منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

خطبة في فـضْـل نوافـلِ الصيام في الصيف

خطبة في فـضْـل نوافـلِ الصيام في الصيف / أحمد المتوكل

0

خطبة في فـضْـل نوافـلِ الصيام في الصيف

بفلم: أحمد المتوكل

الحمد لله الذي يُحِبُّ الصَّومَ في الصيفِ، نحمدُه تعالى ونشكرُه فَرَضَ الجهادَ بكل مُتاحِ وبالسيف، ونشهدُ أنَّ سيدَنا محمدا عبدُ الله ورسولُه خَيْرُ مَنْ أَكْرَمَ الضَّيفَ، وجاهَدَ بالسيفِ، وصامَ في الصيْفِ، اللهم صل وسلمْ وباركْ عليه وعلى آله وصَحْبِهِ الذِين كانوا مِنْ خيْرِ العُبّادِ صيفا وشتاء وربيعا وخريفا، فرَضِي الله تعالى عنهمُ أجمعين، وعنَّا معهُمْ برحمتك يا أرحم الراحمين.

أيها المسلمون: إن أغلبَ المُسْلمينَ في هذا الزَّمان ضعُف تمسكهم بشعائر دينهم، فهم لا يُؤَدُّون منها إلا الفرائِضَ، أمَّا النوافِلُ فقَلَّ مِنهمْ مَنْ يُؤَدِّيها، ولا يُمارِسُون كثيرا مِنَ الطاعاتِ إلا في مواسِمِها المَعْروفَةِ وفي أوقاتِها المَعْهُودَةِ وبشَكْلٍ رسْمِيٍّ خالٍ مِنَ الرُّوحِ ومِنَ الإخلاصِ، فإذا انْقَضَى وقتُها نَسُوها وهجَروها ولَمْ يَعُدْ يربِطُهُم بها رابطٌ، ولا يَرْجِعون إليها إلا حينما يجيءُ وقتُها ولكنْ كمَا في المَرَّةِ الأولى.

ومَن إيمانه ضعيفٌ يستَثْقِل الفرائضَ الماليةَ والتكاليفَ الشاقةَ والنوافلَ الصَّعْبَةَ – حسَبَ زعْمِه-، وما ذلك إلا لخَلَلٍ في التربيةِ عندَهُ، وعدَمِ فهمِهِ لدينِه فَهْماً صَحِيحاً، وعَدَمِ أخْذِهِ لتعاليمِ الدِّينِ والتربيةِ والتزكيةِ عنِ العُلماءِ الربانيينَ العامِلينَ.

وفي هذا الموضوعِ سأتحدَّثُ عن سُنَّةٍ هجَرَها أغلبُ المسلمين، ألا وهي فضِيلََةُ الصيامِ في الصيفِ.

أيها المسلمون: يقول الرسولُ الأكرمُ صلى الله عليه وسلمَ: ((إنَّ في الجَنةِ غُرَفاً يُرَى باطنُها مِنْ ظاهِرها، و ظاهرُها مِنْ باطِنها، أَعَدَّها اللهُ لمِنْ أطْعَمَ الطَّعامَ، وأَلانَ الكلامَ، وتابَعَ الصيامَ، وقامَ بالليل والناسُ نِيامٌ))1.

في هذا الحديثِ النبوي المبارَكِ وصْفٌ مِنَ الرسولِ الكريمِ صلى الله عليه وسلمَ لمُقامٍ عظيمٍ في الجنة هيَّأهُ الله في دار كرامته وإنعامه، لمن انتصر على نفسه الشَّحيحية فأكرم الناس وَجاد عليهم وأجلسهم على موائِده، وأكرمهم بفوائده، وتحكَّمَ في فلتات لسانه، فلم ينطق إلا بالطَّيِّبِ اللَّينِ الحسَن مِنَ القَول ذكْرا وتذكيرا، وغالَب شهوات بطنه فغلبها، فصام النوافِلَ وداومَ عليها في كثيرٍ مِنْ أيام السَّنَة، وقام من الليل يصلي ويتهجد ويتعبد، وفي الحديث الشريف حثٌّ وتحفيز وحضٌّ على فعل هذه الخصال الحميدة التي لا ينهض لها ويقوم بها إلا المحسنون الربانيون الذين يتغلبون على شح أنفسهم فيُطعمون الطعام ويجلس على موائدهم الفقراءُ والمعوزون والمُعْدَمون، ويتحكمون في ألسنتهم فلا تقول إلا خيرا، ويَسْلَم الناس من أذاها، ويكابدون النوم ويتغلبون عليه فيقومون في الليل للصلاة والذكر بينما أغلب الناس غاطِّين في نومهم، هائمين في أحلامهم.

