﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزء الأول- (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزء الأول- (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”/ د.فاطمة الزهراء دوقيه
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزء الأول- (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
بقلم: د.فاطمة الزهراء دوقيه
ونستمر حديث التزكية لنصل إلى محورها الثاني المتعلق بإخراج النفسية المستقيمة.
لما علمتَ أن التزكية تبدأ بتشكيل عقلك الأقوم بالتوحيد في شكل تصورات ومعارف اعتقادية كونية يقينية، ومنهج للفكر والتفكير، ليصاغ على شاكلة وخصائص معينة، وميزات خاصة:﴿صِبۡغَةَ ٱللَّهِ وَمَنۡ أَحۡسَنُ مِنَ ٱللَّهِ صِبۡغَةࣰۖ وَنَحۡنُ لَهُۥ عَـٰبِدُونَ﴾ البقرة:١٣٨، فإنها لا تكتمل إلا إذا عملت في جانب داخلي آخر فيك، هو الدافع المباشر للفعل والحركة، وهو نفسك التي بين جنبيك بــ”معناها الخاص متمثلاً فيما يكون محلا للأحاسيس والعواطف والنوازع والآمال وغيرها مما هو في معناها”[1]، وتزكيتها معناها “تطهيرها من أمراض وآفات، وتحققها بمقامات، وتخلقها بأسماء وصفات”[2]..
ولأنك صاحب رسالة الخلافة في الأرض، بما هي تنفيذ حكم الله فيها، وتغيير الأوضاع إلى ما يحب ويرضى، لن تصلح لها إلا إذا كنت طاهر النفس، ومن لم يكن طاهر النفس، لم يكن طاهر القول والفعل؛ فكل إناء بالذي فيه ينضح، والله تعالى يقول:﴿وَالْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَبَاتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَالَّذِي خَبُثَ لاَ يَخْرُجُ إِلَّا نَكِدًا﴾الأعراف:٥٨. ولأجل أنه لا يطيب عمل من خبثت نفسه قال تعالى: ﴿أُولَئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوَى﴾[3].. إنه امتحان التزكي كامل الأبعاد وتام المحاور، والله تعالى يقول:﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟ فَلَا خَوۡفٌ عَلَیۡهِمۡ وَلَا هُمۡ یَحۡزَنُونَ﴾ الأحقاف:١٣.
فالقول “ربنا الله” معرفةً يقينيةً واعتقاداً وتصوراً ومنهجاً للعقل لا يكفي وحده، بل لا بد:﴿ثُمَّ اسْتَقَامُوا﴾، فهنا بعدٌ آخر “استقامة النفس وطمأنينة القلب، استقامة المشاعر والخوالج، فلا تتأرجح ولا تضطرب، ولا تشك ولا ترتاب بفعل الجواذب والدوافع والمؤثرات، وهي عنيفة ومتنوعة وكثيرة، واستقامة العمل والسلوك على المنهج المختار، وفي الطريق مزالق وأشواك ومعوقات؛ وفيه هواتف بالانحراف من هنا ومن هناك! ‘ربنا الله’ منهج، والاستقامة عليه درجة بعد معرفته واختياره”[4].
فـــ”التزكية في النهاية: تطهر وتحقق وتخلق، ولذلك وسائله المشروعة، وماهيته وثمراته الشرعية، ويظهر آثار ذلك على السلوك، في التعامل مع الله عز وجل ومع الخلق، وفي ضبط الجوارح على أمر الله”[5].
