جهود المنار في بيان سنة الله في إهلاك الأمم “تتمة” (14) سلسلة سنن في إهلاك الأمم
الدكتور رمضان خميس
جهود المنار في بيان سنة الله في إهلاك الأمم “تتمة” (14)
سلسلة سنن في إهلاك الأمم
بقلم: الدكتور رمضان خميس
كما يبين أثر الظلم في هلاك الأمم وعذابها (بأن الله تعالى توعد على الظلم بالهلاك والعذاب كما توعد على الكفر سواء كانا بالمعنى الأول أو الثاني، قال تعالى: «ألم تر إلى الذين بدلوا نعمة الله كفرا وأحلوا قومهم دار البوار جهنم يصلونها وبئس القرار وجعلوا لله أندادا ليضلوا عن سبيله قل تمتعوا فإن مصيركم إلى النار)
الوعيد الأول على كفر النعمة بعمل السيئات وترك الأعمال النافعة الصالحة، والوعيد الثاني على الشرك وكلاهما من وعيد الآخرة، وقال تعالى: (وضرب الله مثلاً قرية كانت آمنة مطمئنة يأتيها رزقها رغدا من كل مكان فكفرت بأنعم الله فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون ولقد جاءهم رسول منهم فكذبوه فأخذهم العذاب)، وفي ذلك بيان لأثر الظلم وكفر النعم في وقوع سنة الله في هلاك الأمم.
وأما وعيد الظالمين بعذاب الدنيا كهلاك الأمة فكثير كقوله تعالى: (وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة إن أخذه أليم شديد) (قال): ترى كثيرا من أغنياء المسلمين عارفين بما عليه أمتهم من الجهل بأمور الدين ومصالح الدنيا وفساد الأخلاق وتقطع الروابط وتراخي الأواخي وما نشأ عن ذلك من هضم حقوقها وانتزاع منافعها من أيدي أبنائها، ويعلمون أن إصلاحهم يتوقف على بذل شيء من أموالهم ينفق على التربية والتعليم ونحوهما من المنافع العامة، ثم هم يدعون إلى بذل قليل من كثير ما خزنوه في صناديق الحديد وما ينفقونه في شهواتهم ولذاتهم وتأييد أهوائهم وحظوظهم فيبخلون بذلك ويرونه مغرما ثقيلا، ولا يحلفون بوعد الله للمنفقين في سبيله ولا وعيده للباخلين بفضله، وأمثال هؤلاء لا يستحقون أن يكونوا من المسلمين، لأنه لا يوجد في نفس الواحد منهم عرق ينبض في التألم لمصائب الإسلام وأهله، فمن كان يرى أن ماله أفضل من دينه في الوجدان والعمل، وهواه أرجح من رضوان الله فهو كافر حقيقة وإن سمى نفسه مؤمنا).
ويبين أنواع الهلاك الذي تتضمنه سنة الله تعالى في الإهلاك وأن الله تعالى لا يهلك أمة بظلم منه لها، ولا بظلمها وهي غافلة، عند تناوله لقوله تعالى ﴿ذلك أن لم يكن ربك مهلك القرى بظلم وأهلها غافلون﴾ أي ذلك الذي ذكر من إتيان الرسل يقصون على الأمم آيات الله تعالى في الإصلاح الروحي والاجتماعي، وينذرونهم يوم الحشر والجزاء، بسبب أن ربك أيها الرسول المبعوث بالإصلاح الأكمل لبقية الأمم كلها، لم يكن من شأنه ولا من سننه في تربية خلقه أن يهلك القرى أي الأمم بعذاب الاستئصال الذي أوقد به مكذبي الرسل، ولا بعذاب فقد الاستقلال الذي أوعد به مخالفي هدايتهم بعد قبولها بظلم منه لهم، أو بعلم منهم وهم غافلون عما يجب عليهم أن يتقوا به هذا الهلاك، بل يتقدم هلاك كل أمه إرسال رسول يبلغها ما يجب أن تكون عليه من الصلاح والحق والعدل والفضائل بما يقصه عليها من آيات الوحي في عصره، أو بما ينقل إليها من يبلغونها دعوته من بعده، فإنما العبرة بالدعوة التي تنبه أهل الغفلة، فلا يكون أخذهم على غرة؛ ذلك بأن من حكمة الله تعالى في الأمم جعل جميع ما ينزل بهم من عقاب جزاء على عمل استحقوه به، فيكون عقابهم تربية لمن يسلم منهم ولكل من عرف سنة الله في ذلك ولهذا عبر بلفظ الرب، ومنه يعلم أن له تعالى الحجة البالغة على خلقه بأنه لا يظلمهم شيئا، وإنما هم الذين يظلمون أنفسهم.
وأن الإهلاك والتعذيب ليس صفة من صفاته النفسية التي لا بد من وقوع متعلقها سواء أذنب المكلفون أم لم يذنبوا، بل هو من أفعاله التي يرثي بها عبادة).
وفي بيان سنة الله في إهلاك الأمم بسبب ظلمها لأنفسها يعرض صاحب المنار عند تناوله لآية: ﴿وربك الغني ذو الرحمة إن يشأ يذهبكم ويستخلف من بعدكم ما يشاء كما أنشأكم من ذرية قوم آخرين إن ما توعدون لآت وما أنتم بمعجزين قل ياقوم اعملوا على مكانتكم إني عامل فسوف تعلمون من تكون له عاقبة الدار إنه لا يفلح الظالمون)).