عباد الله: لقدْ جاء في السُّنَّةِ النبويةِ القوليةِ الحثُّ على صيامِ التطوعِ في عدةِ منسباتٍ إسلاميةٍ مِنَ السَّنَة القمريةِ، حتى أننا نَجِدُ كلَّ شهر يدخُل في هذا الحَثِّ، والدارسُ لسُنَّةِ الرسولِ الفعليةِ يجدُ أنهُ عليه الصلاةُ والسلامُ واضَبَ على صيامِ التطوعِ وداومَ عليه كما روى عنه أصحابُهُ الكرامُ وأمهاتُ المومنين رضي الله عنهم أجمعين.

فعن عائشةَ رضي الله تعالى عنها قالتْ: “كان النبيُ صلى الله عليه وسلم يتحرَّى صَوْمَ الاثنينِ والخميسِ”2، وعن أبي هريرةََ رضي الله تعالى عنه أنَّ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قالَ: ((تُعْرَضُ الأعمالُ يومَ الاثنين والخميس، فأُحِبُّ أنْ يُعْرَضَ عملي وأنا صائمٌ))3 .

ولقد حَضَّ رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلمَ على صيامِ الأيامِ البِيضِ مِنْ كلِّ شهرٍ قَمَريٍّ فقال: ((صيامُ ثلاثةِ أيامٍ مِنْ كلِّ شهرٍ، صيامُ الدهرِ: وأيامُ البيضِ، صبيحةُ ثلاثَ عشْرةَ، وأربعَ عشْرةَ، وخمسَ عشْرةَ))4، ومعنى الحديثِ أنَّ مَنْ صامَ ثلاثةَ أيامٍ منْ كلِّ شهْرٍ كان كمَنْ صامَ شهْرا كامِلاً لأنَّ الحسنةَ بعشْرِ أمثالها، ومِنْ مجموعِ الأحاديثِ التي تأْمُرُ بصيام التطوع يُفهم أنه لا ينبغي أنْ يَمُرَّ شهرٌ مِنْ شهور العامِ خاليا مِنَ الصيام، فيُسْتَحبُّ الصيام من أشهر السنة كلها.

وضِمْنِيا عندما حثَّنا الرسولُ صلى الله عليه وسلمُ على صيام الاثنينِ والخميسِ وثلاثةِ أيامٍ مِنْ كلِّ شهرٍ، حثَّنا على الصومِ في فصل الصيف وفي غيره، لأنَّ الاثنينَ والخميسَ يأتيان في كلِّ أسبوع، وفي كلِّ شهرٍ، وفي كل فصْلٍ، والأيامُ البيضُ كذلك.

إنه حثٌ بالتلميحِ على الصيامِ في فصلِ الصيفِ وفي غيره مِنْ فصولِ السنة.

فحريٌ بنا أنْ نصومَ كثيرا مِنْ أيامِ الله في فصْلِ الصيف، لاسِيَما الأيامَ الفاضلةَ، ومَنْ قَدَرَ على صيامِ داودَ فذلكُ أفْضَلُ، وهو أنْ يُصَامَ يومٌ ويُفْطَرَ آخرُ، وهو أحبُّ الصيامِ إلى الله عز وجلَّ، ولا صيام أفضل منه، وإذا كانَ ذلكَ ثقيلا علَى نفوسِ كثير من ناسِ هذا الزمان، أفلا نَصومُ الأيامَ البيضَ؟.

أيها المسلمون: لقدِ اعتَبَرَ الفاروق عمرُ رضي الله عنه الصومَ في شِدَّةِ الحرِّ مِنْ خِصالِ الإيمانِ التي وصَّى بها ابنَه عبدَ الله عندَ موتِه، قائِلاَ لهُ: “عليك بخصالِ الإيمانِ”.. وسمَّى أوَّلَها: “الصوم في شدة الحر في الصيف”5.

ووصيةُ عمرٍ رضي الله عنهُ سنَّةٌ يجبُ التمسكُ بها لأنَّ الله جعلَ الحقَّ على قلبِه ولسانِه، ولأنَّ الرسولَ صلى الله عليه وسلمَ أوْصَى بالتمسكِ بسُنَّةِ الخلفاءِ الراشدينَ المهديِّينَ مِنْ بعدِه.

