القياس بين اللغويين والأصوليين
بقلم: لحسن عيا
- تمهيد
- التعريف اللغوي والاصطلاحي للقياس عند اللغويين والأصوليين.
- القياس عند الأصوليين واللغويين
- العلة الجامعة بين اللغويين والأصوليين
- خاتمة
تمهيد
حظيت علوم العربية بما لم تحظى به في لغات عدة لدى أمم أخرى، فقد نشأت باحة العلوم الدينية لخدمة كتاب الله، شرحا، وتفسيرا، واستنباطا لأحكام، وتبيانا لإعجاز… والقياس لا يخرج عن ذلك كأحد هذه العلوم وبخاصة إذا علمنا أن العلوم آنئذ لم يكن ليفصل بينها فاصل، تتخارج لتتداخل، وتنفصل لتتصل وهذا بحكم طبيعة التعليم التي كانت تقام على شكل حلقات يختلف الناس إليها من مختلف الاتجاهات الفكرية، فلا مانع أن يأخذ المتلقي من هذه الحلقة أو تلك، ونتيجة لذلك، فإن جل علماء العربية القدامى كانوا من الموسوعيين ،يأخذون من كل شيء بطرف ،فتجد الرجل منهم نحويا، وفقهيا، وقارئا بارعا على نحو أبي عمرو بن العلاء الذي قال فيه الجاحظ : “أعلم الناس بالغريب و العربية وبالقرآن والشعر ،وأيام العرب وأيام الناس“ [1]
والقياس دليل من الأدلة التي يعتمد عليها الفقهاء في شريعتنا الغراء، إذ تنوول في أكثر من فرع من فروع ديننا الحنيف ومن فروع القضايا التي تقوم على خدمته وبيان أهميته. ولما كانت اللغة كائنا حيا، فإن هذا الكائن الحي يتطور ويتجدد، فكلما كان الإنسان حيا تستجد عليه أمور في حاجة إلى ما يواكبها ويوازيها، من هنا صار القياس ضرورة لكل لغة حية لأن المعاني والأغراض تتعدد، فكلما تطورت حياة الإنسان كلما كان الإنسان بلغته يحتاج إلى أن يقيس ما لم يكن موجود على ما كان موجودا. والعكس صحيح بالنسبة لأمور الفقه.
فكيف عرف الأصوليون واللغويون القياس لغة واصطلاحا؟ وهل نشأة القياس كانت في بيئة الفقهاء أم اللغويين؟ وما العلة الجامعة بينهما؟
التعريف اللغوي والاصطلاحي للقياس عند اللغويين والأصوليين.
أولا: التعريف اللغوي للقياس عند اللغويين:
القياس مصدر قاس، وهو واوي ويائي يقال: “قاس يقوس قوسا- وقـاس قيسـا وقياسا” والفاعل منه مُقايس، والمقياس المقدر، والقاف والواو والسين أصل واحد يدل على تقدير شيء بشيء، يقال: قست الشيء بغيره أقيسه قيساً وقياسـاً فانقاسـا، إذا قدرته على مثاله، وفيه لغة أخرى: قسته أقوسه قوساً وقياسـاً، ولا يقـال: أقسـته، والمقدار مقياس، وقايست بين الأمرين مقايسة وقياساً، والقياس رد الشيء إلى نظيره.
يقال: قاس الثوب بالذراع بمعنى قدره، والتقدير يلزم منه المساواة، ويقال أيضـاً: قايست فلاناً، إذا جاريته في القياس، وهو يقتاس الشيء بغيره. أي: يقيسه به، ويقتاس بأبيه اقتياساً، أي: يسلك سبيله ويقتدي به.[2]
يتبين لنا من تعريفات اللغويين السابقة أن القياس له ثلاثة معان في اللغة، وهي، التقدير، التسوية، الاعتبار والنظر.
ثانيا: التعريف اللغوي للقياس عند الأصوليين:
عرف الأصوليون القياس لغة في مصنفاتهم بعبارات مختلفة، ومعـان متعـددة، لم يذكرها أهل اللغة، واختلفت عباراتهم في تعريف القياس، منها: التقدير، المساواة، الإصابة، الاعتبار، التمثيل والتشبيه، المماثلة. [3]
فهذه معان تطلق على معنى القياس لغة عند الأصوليين، ويلاحظ أن معظمها متقاربة من بعضها البعض، فالاعتبار والتسوية والتمثيل والتشبيه والمماثلة تكاد تكون بمعنى واحد، والتقدير والإصابة قريبة من بعضها إن لم تكن بمعنى واحد، وعليه، فإن المعاني السبعة تؤول إلى التقدير والتسوية والإصابة.