إن الحديث إذاً عن تزكية النفس هو عن ذلك المنهج التربوي الذي رسمه القرآن لك كاملاً غير منقوص، يتلخص في ذاك الوصف الرباني والنداء الخالد:﴿یَـٰۤأَیُّهَا ٱلَّذِینَ ءَامَنُوا۟﴾، إنه منهج الإيمان، الذي هو”في حقيقته عمل نفسي يبلغ أغوار النفس، ويحيط بجوانبها كلها”[6]، هو ذلك الإذعان القلبي وتلك الحرارة الوجدانية القلبية التي تبعث على العمل بمقتضيات العقيدة، والالتزام بمبادئها الخلقية والسلوكية والجهاد في سبيلها بالمال والنفس، والله تعالى يصف ذلك بقوله:﴿إِنَّمَا ٱلۡمُؤۡمِنُونَ ٱلَّذِینَ إِذَا ذُكِرَ ٱللَّهُ وَجِلَتۡ قُلُوبُهُمۡ وَإِذَا تُلِیَتۡ عَلَیۡهِمۡ ءَایَـٰتُهُۥ زَادَتۡهُمۡ إِیمَـٰنࣰا وَعَلَىٰ رَبِّهِمۡ یَتَوَكَّلُونَ﴾ الأنفال:٢.[7]
يتمثل هذا المنهج التربوي إذاً في تلك الجملة من التكليفات الربانية، وفيما أُلزمتَ به من التصديق القلبي بالمبادئ الاعتقادية، وأنواع العبادات التهذيبية والفضائل والقيم الأخلاقية [8]، تكثفه عبارة الإيمان، الذي هو قوة جعلها الله تعالى داخلك لتزكي نفسك وترتقي بها، وتغير ما بها. هو قضية وجودك الكبرى، وواهم من يعتبرها مسألة هامشية يجوز الغفلة عنها والاستخفاف بها، فهي قضية المصير؛ إنها لَجنَّةٌ وسعادة أبداً، أو لنار وشقوة أبداً ..
والإنسان بلا إيمان، كريشة في مهب الريح، لا تستقر على حال، ولا تعرف لها وجهة، ولا تسكن إلى قرار مكين، ليس له قيمة ولا جذور.. تراه قلقاً متبرماً حائراً، لا يعرف حقيقة نفسه ولا سر وجوده، لا يدري من ألبسه ثوب الحياة، ولماذا ألبسه إياه؟ ولماذا ينزعه عنه بعد حين؟! وَإِلَى أين يسير ويصير؟ .. بغير إيمان هو حيوان شره أو سبع فاتك، لا تستطيع الثقافة ولا القانون -وحدهما- أن يحدا من شراهته، أو يقلما أظفاره. والمجتمع بغير إيمان غابة موحشة، يأكل فيه القوي الضعيف، وإن لمعت فيه بوارق الحضارة، لأن الحياة والبقاء فيه للأقوى لا للأتقى، مجتمع تعاسة وشقاء، وإن توفرت كل أدوات الرفاهية وأسباب النعيم. مجتمع تافه، لأن غايات أهله محصورة في الحاجات المادية، أو كما يصف تعالى:﴿وَٱلَّذِینَ كَفَرُوا۟ یَتَمَتَّعُونَ وَیَأۡكُلُونَ كَمَا تَأۡكُلُ ٱلۡأَنۡعَـٰمُ وَٱلنَّارُ مَثۡوࣰى لَّهُمۡ﴾ محمد:١٢، ويقول:﴿یَعۡلَمُونَ ظَـٰهِرࣰا مِّنَ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا وَهُمۡ عَنِ ٱلۡـَٔاخِرَةِ هُمۡ غَـٰفِلُونَ﴾ الروم:٧.
والعلم العصري وإن امتد رواقه، واتسعت ميادينه، لا يستطيع تحقيق السعادة والطمأنينة للناس، لأن دوره أن يهيئ لهم وسائل الحياة، ولكنه لم يهدهم إلى غاياتها، زين لهم ظاهرها، ولكنه لم يصلهم بأعماقها وما ورائياتها.. وما أتعس الإنسان إذا أغرقته الوسائل فذهل عن الغايات، وإذا شغل بالسطح عن القاع، وبالقشر عن اللباب![9]. وقد ورد أن النبي ﷺ قال:{من كانت الدنيا همه، فرق الله عليه أمره، وجعل فقره بين عينيه، ولم يأته من الدنيا إلا ما كتب له، ومن كانت الآخرة نيته، جمع الله له أمره، وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة}[10]..
الإيمان أمان النفس والوجدان، وغذاء الروح، والضرورة الكبرى للعيش لا عيش إلا عيش الإيمان، وما أطيبها من حياة، وهي تتزيى به، وإلا لصار الإنسان عبد طاغوت الهوى، وقد حذر من ذلك سبحانه أشد تحذير:﴿أَفَرَأَيْتَ مَنِ ٱتَّخَذَ إِلَـٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ ٱللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَـٰوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ ٱللَّهِ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ﴾ الجاثية:23. الحياة بالإيمان حياة ذات معنى وطعم، طعم العيش الهنيئ بالشعور بالمعنى، وما أصعب العيش بلا معنى! بالإيمان تدرك وظائف الموجودات وأهميتها، ويستبين ما في هذا العالم من مقاصد إلهية، وحِكم خلق ذوي الحياة..