وعبدُ اللهِ ابنُ عمرَ الابنُ البارُّ المُطيعُ سمِعَ مِنْ أبيهِ فأطاعَ، وحفِظَ الوصيةَ فَوَعَى، وتَمثَّل َورعى، ولقد كانَ رضي الله عنهُ “يصومُ تَطَوُّعاً فيُغْشَى عليه فَلا يُفطِرُ”6.

وقولُ الصحابيِّ وفِعْلُهُ حُجَّةٌ شرعية في هذا المقامِ كما هو مِنْ مصادِرِ التشريعِ في المذهبِ المالكِيِّ.

أيها المسلمون الأعزاء: قدْ تستَثْقِلُ نفوسُ بعضِ الناسِ صومَ التطوُّعِ في الأيامِ عامَّةً وفي الصيفِ خاصَّةً، وتُوحِي النفوسُ الضَّعيفَةُ الساقِطةُ الهمَّةِ إلى أصْحابِها أنَّ صيامَ الصيفِ فيه مشقَّةٌ وعُسْرٌ، ودينُنا دين رحمة لا دين مَشقةٌ، وشريعتنا شريعة تَيْسير لا شريعة  تعسير، وأنه ليسَ منَ الدينِ إتعابُ النفْسِ وإلحاقُ المشقَّةِ بها، وكل هذا حق تتحَجَّجُ به النفوس المتكاسلة الخاملة القاعدة الجامدة.

ويُعرقِلُ الشيطانُ اللئِيمُ العبدَ بوساوسه وإِيحاءاتِه المُضِلَّةِ، ويُوحي لهُ بأنَّ صيامَ التطوعِ يُؤجَرُ فاعلُه ولا يُعاقََبُ تاِركُهُ، فلا داعِيَ لأن يُتْعِبَ المسلم نفسَه بصيامٍ غيْرِ مفروضٍ عليه في وقت شديد حرُّه، متوقعٍ ضُرُّه، وتتدخل النفس الأمارة بالسوء فتزين الماء البارد لأصحابها.

رَحِمَ اللهُ الجيلَ الأَوَّلَ مِنْ هذهِ الأمَّةِ، لقدْ عَرَفوا فَضْلَ الأزمِنَةِ وفَضْلَ الأمكنَةِ وفَضْلَ الأخيار، وفَضْلَ الأعمالِ الصالحَةِ، فبادَرُوا إليها وتواصَوْا بها، ولمْ يَنشَغِلوا عنها بمفاتِنِ الدنيا، ولَمْ يَفُتْهُم أيُّ فضْلٍ مِنْ كلِّ خيرٍ، وبهذا أصبَحُوا نماذِجَ مُنيرَةً لِمَنْ أتَى بعدَهُمْ في العَمَلِ.

عباد الله: إن الصوم في الصيفِ يَدُلُّ على رُسوخِ الإيمانِ وقُوةِ الإيقانِ، وهو طريقٌ موصِلٌ إلى الإحسانِ، ويُكْسِبُ صاحِبَهُ رضى الرحمانِ، وبه ينجو منَ النيرانِ، ويَدْخُلُ الجِنانَ، ويَنْظُرُ إلى وجهِ الله الملك الديان.

الصائِمُ في الحرِّ في وقْتِ الهَرْجِ وأيامِ الفِتَنِ والابتعادِ عنِ الدِّينِ والانشغالِ بالتوافِهِ والملاهي والملذات وحِينَ غفلَةِ النَّاسِ هو كمَنْ هاجَرَ إلى النبِيِّ صلى الله عليه وسلم، عن مَعْقِلِ بْنِ يَسَارٍ عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: ((الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ كَهِجْرَةٍ إِلَيَّ))7.

والصائمُ في أيامِ الصيفِ المُتميزةِ بطُولِ ساعات النهار، وبشدَّةِ الحرارةِ فيها، يتعبَّدُ للهِ بالصيام ساعاتٍ طويلة، بخلافِ الذي يصومُ يوماً ساعاتُه قليلةً، وحرارته ضئيلة، فالأَولُ يُؤْجَرُ كثيرا، لأنَّ مَنْ بَذَلَ جُهْدا مُضاعَفاً في عَمَلٍ صالِحٍ ما، ونالَتْهُ فيه المشقةُ والتَّعبُ نالَ أجْرا كثيرا وعَطَاءً عظيما، وهذا ما فطِنَتْ له إحدى الصالحاتِ حيثُ كانت” تَتَوخَّى8 أشدَّ الأيام حرّاً فتصومَهُ فيُقالُ لها في ذلك فتقولُ: إن السِّعْرَ إذا رَخُصَ اشتراهُ كلُّ أَحَدٍ”9.