التعريف الاصطلاحي للقياس عند اللغويين والأصوليين.
- عند اللغويين
أورد أبو البركات بن محمد الأنباري تعريفين للقياس، فالأول في كتابه (الإغراب في جدل الإعراب)، وهو قوله: “وأما القياس فهو حمل غير المنقول على المنقول إذا كان في معنـاه كرفــع الفاعـل، ونصب المفعـول في كل مكان، وان لم يكن كل ذلك منقـولا عنهم، وانما لما كان غير المنقول عنهم من ذلك في معنى المنقول كان محمولا عليه، وكذلك كل مقيس في صناعة الإعراب“.[4]
وقد أوجــز جـلال الدين السيــوطي هذا التعريف وقال معقبا: “وهو معظم أدلــة النحـو، والمعّول في غالب مسائله عليه، كما قيل: إنما النحو قياس يتبع[5]…” [6]
- عند الأصوليين
لقد اختلفت عبارات الأصوليين في تعريف القياس، أهو من فعل المجتهد فهو مثبت وكاشف لهذا الدليل، أو هو دليل مستقل والمجتهد مظهر لهذا الدليل، وسنكتفي بعرض تعريف وحد لكل مذهب على النحو التالي:
- تعريف القياس باعتباره فعل للمجتهد: عرف أصحاب هذا المذهب القيـاس بمـا يثبت أنه عمل من أعمال المجتهد لا يتحقق إلا بوجوده، فقالوا بأن القياس هو: “حمل معلوم على معلوم في إثبات حكم لهما أو نفيه عنهما بأمر جامع بينـهما مـن إثبات حكم أو صفه لهما أو نفيهما عنهما” [7]
- تعريف القياس باعتباره دليل مستقل: عرف أصحاب هذا المذهب القيـاس بمـا يثبت أنه دليل مستقل كالكتاب والسنة، نصبه الشارع للدلالة على الأحكام، فقـالوا بأن تعريف القياس ه: ” مساواة فرع لأصل في علة حكمه”
بعد تعريف القياس عند من يقول إنه فعل للمجتهد وعبر عنه بأنه حمل، والحمل من فعل الحامل، وهو المجتهد، وتعريفه عند من يقول إنه دليل مستقل نصـبه الشارع، وعبر عنه بالتسوية والإبانة والمساواة، والتسوية هي تسوية االله تعالى محلا بآخر، وللتوفيق بين التعريفين يجدر القول بأنه لا تنافي بين أن يكون القياس من فعـل المجتهد وبين أن يكون دليلا مستقلا نصبه الشارع للدلالة على الأحكام. والله أعلم.
القياس عند الأصوليين واللغويين
لقد امتزجت أبحاث الفقهاء بأبحاث النحويين دون الذوبان في الآخر ،فللفقه أصول كما للنحو أصول فطابع التأثير لا يعني أبدا أن يكون الواحد منها عالة على الآخر، في وقت أصبح فيه التخصص سمة العصر، وإن القياس اللغوي أوسع مما هو عند الأصولي وهو فرق طبيعي لأن القياس الشرعي مرتبط باستنباط حكم في غيبة النص الصريح ولأنه لا قياس في الشرع مع وجود النص المنطوق به ،بحيث يتفق في الأخير مع الكتاب و السنة والإجماع بخلاف أهل اللغة فإنهم غير محدودين بهذه الحدود و الحوائل ، وثمة فرق آخر هو أن “المعنى في القياس الشرعي مطرد وفي اللغوي غير مطرد فإن البنج لا يسمى خمرا و إن كان يخمر العقل والدار لا تسمى قارورة وإن كانت الأشياء تستقر فيها، والغراب لا يسمى أبلق و إن اجتمع فيه السواد والبياض ،فليس القياس الشرعي كالقياس اللغوي في المعنى.” [8] وكل ذلك يوجب الفصل بين هذين النمطين من القياس لأن وظيفة كل واحد تختلف عنها في الآخر، وإن كانت صفة الاطراد لاحقة بالقياس الشرعي الذي يجري حكم الاطراد في جميع الحالات الممثلة، فإن القياس اللغوي لا يجري هذا المجرى لأن مجال تحركه أوسع من أصوات ومفردات، وتراكيب ودلالات ،وآية ذلك أنه وفي كل واحدة يضيف( القياس) إلى اللغة ما تغنى به، كما أن القياس