فأبشر أيها المؤمن إنك تمتلك القوة العظمى في الوجود، وتفسيره الحق؛ الذي يوجهك إلى الواحد، صاحب القوة المطلقة الذي تستمد منه قوتك، وتفوض له أمرك كله، وتتوكل عليه، فتحرر من كل العبوديات. هو قوتك التي تواجه بها مصائب الدنيا ومحنها، ومأمنك عند الضوائق وعواصف الحياة، تملؤك يقيناً وثقةً في الذي بيده مقاليد كل شيء، يقذِفُ بمقادير كبيرة من الطمأنينة في فؤادك، إذ مهما اضطربت الأحداث، وتقلبت الأحوال، فلن تبت فيها إلا المشيئة العليا:﴿وَٱللَّهُ غَالِبٌ عَلَىٰۤ أَمۡرِهِۦ وَلَـٰكِنَّ أَكۡثَرَ ٱلنَّاسِ لَا یَعۡلَمُونَ﴾ يوسف:٢١.
وبعد.. اعلم أن هذا الإيمان، يأبى أن يظل حبيس داخلك، لأن طبيعته أن يخرج إلى قيد الحياة، ويمتزج في واقعياتها، ليعالج إشكالاتها وأزماتها، حتى لا تعيش منتظراً لقوى خارقة أو معجزة كي تغير ما بنفسك وواقعك، والله تعالى يقول:﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا یُغَیِّرُ مَا بِقَوۡمٍ حَتَّىٰ یُغَیِّرُوا۟ مَا بِأَنفُسِهِمۡ﴾ الرعد:١١، ويقول:﴿لَّیۡسَ بِأَمَانِیِّكُمۡ وَلَاۤ أَمَانِیِّ أَهۡلِ ٱلۡكِتَـٰبِۗ مَن یَعۡمَلۡ سُوۤءࣰا یُجۡزَ بِهِۦ وَلَا یَجِدۡ لَهُۥ مِن دُونِ ٱللَّهِ وَلِیࣰّا وَلَا نَصِیرࣰا * وَمَن یَعۡمَلۡ مِنَ ٱلصَّـٰلِحَـٰتِ مِن ذَكَرٍ أَوۡ أُنثَىٰ وَهُوَ مُؤۡمِنࣱ فَأُو۟لَـٰۤىِٕكَ یَدۡخُلُونَ ٱلۡجَنَّةَ وَلَا یُظۡلَمُونَ نَقِیرࣰا﴾ النساء:١٢٣-١٢٤.
أي أن المطلوب منك إيمان فاعل لا كسول خامل.. صحيح معنى العبارة الشهيرة “الإيمان في القلب”!.. لكن ليس صحيحاً أن يتوقف عند ذلك الحد، وينحصر في ذلك المكان، لأنه تعطيل لطاقته، وتجميد لقوته. الصحيح أن يكون محركك للمبادرة لفعل الخير والصلاح، وضابطك الذي يلزمك باتباع القانون الإلهي، وضميرك الحي الذي لا يدعك وشأنك حتى تصلح وتقوم بالصواب في أي موقف وقفته، وأي فعل فعلته.
ذلك أن الإيمان عقيدة متحركة، تأبى السلبية والعجز والكسل، فبمجرد تحققها في عالم الشعور والوجدان، تتحرك لتترجم نفسها إلى حركة مصلحة في عالم الواقع إصلاحاً وعمراناً. فمنهج الإسلام الثابت في التربية يقوم على أساس تحويل الشعور الباطن بالعقيدة وآدابها إلى حركة مرورية في مسالك الحياة وشعابها، حتى تصبح عادات ثابتةً وقوانين حاكمةً دائمة لا تتوقف أبداً حتى يأتيك اليقين. أما إذا لم يفعل فيك ذلك كليا أو جزئيا، فمعناه وجود خلل في تحققك بحقيقته وتعلمك له التعلم الصحيح، أو أن هناك شوائبَ قد شابته فحالت دون انعكاسه وامتداده .. ولتتذكر مثلا قول النبي ﷺ:{لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه}[11].