كانت رحمَها اللهَ تسارِعُ إلى العملِ الصالحِ حينَ يصْعُبُ على ضِعافِ النُّفوسِ وساقِطِي الهِمَمِ، وهذا مِنْ عُلُوِّ هِمَّتِها وحِرْصِها على الثَّوابِ الكثيرِ الذي يكونُ مَعَ العملِ الصَّعْبِ الشَّاقِّ.

كان أبو موسى الأشعري رضي الله عنه معَ صِحَابٍ له في سفينةٍ فسَمِعَ هاتفا يقول:” ألا أخبِرُكُمْ بقضاءٍ قَضاهُ اللهُ على نفسِهِ؟، قالوا: بلْ أخْبِرْنا، قال: فإنَّ اللهَ قَضَى على نفسِهِ أنه مَنْ عطَّش َ نفسَهُ لله في يومٍ حارٍّ كان حقا على الله أنْ يَرويَهُ يوم القيامة10″، فكانَ أبو موسى يَختارُ اليومَ الحارَّ الشديدَ الذي يكادُ الإنسانُ يَنْسَلِخُ منه فيصومه.

ومما كُتِبَ في التوراةِ:” طُوبَى لِمَنْ جَوَّعَ نفسَهُ ليومِ الشِّبَعِ الأكبرِ، طوبى لِمَنْ عطَّش نفسَهُ ليومِ الرَّيِّ الأكبَرِ”11.

قال الحسنُ رضي الله عنه: تقولُ الحَوْراءُ لولِيِّ اللهِ وهو متكِئٌ معها على نهرٍ في الجنةِ تُعاطِيهِ الكأسَ في أنْعَمِ عِيشَةٍ: أتَدْرِي أيَّ يومٍ زوَّجَنِيكَ الله؟، إنَّهُ نظَرَ إليك في يومٍ صائِفٍ بعيدٍ ما بيْن الطَّرَفَينِ12، وأنْتَ في ظَمَإِ هاجرةٍ مِنْ جَهْدِ العَطَشِ، فباهى بِكَ الملائكَةَ وقال: انْظُرُوا إلى عَبْدِي تَرَكَ زوجَتَه ولَذَّتَهُ وطعامَهُ وشرابَهُ مِنْ أجْلِي رغبَةً فيما عندي، اشْهَدُوا أنِّي قد غفرْتُ لَهُ، فغَفَرَ لكَ يومئِذٍ وزوَّجَنِيكَ”13.

الله أكبر: ما أعظمها من عطية، على أجمل مزية.

أيها المؤمون: الصائمُ في أيامِِ القَيْظِ غريبٌ بيْنَ أصحابه، فريدٌ في بابِه، مجاهدٌ بطلٌ صَلْبُ العُودِ، قَوِيُّ الشَّكيمَةِ، صاحِبُ طُموحٍ وعزيمَةٍ، لا يرضى أمامَ نفسِه وشيطانِه بالهزيمَةِ، تحكَّمَ في زِمامِ نفْسِه فغَلَبَها وأرغَمَها على الصيامِ في أولِ الأمرِ وهي كارهَةٌ، وأخَذَ يُرغِّبُها تارةً ويُرهِّبُها تارةً، ويُروِّضُها ويُحَفِّزُها ويُدَرِّبُها على الصيام أياما حتَّى ذاقَتْ وأحبَّتْ واشتاقَتْ وأذْعَنَتْ وأَلِفَتْ وداومَتْ عليه بفَرَحٍ ونشاطٍ ونَشْوَةٍ ولَذَّةٍ وحَلاوَةٍ.

والمُمْسِكُ عنِ الطعامِ والشرَّابِ واللذائذ في أيامِ الحَرِّ والصَّهْدِ يَجُوعُ إذا شبِعَ غيرُه، ويَظْمَأُ إذا رَوِيَ بالماء البارد سواهُ، هو بفعلِهِ هذا كالذاكِرِ بيْنَ الغَافِلِينَ، وكالمُجاهِدِ بيْنَ القاعِدِينَ، لا يَكْتَرِثُ بنَهَمِ الناهمين، ولا بتنَعُّمِ المُتَنَعِّمينَ ولا بتلَذُّذِ المتلذذين.

