج أو ولد، حازوا على شهادات علمية عُليا لكنهم ما قنعوا بها، حتى تُوِّجوا بشهادة الآخرة، حيث وقَّعوها بدمائهم الزكية وأرواحهمُ الطاهرة.

ذهب الطيبون، ولا زال طريق الشهادة يتسع لكثير من الصادقين، ذهبوا بجميل أخلاقهم، وطيب معاشهم، ورقة معاملاتهم، ذهبوا ولا نذكر من سيرتهم إلا الإقدام والتضحية والفداء، ذهبوا ولا زالت دماؤهم يفوحُ منها رائحةُ مسكِ الشهادة، ذهبوا وبقينا نتخايلهم بجانبا في صلاة قيام شهر رمضان، وعلى طاولة الإفطار من الصيام، ذهبوا ولا زلنا نعيش على ذكريات الصدق، وحكايات التضحية، وقصص البطولة.

ذهب الطيبون، وحين يزداد شوقنا لا نجد مُسكنًا إلا الدعاء، وسكب العبرات على الوجنات، أو الذهاب إلا حيث المقابر، وهناك تُسَحُّ دموعُ الشوق وتُزفرُ آهاتُ اللقاء، وأحيانًا إن أراد الله بأحدنا رحمةً رزقه رؤيا جميلة، يحتضن فيها أخًا له سبقه بالشهادة، فتلتقي الأرواح دون الأجساد، وتتصافح القلوب دون الأيدي، ويتبل الشوق ويبرد القلب وتُبثُّ الشَّكوى، في لحظات في عالم الغيب، ثم يستيقط أحدُنا فيجد نفسَه لا زال في هذه الحياة، فيقول: يا ليتني بقيتُ معهم فأفوزَ فوزًا عظيمًا.

ذهب الطيبون، وأخذوا معهم فرحة اللقاء بهم في ميادين الجهاد والعمل الإسلامي، ذهبوا ومعهم جمال الجلوس في المساجد للصلاة وسماع العلم وتلاوة القرآن والاعتكاف، ذهبوا ومعهم ليالي الرباط الأولى في الأماكن التي كان يُقال عنها متقدمة، ولكنها أصبحت الآن في وسط البلد، ذهبوا وذهبت رقةُ القلب والتعلق بالآخرة، ذهبوا وما نسينا قلوبَهم الطاهرة، وأياديهِمُ البيضاء، وأرواحَهُمُ الرقيقة، ذهبوا وما نسينَا صلاتهم، وجهادَهم، ودعوتَهم، وذكرَهم، وحبَّهم لإخوانِهم، وإخلاصَهم لدعوتهم، واستعدادَهم للرحيل،،،

ذهب الطيبون، ولم يبقَ إلا القليل، وعمَّا قليل سيتبع اللاحقون السابقين، وهكذا هي الحياة: لقاءٌ ففراقٌ ثم بعثٌ وتلاقٍ لا فراقَ بعدَه أبدًا، فاللهُمَّ [إنْ كَانَ فِي الحَياَةِ خَيرَا لنَا فَأحيِنَا، وإنْ كَانَ فِي المَوتِ خَيرًا لنَا فَأمِتْنَا]

ذَهَبَ الطَّيبُونَ ومَا عَادُوا يَرجِعُون …

رَحَلَ الذينَ نُحبُّهُم وَاستَوطَنَ الأغرَابُ ….. وسِدالُ أفرَاحِ الحَياةِ قَدِ انسَدَل

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.