وإذاً، الإيمان الحق هو قوة تتعدى أسوار النفس والقلب، إلى ساحات الحياة الفردية والاجتماعية، وميادين العمران والحضارة المختلفة. ليتبين لك أن المطلوب منك تفعيل إيمانك في نفسك وحياتك، وعما أخبرك به الله تعالى لما قال:﴿إِنَّ ٱلَّذِینَ قَالُوا۟ رَبُّنَا ٱللَّهُ ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ فصلت:٣٠، وقال النبي ﷺ:{قل آمنت بالله ثم استقم}[12]. تحتاج التخلص من داء الفصام النكد بين الإيمان والعمل، واستعادة صلة التلازم بين الإيمان وصلاح الحياة وواقعياتها؛ بأن تحقق الملزوم وهو الإيمان، مفضياً إلى تحقق اللازم وهو صلاح الحياة [13]. وهو ما يعني من وجه أنك تحتاج إلى تجديد إيمانك وأن تخرجه من حالة القوة الكامنة إلى الحركة الممتدة الفاعلة المصلحة، لتكون بحق إنسان النفس المستقيمة.
وليس معنى تجديد إيمانك معرفة العقيدة بذاتها وتعلمها، فالمسلم المعاصر كما اعتبر مالك بن نبي لم يتخل مطلقا عن عقيدته، فلقد بقي مؤمنا متدينا، ولكن المشكل الحاصل أن عقيدته هذه قد تجردت من فاعليتها، لأنها فقدت إشعاعها الاجتماعي، فأصبحت جذبية فردية، وصار الإيمان إيمان فرد متحلل من صلاته بوسطه الاجتماعي. وعليه فليست المشكلة أن تتعلم عقيدة أنت تملكها أصلا، وإنما المهم أن ترد إلى هذه العقيدة فاعليتها وقوتها الإيجابية، وتأثيرها الاجتماعي، بأن تشعر بوجوده، وتملأ به نفسك باعتباره مصدرا للطاقة والدفع للفعل الصالح [14].
وبعبارة أخرى، الحاجة ماسة إلى الانتقال من حالة الرجل الكل إلى حالة الرجل العدل؛ يقول تعالى: ﴿وَضَرَبَ ٱللَّهُ مَثَلࣰا رَّجُلَیۡنِ أَحَدُهُمَاۤ أَبۡكَمُ لَا یَقۡدِرُ عَلَىٰ شَیۡءࣲ وَهُوَ كَلٌّ عَلَىٰ مَوۡلَىٰهُ أَیۡنَمَا یُوَجِّههُّ لَا یَأۡتِ بِخَیۡرٍ هَلۡ یَسۡتَوِی هُوَ وَمَن یَأۡمُرُ بِٱلۡعَدۡلِ وَهُوَ عَلَىٰ صِرَ ٰطࣲ مُّسۡتَقِیمࣲ﴾ النحل:٧٦.
ونحسب أن طريق تحقق ذلك يتم من خلال تجديد الدخول إلى المدارس الإسلامية الكبرى، وتجديد الوعي بها، وتعلم علومها من جديد، ورؤيتها بمنظار متجدد ..
[1]– الإيمان والعمران، النجار، ص ٤٤.
[2]– المستخلص في تزكية الأنفس، سعيد حوى، ط١١، ٢٠٠٥م، دار السلام، القاهرة، ص ٣.
[3]– يراجع الذريعة إلى مكارم الشريعة، الراغب الأصفهاني، ص٨٦-٨٧.
[4]– في ظلال القرآن، ٢٦/٣٢٥٩.
[5]– المستخلص في تزكية الأنفس، ص ٣.
[6]– الإيمان والعمران، ص٤٤.
[7]– يراجع الإيمان والحياة، يوسف القرضاوي، ط١٩، ١٩٩٧م، مؤسسة الرسالة، ص ١٦-١٧.
[8]– منهج الحضارة الإنسانية، محمد سعيد رمضان البوطي، ص٢٧.
[9]– يراجع الإيمان والحياة، يوسف القرضاوي، ط١٩، ١٩٩٧م، مؤسسة الرسالة، ص ٥-٩.
[10]– الألباني، في السلسلة الصحيحة (٩٥٠)، إسناده جيد رجاله ثقات.
[11]– أخرجه البخاري..
[12]– أخرجه مسلم.
[13]– يراجع الإيمان والعمران، ص ٤٠.
[14]– يراجع وجهة العالم الإسلامي، مالك بن نبي، ط٢٠٠٦م، ص ٥٣-٥٤.