الصائمون في اليومِ الصائِفِ رجالٌ زُهَّادٌ، ونُسَّاكٌ عُبَّادٌ، قانِعون وَرِعُون، لا تَغلِبُهُمْ بُطونهم، ولا ينْجَرُّونَ وراء قُتارِ14 المَوائِدِ، ولا تُغْرِيهِمْ ألَذُّ المأدُباتِ لأنهُمْ أعْطَوُا العهدَ للهِ بالجُوعِ تَقَرُّباً وتَحَبُّباً إليهِ، تَخْوَى مَعِدَتُهُمْ لتمتلئ صَحائِفُهُمْ، وتَجُوعُ بُطونُهم لتشبَع أرواحُهُم، وتَجِفُّ ألسنتُهُمْ وحُلُوقُهم لتَرْوَى يومَ القيامَةِ بما هو أبْرَدُ مِنَ الثلْج وأحلى مِنَ العسلِ وأبيضُ مِنَ اللَّبَنِ.

يَظُنُّ بعضُ الناسُ أنَّ صائمَ الصيفِ يُعذِّبُ نفْسَهُ، وهو في الحقيقة يُربِّيها ويُمَتِّعُها ويُسَليها، ويقولون أنَّهُ يُظمِئُها وهو مِنْ أنهارِ الجنَّةِ يَرْوِيها، ويَزْعُمُ الواهِمُونَ أنَّهُ يُأْلِمُ بطنَه بالجوعِ وهو مما عند الله يُغَذِّيها.

صائمُ الصيفِ مُحسنٌ في قِمَّةِ الإحسان، عَرَفَ الرحمانَ، وعبده بإيقان، عبَدَهُ بجوارِحِه وبالجَنانِ، وليٌ للهِ مُحِبٌّ محبوبٌ، جَوارِحُهُ ذاكِرَةٌ وإنْ غَفَلَ، عابِدةٌ وإنْ لمْ يَعبُدْ، خاضعةٌ ساجدةٌ وإنْ لمْ يسْجُدْ، يقِظَةٌ وإنْ يرقُدْ، وقَّافَةٌ عندَ حُدودِ الله لَمْ تَشْرُدْ، مُجاهِدةٌ وإنْ يقعُدْ.

مُمسك بشدة بزمام نفسه فلا يُغْرِيهِ الماءُ البارِدُ ولا الأكلُ الشهِيُّ اللذِيذُ، ولا تستَهْويهِ في النهار فواكِهُ الصيفِ الغنيةُ بالماءِ وبما تحتاجُه الأجسامُ في أيام الصيفِ الحارةِ، يكادُ يَجِفُّ حلقُه ويَنْشَفُ لسانُه فما يَكْرَعَُ15، وتَخْوَى أمعاؤُه فما في الطعام يَطْمَعُ، أبِيُّ النفس، أعْرَضَ عن هَواهُ، وأطاعَ مولاه، وتَحَكَّمَ في نفْسِه فارتاحَ وأراحَ، ساحَتْ روحُه في بساتِينِ الطاعاتِ، وتمتعَتْ بأريجِ النَّفَحاتِ، لتنْجُوَ في الآخرةِ منَ النار ذاتِ اللَّفَحَاتِ، وتنالَ أفضَلَ العطآءات والهِبات.

عباد الله: عَلِمَ المؤمِنُ أنَّ الجزاءَ على الصيامِ لا يَعْلَمُهُ إلا اللهُ وحدَهُ، وأنَّهُ سبحانَهُ وتعالى أفْرَدَ للصائمين بابا مِنْ أبواب الجنَّةِ خاصّاً بِهِمْ، لا يدْخُلُهُ غيرُهُمْ فإذا دخلوا أُغلِقَ، فأكثَرَ منَ الصيامِ في الصيفِ وصَبَرَ على الجُوعِ والحَرِّ وشِدَّةِ العَطَشِ وطُولِ النهارِ.

أيها الناس: يُعْرَفُ فصْلُ الصيفِ عنْدَ كثيرٍ من الناسِ في هذا الزمان بأنهُ فترةٌ للراحةِ والدَّعَةِ والخُمولِ والتَّرويحِ واللَّهوِ، وتَغْلِبُ فيهِ عليهِمُ العادةُ والغفلة والبِطالة، ويقضُون أوقاتَهم فيه في اللهوِ واللعبِ بَدَلَ الجِدِّ والاجتهاد والطاعة.

والذي يبحثُ في سِيَرِ الصّالِحينَ في القُرُونِ الأُولى وخلال التاريخِ الإسلامِيِّ تَظْهَرُ له القُدْوَةُ الحسنَةُ، ويجِدُ مِنْ أمْرِهِمْ عَجَباً، و يَجِدُ لهُمْ في فِعْلِ خِصَالِ الخير رَغَباً، ومِنَ الشَّرِ هَرَبا ورهبا، وإلى حضراتكم أُقدِّمُ هذه النماذج من الصالحين ممن صام أيام الحَـِّر لعلكم تفعلون ما فعلوا، فتحصُلون على ما حصلوا، وتنالون ما نالوا.