اللغوي علله أحكامها ظاهرة في غالبها وهذا ما يجلو العملية القياسية بخلاف الشرعي فإنه يكون صحيحا إذا كانت العلة في الحكم المنصوص عليه لا تدرك إلا بالاجتهاد أما إذا كانت واضحة المعالم نصل إليه بمجرد فهم اللغة فالأمر هنا لا يسمى قياسا بل يكون ثابتا بدلالة النص أو مفهوم الموافقة، أي موافقة المنصوص لحكم المسكوت عنه، أما القياس الحقيقي عندهم كقوله تعالى: ﴿يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون﴾ الجمعة الآية 9
فمنطوق الآية ينهى المؤمنين عن البيع وقت الصلاة (صلاة الجمعة،) والعلة المانعة هي الشغل عن الصلاة وغير البيع يأخذ حكم البيع لاشتراك العلة من شراء وعقود أخرى مسكوت عنها ولم تذكر، وإذا كان كلام اللغويين في مجمله صالح لأن يقاس عليه غيره فإن الأمر ليس كذا عند الأصوليين إذ توجد بعض الأحكام مختصة بالأصل لا تتعداه إلى غيره، ومثال ذلك قصر الصلاة الرباعية للمسافر الثابت بقوله: ﴿وإذا ضربتم في الأرض فليس عليكم جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة إن خفتم أن يفتنكم الذين كفروا إن الكافرين كانوا لكم عدوا مبينا﴾ النساء 101
القياس أصله بيئة الفقهاء، واللغويون مرجع الفقهاء.
امتزجت أبحاث اللغويين بأبحاث الفقهاء، وعنهم أخذوا أقيستهم ومنهجهم، يقول عبد الصبور شاهين: “ولا نكون مغالين إذا قلنا: إن الحديث عن القياس اللغوي كان نتيجة اجتهاد الفقهاء والباحثين في علوم الشريعة أولا، فقد كان هؤلاء أسبق من اللغويين في مناقشة قضيته كمصدر من مصادر التشريع بعد الكتاب والسنة والإجماع.”[9] ولم يقف الأمر عند هذا الحد. بل راح اللغويون يتخذون منهجهم في بحثهم مثالا جروا على منواله، إذ إن الأصوليين إذ تناولوا قضية من القضايا وأرادوا تعريفها لجأوا إلى اللغة فعاجوا على التعريف اللغوي متعمدين على أمثلة شرعية أصولية وكذلك اللغويون مع القضية نفسها (القياس) مالوا إلى اتخاذ منهج الأصوليين قاعدة لهم فنقلوا عنهم، وحاكوهم في منهجهم. فهذا ابن جني في “خصائصه” يقول: “ينتزع أصحابنا العلل من كتاب محمد ابن المحسن الشيباني صاحب أبي حنيفة لأنهم يجدونها منثورة في أثناء كلامه فيجمع بعضها إلى بعض بالملاحظة والرفق.” [10] وهي وقد جاء في مقدمة كتاب الاقتراح حيث تعرض إلى طرفة أخرى من طرف أصول النحو منها لمح الأدلة في أصول النحو، فأشار إلى ما جاء في مقدمته : “أصول النحو هي التي تفرعت فروعه وفصوله ،كما أن أصول الفقه التي تنوعت عنها جملته وتفصيله ،وفائدته التعويل في إثبات الحكم على الحجة والتعليل والارتفاع من حضيض التقليد إلى يفاع الاطلاع على الدليل فإن المخلد إلى التقليد لا يعرف وجه الخطأ من الصواب ولا ينفك في أكثر الأمر عن عوارض الشك والارتياب”[11]
فهذا الذي قدمناه دليل آخر على أن أصول الفقه سابقة إلى الوجود من أصول النحو، والسيوطي مرة أخرى وهو يحدثنا عن كتابه ومن أين ارتشف مادته يقول:” وضممت إليه نفائس آخر ظفرت بها في مفترقات كتب اللغة العربية والأدب وأصول الفقه.“[12]
