﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزءالثامن – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزءالثامن – (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
في هذه المقال نذهب إلى الغوص للوعي بما تيسر بالتي لا قيام للصلاة بدونها، ومع كل آية آية..
ومن المهم وأنت في طريقك في الحياة ورسالتك التغييرية، أن تعرف الغرض، وتحيا به، والفاتحة تمدك به؛ يقول مفسر:”فالغرض الَّذِي سيقت له الفاتحة إثبات استحقاق الله تعالى لجميع المحامد وصفات الكمال، واختصاصه بملكه الدنيا والآخرة، وباستحقاق العبادة والاستعانة، بالسؤال في المن بإلزام صراط الفائزين والإنقاذ مِن طريق الهالكين مختصًا بذلك كله، ومدار ذلك كله مراقبة العباد لربهم، لِإفْراده بالعبادة، فَهو مقصود الفاتحة بالذات وغيره وسائل إلَيه”[1].
فالفاتحة صاحبة هذا المقصد العال، والغرض السامي ..
وانتبه إلى تصميمها العجيب الذي سارت عليه، وكيف أدت إلى ذاك المقصد والغرض..
- ففي البدء:﴿بِسۡمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ﴾:
أدب رفيع، وخلق نبيل؛ فباسم الله يُبدأ كل أمر في الحياة، وإلا فإنه أبتر مقطوع البركة،كما علمك النبي ﷺ.
واعلم أن بسملتك المتكررة هذه تدريب، وليست مجرد كلمات استهلال وافتتاح تريد بها البركة، بل هي جملة تعلن فيها كما قال كاتب:”مشروعك، تعلن فيها وظيفتك في الأرض، وتعلن في الوقت نفسه هوية من وظفك، وتقول أنك تعمل باسمه.. باسم الله”[2].
- ثم تقول:﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ رَبِّ ٱلۡعَـٰلَمِینَ﴾، وأنت في هذا الطريق والمشروع تذكر نعمه عليك، التي تحيط بك، وتتمرغ فيها، تستوجب منك الحمد والثناء والشكر:
أولها: مذكور هنا أنه هو “رب”.. ربك ورب العالمين والخلق جميعاً، وحده لا شريك له، المالك المتصرف، الرازق المدبر، السيد الراعي، المنعم المنان، وكل هذه الصفات متضمنة في عبارة الربوبية التي تذكرك بكل النعم، فتستوجب منك الحمد، وهو نفسه نعمة تستوجب منك الحمد..
يقول ابن القيم:”ومن عبوديته أيضًا أن يعلم أن حمده لربه سبحانه نعمة منه عليه، يستحق عليها الحمدَ، فإذا حمده عليها، استحق على حمده حمدًا آخر، وهلمَّ جرًّا. فالعبد ولو استنفد أنفاسَه كلَّها في حمده على نعمة من نعمه، كان ما يجب عليه من الحمد عليها فوق ذلك، وأضعاف أضعافه، ولا يُحصِي أحد البتة ثناءً عليه بمحامده، ولو حمده بجميع المحامد فالعبد سائر إلى الله بكل نعمه من ربه، يحمده عليها، فإذا حمده على صرفها عنه، حمده على إلهامه الحمد. ومن عبودية الحمد شهودُ العبد لعجزه عن الحمد، وأن ما قام به منه، فالرب سبحانه هو الذي ألهمه ذلك، فهو محمود عليه، إذ هو الذي أجراه على لسانه وقلبه، ولولا الله ما اهتدى أحد…”[3].
فاتحة الفاتحة إذًا الحمد والثناء للمستحِق، وأنت حينما تقول “الحمد لله”، يفترض أن تمتلئ بالإيجابية والأمل في طريقك وأثناء مشروعك، الذي تحفه المصاعب والمآزق والتحديات، الحمد لله رغم كل الاحن والمحن، رغم كل القتامة والظلمات، رغم كل السلبيات والمساوئ المعترضة طريقك في هذا المشروع الذي هو باسم الله.. فأنت تواجه كل ذلك بالحمد والثناء مع المضي والسعي دون توقف ويأس وترى من خلاله النور والضوء في النفق كله وليس في آخره فحسب..
وفاتحة الفاتحة أيضاً الحمد والثناء لصاحب النعم، الغني المستغني، وأنت الفقير إليه، لولا نعمه ما أنت بشيء، فأنت تقول الحمد لله لتمتلئ بالافتقار إليه، والاستعانة به .. فحاجتك وافتقارك إليه سبحانه لا يحيط بهما الوصف؛ فأنت الفقير إلى عونه في كل شؤونك وأحوالك .. فهو الذي أوجدك من العدم، ورباك بالنعم، وهداك إلى ما ينفعك، وصرف عنك ما يضرك؛ فما قيمة الخلق بلا خالقهم ونعمه؟ يقول سبحانه:﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاء إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ﴾ فاطر:١٥.