كانَ الصحابَةُ والتابعونَ والصالحونَ في كلِّ زمانٍ وكُلِّ مكانٍ رضي الله عنهُمْ يَتَفَنَّنُونَ في طاعةِ ربهِم، ويجتَهِدُون في عبادةِ ربِّهِمْ بكُلِّ أنواعِ الطاعاتِ في كل الأوقاتِ للاقترابِ منه سبحانه ونيلِ رضاه وطَمَعاً فيما عندَه، فهُمُ الذِينَ ابتَكَرُوا ما سُمِّيَ بـ”ظَمَإِ الهَوَاجِرِ”16، الذي هُو الإكثارُ منَ الصومِ في شِدَّةِ الحَرِّ، باعتبارِهِ ممَّا يُضاعِفُ الثَّوابَ، لمَا فَيهِ منَ الظمَإِ والمَشَقَّةِ ومُغالبَةِ الهَوى في اليومِ الشديدِ الحرارَةِ.

كانوا رضي الله تعالى عنهُمْ يُحِبُّون فصْلَ الصيفِ حبًّا شديدًا، كحبِّهم لأي شيءٍ يُساعِدُ على طاعة الله ورضاه سبحانه وتعالى، أو يَكُونُ سببًا في تحصِيلها، مَلَئُوا أيامَهُ بالطاعاتِ والقرُبَاتِ، وشَجَّعُوا على اغتنامِها بقَوْلِهم وبفعلهم، وما ذلك إلا لعُلو همتهم، واجتهادهم في الخير، كانوا كثيرا ما يُجَوِّعون بُطونَهم ويُعَطِّشون أنفُسَهم لله في الأيام الحارَّةِ مِنْ أجْل أنْ يروِيَهُمُ اللهُ تعالى وُيطعِمَهم منْ أفضلِ ما عنده في يومٍ أشدَّ حَرًّا من أيام الدنيا. وكذلك فعَل الصحابة رضي الله عنهم الذين كانت دلائل الربانية بادية في سلوكهم إلى الله عز وجل في رمضان وغيره. فلم يكن هذا الشهر الفضيل مقيدا لأحوالهم في المسارعة إلى مغفرة من ربهم وفضل، وإنما كانوا يترصدون لصلتهم بالله عز وجل كل الأوقات الشريفة من السنة كيوم عرفة ورمضان والجمعة والأسحار، بل كانوا يرقبون في ذلك كل لحظة من لحظات العمر؛ حتى سار ليلُهم ليلَ رمضان، ونهارُهم نهاره، وحالهم فيه كحالهم في بقية الشهور.

وإليكم أسُوقُ هذه النماذج المنورةَ للاقتداء والتأسي:

“عن حارثة بن مالك رضي الله عنه، أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال له: “كيف أصبحت يا حارثة ؟” قال: “أصبحت مؤمنا حقا”. قال: “انظر ما تقول، فإن لكل شيء حقيقة، فما حقيقة إيمانك؟” فقال: “قد عزفت نفسي عن الدنيا، فأسهرت لذلك ليلي، وأظمأت نهاري، وكأني أنظر إلى عرش ربي بارزا، وكأني أنظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها، وكأني أنظر إلى أهل النار يتضاغون فيها”. فقال: “يا حارثة عرفت فالزم” ثلاثا”. رواه البزار رحمه الله.

كان أبو الدرداءِ رضي الله عنه يقول:” صُومُوا يوماً شديداً حرُّهُ لحرِّ يومِ النشور، وصَلُّوا ركْعتينِ في ظُلمةِ الليل لظلمة القبور”17، و كان قولُ أبي الدرداءِ كفعلِه.

ولقد أثُِر عن كثيرٍ مِنَ الصالحينَ عند الاحتضارِ أنهم بَكَوْا على صيامِ أيام الصيف الذي سيُحرَمون منه بالموت: ومِنْ ذلك أنه لما احتُضِرَ أحدُهُم بكى فقيل له: أتجزَعُ منَ الموت وتبكي، فقال: ما لي لا أبكي، ومَنْ أحَقُّ بذلك منِّي؟، واللهِ ما أبكِي جزَعاً من الموت، ولا حِرْصاً على دُنياكم، ولكنِّي أبكي على ظمإ الهواجر وقيامِ ليلِ الشتاء.