ثم يضيف متحدثا عن ترتيبه “ورتبته على نحو ترتيب أصول الفقه في الأبواب والأصول والتراجم“.[13]وإذا كان السيوطي تكلم عن الأصول فيما ذكرنا دون أن يفصح عن القياس، فها قول هو هنا ي مفصحا: “وألحقنا بالعلوم الثمانية علمين وضعناهما، علم الجدل في النحو وعلم أصول النحو، فيعرف به القياس وتركيبه وأقسامه… من قياس العلة وقياس الشبه وقياس الطرد إلى غير ذلك على حد أصول الفقه فإن بينهما من المناسبة ما لا خفاء به، لأن النحو معقول من منقول، كما أن الفقه معقول من منقول.”[14]
وإن الأصوليين ليعولون في تعريف المصطلحات على اللغة واللغويين، ولذا نجد في كثير من كتب أصول الفقه تعريفات مستقاة من بيئة اللغويين ولا تختلف عنها كتعريفهم للقياس مثلا وسأورد هذا المثال تأكيدا على ما قلناه حيث سأل محمد بن الحسن الشيباني الفراء، قال محمد: “ما تقول في رجل صلى فسها، فسجد سجدتين للسهو فسها فيهما؟ ففكر الفراء ساعة ثم قال: لا شيء عليه، فقال له محمد ولم؟ قال: لأن التصغير عندنا لا تصغير له، وإنما السجدتان تمام الصلاة فليس للتمام تمام، قال محمد: ما ظننت آدميا يلد مثلك.”[15] نعم فالاعتماد على اللغة أمر لا مناص منه، ففي الكتب الفقهية والدينية بعامة نجد ما يدعو بإلحاح إلى ضرورة الإلمام بهذه اللغة على أساس أنها مفتاح القرآن وما يتمحور حوله من فقه، وأحكام تشريعية أخرى، فهذا الجرمي يقول: “أنا مذ ثلاثون سنة أفتي للناس في الفقه من كتاب سيبويه“.[16]
العلة الجامعة بين الأصوليين واللغويين
لا مراء، إذا أكدنا أن نفس المصطلحات المستعملة في كتب أصول الفقه هي المصطلحات نفسها المستعملة عند اللغويين، بل يمكننا أن نؤكد على أن الاختلاف بينهما إنما يكمن في حقل الأمثلة المعتمدة عند هؤلاء وأولئك وإذا كان كلامنا هذا عن أصولية القياس فلا غرو أن نؤكد أن الفقهاء كذلك شأنهم شأن اللغويين في بدايتهم لم يغضوا الطرف عن كتب اللغويين ولا استغنوا عنها.
خاتمة:
ختاما نقول إن العلوم اللغوية نشأت جنبا إلى جنب مع العلوم الدينية، وفي بعض الأحيان متأثرة بها. هذه الأخيرة كان لها دور فعال في تنميتها وهذا راجع إلى أن كل منها نشأ مرتبطا بالقرآن الكريم وهذا ما أدى بعلماء الدين واللغة لفهم الدين وصيانته من التشويه واللحن الذي قد يطاله وهذا ما جعل التأثير قائما بين علماء الدين واللغة من خلال توظيف بعض المصطلحات؛ كاتباعهم نفس التقسيم للقياس وهو: الأصل، الفرع، العلة، الحكم، واهتمامهم المشترك باللغة ومسالكها.
[1] البيان والتبيين الجاحظ، ص: 309
[2] تهذيب اللغة، الأزهري، 2/2285 ومعجم مقاييس اللغة، 5/40، والمصباح المنير، الفيومي، ص 10، مادة (قاس).
[3] ينظر: البحر المحيط في أصول الفقه، الزركشي، ج 5، ص: 6.
[4] الإغراب في جدل الإعراب، ابن الأنباري أبو البركات، ص: 46.
[5] إنباه الرواة على أنباه النحاة، القفطي أبو الحسن، ص 1ç
[6] الاقتراح في أصول النحو، جلال الدين السيوطي، ص: 152
[7] هذا التعريف للقياس أصله للقاضي أبي بكر الباقلاني، صرح بذلك الجويني، البرهان في أصول الفقـه،2/5 ونقله عنه الآمدي في الإحكام، ،3/186 والبحر المحيط،7/9.
[8] دراسات لغوية، عبد الصبور شاهين، ص: 14
[9] المرجع السابق، ص: 10
[10] الخصائص ابن جني، ص: 163
[11] الاقتراح في علم أصول النحو، جلال الدين السيوطي، ص 20
[12] المرجع نفسه، ص 22
[13] في أصول النحو، سعيد الأفغاني، ص: 227
[14] الاقتراح في علم أصول النحو، جلال الدين السيوطي، ص 22
[15] ي أصول النحو، سعيد الأفغاني، ص: 227
[16] المرجع نفسه، ص: 105