فهذا المعنى عظيم من المعاني افتتاحية الفاتحة الذي تكرره في صلاتك وتتدرب عليه كل يوم عدة مرات، يفترض أنك وعيته وامتلأت به في طريقك الذي هو باسم الله ..
- وثانيها: في قول:﴿ٱلرَّحۡمَـٰنِ ٱلرَّحِیمِ﴾، وسعت رحمته كل شيء وكل شأن، وكل خطو تخطوه، في كل منزل تنزله، وفِي كل حال تكونه وتصيره، في حياتي الدنيا والآخرة، ففي هذا القول “عبودية تخصه سبحانه، وهي شهود عموم رحمته، وشمولها لكل شيء، وسعتها لكل مخلوق، وأخْذ كل موجود بنصيبه منها، ولاسيما الرحمة الخاصة بالعبد، وهي التي أقامته بين يدي ربه … فبرحمتك للعبد أقامه في خدمته، يناجيه بكلامه ويتملَّقه ويسترحمه ويدعوه، ويستعطف، ويسأله هدايته ورحمته، وتمامَ نعمته عليه دنياه وأخراه، فهذا من رحمته بعبده، فرحمتُه وسعتْ كلَّ شيء، كما أن حمده وسعَ كل شيء…”[4].
- وثالثها أنه:﴿مَـٰلِكِ یَوۡمِ ٱلدِّینِ﴾، هنا إثْبات للمعاد، حيث الجزاء عن الأعمال، حسنها وسيئها.. تذكير لك بالغاية ونقطة النهاية التي توجه فعلك وترشد مشروعك، وتشغلك وأنت المشغول به في الدنيا، وتحفزك لتؤديه أحسن ما يكون الأداء، ولن يضيع فعلك وجهدك، بل هناك ستوفى ما عملت أحسن الجزاء، وذلك يوم الحساب والدين، الذي لا يملكه إلا الله وحده متفردا لا شريك له، يوم يقيم لك العدل والقسط ويحكم بالحق، الذي لا عدل قبله ولا بعده، فلا يُظلم عنده أحد:﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَ ٰزِینَ ٱلۡقِسۡطَ لِیَوۡمِ ٱلۡقِیَـٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسࣱ شَیۡـࣰٔاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةࣲ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَیۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَـٰسِبِینَ﴾ الأنبياء ٤٧..
هناك حيث ترد المظالم وتجتمع الخصوم، وكما قال الشاعر:
أما والله إن الظلمَ شؤمٌ *** وما زالَ الظلوم هو الملوم
إلى ديان يوم الدين نمضي *** وعند اللهِ تجتمعُ الخصوم
ستعلم في المعاد إذا التقينا *** غدًا عندَ المليكِ مَنْ الظلوم
وإذاً، هي نعمٌ عظمى تستوجب منك:﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ﴾، ولن تحصيها مهما جهدت واجتهدت:﴿وَإِن تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا ۗ إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَّحِيمٌ﴾ إبراهيم:٣٤.
ثم ماذا بعد؟؟ أيكفي أن تحمده بلسانك وقلبك فحسب؟ أم هناك ما يقتضيه منك الحمد ليتم الله عليك نعمه؟؟
اسمع قوله تعالى بعد المن عليك بنِعَمه:
- ﴿إِیَّاكَ نَعۡبُدُ وَإِیَّاكَ نَسۡتَعِینُ﴾، لن يكون حمدك مكتملاً، ولا صحيحاً، ولا ذي قيمة، ولا ذي بال، إن لم تتبعه بالعبادة، وأي عبادة؟؟ إنها العبودية له وحده “إياك” بتشديد الياء، بمنتهى التوحيد، وبمنتهى الإخلاص..
وتيقن أنك لن تقدر وحدك على أداء هذه العبودية إلا أن يعينك، فلا تستعينَنَّ إلا به وحده؛ فالحول له والقوة ملكه.. وَأنْت من أنت!! أنت الفقير المفتقر إليه.. وقد فعل وأعانك ويفعل دوماً ابتداءً ودواماً، لَمّا وهبك ويهبك كل آياته ونعمه في النفس والآفاق وهذا الكون، لتسخرها في هذه العبادة، وتلك استعانة، وتلك هي العبادة بأوسع معانيها.. لكن كيف تُسخِّر.. وتعبد.. وتستعين إن لم تعرف الطريق والمنهج ؟!!