وبكى الصحابيُّ الجليلُ معاذٌ رضي الله تعالى عنه عندَ احتضارهِ، وقال لما سُئِلَ عن سببِ بكائِه:” إنما أبكي على ظمإِ الهواجر، وقيامِ ليلِ الشتاء، ومزاحَمَةِ العلماء بالرُّكَب عند حِلَقِ الذِّكْرِ”.

الله أكبر: يا لها من نفوس عظيمة تواقة، لما عند الله مشتاقة، شَغَلَها حبُّ فِعْلِ الخير والاستزادةِ منه في أعسر اللحظات وأشد الأوقات.

ولقد وقف أبو ذر الغفاري رضي الله عنه ذات يومٍ أمام الكعبةِ ثم قال لأصحابه:” أليس إذا أراد أحدُكُمْ سَفَراً يستعِدُّ له بزادٍ؟ قالوا: نعَم، فقال: فسفَرُ الآخرةِ أبْعَدُ مما تُسافرون، فقالوا: دُلَّنا على زاده، فقال: حُجُّوا حجةً لعظائمِ الأمور، وصَلُّوا ركعتينِ في ظلمةِ الليلِ لوحشة القبور، وصُومُوا يوماً شديداً حرُّه لطول يومِ النشورِ”18.

وكان الإمام أحمد رضي الله عنه يصوم حتى يكادُ يُغمَى عليه، فيَمسحُ على وجههِ الماءَ، وسئِلَ عمن يصومُ فيشتد عليه الحر، قال: ” لا بأس أن يَبُلَّ ثوبا يتبردُ به، ويصُبُّ عليه الماءَ”19.

قال القاسم بن محمد: كانت عائشةُ تصومُ في الحر الشديد، قيل له ما حَمَلَها على ذلك؟ قال كانت تُبادِرُ الموتَ 20. بهذه الأعمال كانوا يستعدون للموت يا من تحرصون على الدنيا بأسْوَء الأعمال.

و رُوِيَ عنْ أبي بكرٍ الصديقِ أنه كان يصومُ في الصيف ويُفطِرُ في الشتاء.

عن عثمان بن القاسم قال: لما هاجرت أم أيمن أمست بالمنصَرَف دون الروْحاء فعطشت (وليس معها ماء) وهي صائمة، وجَهِدتْ، فدلي عليها من السماء دلو من ماء برشاء أبيض، فشربت، وكانت تقول: “ما أصابني بعد ذلك عطش، ولقد تعرضْتُ للعطش بالصوم في الهواجر فما عطِشتُ”21.

وإلى الأَكَّالِين الذِين غلبتْهُم بُطونُهم حتى ما قاموا من مائدة إلا وفكَّروا في التي تليها أسوق هذه الواقعة:

نَزَلَ روحٌ بنُ زنباعٍ منزلا بيْن مكةَ والمدينةَ في حرٍ شديدٍ، فانقَضَّ عليهِ راعٍ من جبلٍ فقال له: يا راعٍ هَلُمَّ إلى الغِذاء، قال: إني صائمٌ، قال: أتَصومُ في هذا الحر؟، قال أفأَدَعُ أيامي تَذهبُ باطلا، فقال روحٌ: لقد ضَنَنْتَ22 بأيامكَ يا راعٍ إذْ جاد بها روح بن زنباع23″ أي بَخِلْتَ بأيامِكَ أنْ تذْهَبَ باطلا حين فَرَّطَ فيها غيرُك.

وخرَجَ ابنُ عمرَ في سفرٍ معه أصحابُه، فوضعوا سُفْرَةً لهم، فمَرَّ بهم راع فدعَوْهُ إلى أنْ يأكُلَ معهُم، قال إني صائمٌ، فقال ابنُ عمرَ: في مثلِ هذا اليومِ الشديدِ حرُّهُ وأنتَ بيْنَ هذهِ الشِّعابِ في آثارِ هذهِ الغَنَمِ وأنتَ صائمٌ؟!. فقال أبادِرُ أيامي هذه الخاليةَ، فَعَجِبَ منه ابنُ عمرَ”24، وكان بينهما كلامٌ دَلَّ على وَرَعِ وزُهْدِ وصَلاحِ الراعي العبدِ، ولَمَّا رجَعَ إلى المدينةِ اشترى منهُ الغنَمَ وأعتقَهُ ومنحهُ ثمنَ الغنمِ.

سبحانَ الله! جُوعٌ وزُهْدٌ وتقلُّـلٌ وقناعةٌ في تلك العُهود عندَ أولئك الرجال، وشِبَعٌ وجَشَعٌ وطَمَعٌ وحِرْصٌ على متاع الدنيا عندنا اليوم.