ويذكر أن هذه الآيات الثلاث مؤيدة للثلاث التي قبلها ومتممة البيان المراد منها.
أما تلك فبيان لحجة الله تعالى على المكلفين الذين بلغتهم دعوة الرسل فجحدوا بها، وتقرير لهم يشهدون به على أنفسهم أنهم كانوا كافرين، وأن عقابهم هنالك حل وعدل – وبيان لسنته تعالى في إهلاك الأمم في الدنيا بجنايتها على نفسها لا بظلم منه بل بظلمها لأنفسها ظلما لا عذر لها فيه – وبيان أن لكل من المكلفين جماعات وافراد درجات في الجزاء على أعمالهم، وحاصل الثلاث أن الأعمال النفسية والبدنية هي التي يترتب عليها الجزاء في الدنيا والآخرة).
ويؤكد أن الهلاك للأمم نوعان صوري ومعنوي، ويؤكد ترتب هذا الهلاك على أفعال المكلفين، فيرى أن هذه الآيات الأخيرة: (في بيان عقاب الأمم في الدنيا بالهلاك الصوري والمعنوي وتحقيق وعيد الآخرة، وكون كل منهما مرتبا على أعمال المكلفين لا بظلم منه سبحانه ولا لحاجة له تعالى فيه لأنه غني عن العالمين، بل هو مع كونه مقتضى الحق والعدل، مقرون بالرحمة والفضل، وهاك تفصيله بالقول الفصل.
ختم الآيات السابقة بقوله تعالى: (وما ربك بغافل عما يعملون) أي بل هو محيط بها ومجاز عليها وبدأ هذه بقوله: (وربك الغني ذو الرحمة، لإثبات غناه تعالى عن تلك الأعمال والعاملين لها وعن كل شيء، ورحمته في التكليف).
ويستدل على أن المراد بالظلم في هذه الآيات هو الشرك بطريقة عقلية إضافة لما ثبت بالنقل بوروده في بيان سبب إهلاك القرى بقوله (وقد بينا في تفسير تلك الآية أن العلم إنما صح تفسيره فيها بالشرك الذي هو أعظم الظلم –وهو نكرة في سياق النفي – لأنه وارد في الظلم الذي يلبس به الإيمان فصح فيه العموم المقيد الذي ورد فيه؛ لأن قليل الشرك يفسد الإيمان ككثيره، وأما الظلم في الآية التي نفسرها الآن وفي آية هود المماثلة لها فقد ورد نكرة في سياق النفي في سياق بيان سبب إهلاك القرى، فيجب أن يكون العموم فيه مطلقا لما ثبت في الآيات الأخرى المؤيدة بوقائع التاريخ من هلاك الأمم بالظلم في الأعمال والأحكام، وبقائها زمنا طويلاً مع الشرك إذا كانت مصلحة فيهما كما هو ظاهر آية هود).
ومن عناية صاحب المنار ببيان سنة الله في إهلاك الأمم وبقائها حديثه المؤكد والمكرر عن أنواع الإهلاك، ثم يضيف أيضا هنا إضافة بديعة إذ يذكر أن سنة الله في الاستئصال لمن كذب وعاند سنة خاصة انقطعت بانقطاع الأمم الماضية، وبقي هلاك الأمم بما يغلب عليها من الظلم والفسق والفجور.
وهذا وإننا قد فصلنا من قبل ما ذكرناه آنفا بالإجمال من أن عقاب الله تعالى للأمم وكذا للأفراد في الدنيا والأخرة أنواع، وأن منه ما يسمى عذاب الاستئصال لمن عاندوا الرسل بعد أن جاءوهم بما اقترحوا عليهم من الآيات الكونية وأنذروهم الهلاك إذا لم يؤمنوا بعد تأييد الله إياهم بها كعاد وثمود وقوم لوط، فسنة الله في ذلك خاصة وقد انقطعت بالقطاع إرسال الرسل إذ ليست جارية على سائر سنن الاجتماع ومنه هلاك الأمم بما يغلب عليها من الظلم أو الفسق والفجور الذي يفسد الأخلاق وتقطع روابط الاجتماع، ويجعل بأس الأمة بينها شديدا فيكون ذلك سببا اجتماعيا لسلب استقلالها وذهاب ملكها بحسب سنن الاجتماع، وقد أنذرنا الله هذا في كتابه وعلى لسان رسوله كما شرحناه من قبل فيراجع تفصيل ذلك فيما مضى من التفسير).
من هنا نستطيع أن نقول – بحق-: إن صاحب المنار دعا المسلمين وألح في دعوتهم، وأرشدهم وصدق في إرشادهم، إلى النظر والتفكر في الكون وما فيه، وعلله وخوافيه، وما حدث لأهله، وما جرى عليهم من سنن الله تعالى – ليقدموا للبشرية النموذج الصحيح والحكم الصادق من خلال سنن ثابتة لا تتغير ولا تتحول، وقد رصد أسباب هلاك الأمم وبقائها وسنة الله تعالى في ذلك وهذا ما سيبين في الصفحات التالية.
*من كتاب سنن الله في إهلاك الأمم دراسة في تفسير المنار*