إليك الجواب الذي تردده في الفاتحة وتتدرب عليه؛ حيث قوله تعالى:
- ﴿ٱهۡدِنَا ٱلصِّرَ ٰطَ ٱلۡمُسۡتَقِیمَ﴾
عليك بالدعاء والدعاء.. وطلب الهداية منه سبحانه إلى الصراط المستقيم .. لأنك الفقير المفتقر إليه، يقول ابن القيم مرة أخرى:”والهِدايَة هي العلم بِالحَقِّ مَعَ قَصده وإيثاره على غَيره، فالمهتدي هو العامِل بِالحق المريد له، وهِي أعظم نعمة لله على العبد، ولهذا أمرنا سبحانه أن نسأله هداية الصراط المستقيم كل يوم وليلة في صلواتنا الخمس، فَإن العبد محتاج إلى معرفَة الحق الَّذِي يرضي الله في كل حركة ظاهرة وباطنة، فَإذا عرفها، فَهو محتاج إلى من يلهمه قصد الحق فيجعل إرادَته في قلبه، ثمَّ إلى من يقدره على فعله. ومعلوم أن ما يجهله العبد أضعاف أضعاف ما يعلمه، وأن كل ما يعلم أنه حق، لا تطاوعه نَفسه على إرادته، ولَولا إرادته لعجز عَن كثير منه، فَهو مضطر كل وقت إلى هداية تتعلق بالماضي وبالحال والمستقبل…”[5].
لكن .. أي صراط هو الذي نسأله هدايته؟!
- إنه ﴿صِرَ ٰطَ ٱلَّذِینَ أَنۡعَمۡتَ عَلَیۡهِمۡ غَیۡرِ ٱلۡمَغۡضُوبِ عَلَیۡهِمۡ وَلَا ٱلضَّاۤلِّینَ﴾
هو صراط النبوة إذاً، وطريق الاستقامة، ومنهج التغيير.. وهو مستقيم ليوصل إلى المقصود.. وهو صراط الله، فإياك واتباع طريق آخر غيره!! ألم تعلن في البدء أنك تعمل باسمه، فكيف تتبع طريقا غير طريقه، طريق السعادة الموصل إلى لقائه..
فدعك يا عبد الله من كل الطرق.. واتبع صراط الله:﴿وَأَنَّ هَـٰذَا صِرَ ٰطِی مُسۡتَقِیمࣰا فَٱتَّبِعُوهُۖ وَلَا تَتَّبِعُوا۟ ٱلسُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمۡ عَن سَبِیلِهِۦۚ ذَ ٰلِكُمۡ وَصَّىٰكُم بِهِۦ لَعَلَّكُمۡ تَتَّقُونَ﴾ الأنعام:١٥٣.
اتبع هذا الذي بدايته توحيد وإخلاص .. ووسطه توحيد وإخلاص.. ونهايته أيضا توحيد وإخلاص .. وكل ذلك نعم تستوجب منك ﴿ٱلۡحَمۡدُ لِلَّهِ﴾..
وهكذا تكون دائما البداية والأثناء والنهاية في هذا الطريق والمشروع إلى التغيير في الحياة الذي هو باسم الله، صلتك أيها العبد بربك، وما أسعدك بهذه الصلة..
إنها الفاتحة وأم الكتاب، كتاب التغيير والحياة، تدربك على هذه المعاني، وأنت تكررها في الصلاة كل يوم سبع عشرة مرة على الأقل؛ فيفترض أنك وعيتها وتدربت عليها وتشكلت بها.
تعلمك الأدب والحمد والثناء .. لتتبعها بالعبودية والاستعانة والدعاء .. والاستقامة سيراً على منهج الأنبياء..
وهكذا، هذه إضاءات وأفكار تغدقها الفاتحة على الخاطر، وهي غيض من فيضٍ لأعظم سورة في القرآن، أم الكتاب ومقدمته، مقدمة الحياة، قرنت بأعظم قربة من القربِ؛ اشتملت أتم اشتمال على قضايا الوجود الحقة، والمطالب العليا، تحتاج إلى إعادة فقهها والوعي بها، والاسترشاد بها في طريقك نحو التغيير وتشكيل الحياة على ضوئها أفضل تشكيل. وعرفت فيها كيف أن البداية والأثناء والنهاية “صلتك بربك” يا عبد الله!.. فأنت الفقير إلى اليه.. وهو الغني الحميد.
[1]– نظم الدرر، البقاعي، ١/٢٠-٢١.
[2]– خيري العمري، عالم جديد ممكن، سلسلة كيماء الصلاة ٣، ص ١٣.
[3]– ابن القيم، أسرار الصلاة، مكتبة ابن الإسلام، ومكتبة المسلم، ط١، ٢٠٠٧م، ص ٤٣-٤٤.
[4]– نفسه، ص ٤٥.
[5]– ابن القيم، مفتاح دار السعادة، دار ابن عفان، السعودية، ط١٩٩٦م، ١/٣٠٥.