وبعدُ: فالأحاديث النبوية التي تُظهِر فَضْلَ صيام النوافل كثيرةٌ، فليحرِصِ المسلمُ على كثرة التزود من هذه العبادة ما دام في صِحَّةٍ وعافيةٍ، لأن الوقتَ يمضي سريعا، وعُمُرُ الإنسان قصيرٌ، والموتُ يأتي بغتةً، وما تدري نفسٌ ماذا تكسبُ غدا، وما تدري نفسٌ متى و بأي أرضٍ وبأي سببٍ تموت.

وإلى أصحاب البطونِ الكبيرةِ المتدليةِ التي لا تَشْبَعُ منْ كثْرةِ الأكلِ على مدار أيام العام أَسُوقُ هذه الأحاديثَ النبويَّة، قال عليه الصلاة والسلام: ((إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لا يَزِنُ عِنْدَ اللَّهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ وَقَالَ: اقْرَءُوا:{فلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا}))25، وفي رواية البيهقي:((العظيمُ الطويلُ الأكولُ الشَّرُوبُ)) 26.

وعن ابن عمر رضي اللَّه عنهما: أن رجلا تجشأ عند رسول اللَّه صلى الله عليه وسلم فقال له: ((يا هذا! كُفَّ من جشاءك27، فإن أكثرَ الناس شِبَعا في الدنيا؛ أَكْثَرُهُمْ جوعا يوم القيامة))28.

فَكُلُوا اليومَ كثيرا إنْ شئتُم أنْ تَجُوعوا غدا، أو جُوعُوا- بالصوم- هنا لتَشبَعوا في الجنة أبدا،{من عمِلَ صالحا فلنفسه، ومَنَ أساء فعليها، وما ربُّكَ بظلام للعبد}29.

اللهم اجعلنا من الصوامين القوامين، وأشغلنا بالأعمال الفاضلة في الأوقات المباركة، واختم لنا بخير عمل، وجنِّبنا الخطأ والزلل في القول والعمل، يا من يُدعَى فيجيب، ويا من يُسأل فيُعطِي، آمين والحمد لله رب العالمين.


1 – رواه أحمد وابن حبان والطبراني في الكبير بسند رجاله ثقات

2 –  رواه الترمذي كتاب الصوم باب ما جاء في صوم الاثنينِ والخميسِ وقال: حديث حسن

3 –  رواه الترمذي كتاب الصوم باب ما جاء في صوم الاثنينِ والخميسِ وقال: حديث حسن

4 –  رواه النسائي كتاب الصيام باب كيف يصوم ثلاثة أيام من كل شهر  بإسناد جيد والبيهقي عن جرير

5 –  ابن رجب الحنبلي لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف 402

6 –  نفسه ص 403

7 –  رواه مسلم في كتاب الفتن وأشراط الساعة باب فضل الْعِبَادَةُ فِي الْهَرْجِ

8 – تَوخَّى الأمرَ يتوخاه تَوَخِّياً:قصَدَ إليه وتَعَمَّدَ فِعْلَهُ

9 – لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف 402

10 – نفسه ص 402

11 – نفسه ص 402

12 أي: يوم طويل بعيد ما بين الفجر والمغرب كيوم الصيف

13-  لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف 402

14 – القُتارُ هو: رائحة الطبخ والموائد

15 –  كَرَعَ يَكْرَعَُ كَرْعا: شَرِبَ مباشرة بفمه من غير كف أو إناء

16 – الهاجرة جمع هواجر: نصف النهار عند اشتداد الحر، المعجم العربي المُيَسَّرُ ص: 519.

17.- لطائف المعارف فيما لمواسم العام من الوظائف لابن رجب الحنبلي 403

18- من وصايا الرسول (2. 458 ) طه عبد الله العفيفي دار الحديث القاهرة

19- لطائف المعارف ص 403

20- نفس المصدر ص 402

21- صحابيات حول الرسول محمود المصري ص 297

22 –  بخلت

23 – صحابيات حول الرسول محمود المصري ص 403

24  – نفسه ص 403

25 – رواه البخاري عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ كتاب تفسير القرآن

26 – انظر المنتقى من الترغيب والترهيب للقرضاوي ج 2 حديث رقم  :1253

27 –  الجُشاء هو: خروج الهواء بصوت من المعدة عن طريق الفم عند حصول الشبع، وقد يكون من المرض.

28 –  أخرجه الترمذي بإسناد ضعيف، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب 2136 وفي صحيح الجامع الصغير وزيادته 1179 وحسنه في مشكاة المصابيح 5121

29 –  سورة فصلت الآية:46

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.