﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزءالسادس- (١٠) سلسلة “نتغير لنغير”
د.فاطمة الزهراء دوقيه
سلسلة “نتغير لنغير” (١٠)
﴿ثُمَّ ٱسۡتَقَـٰمُوا۟﴾ -الجزء السادس-
د.فاطمة الزهراء دوقيه
وما زال الوضوء يتحفك دروساً.. ويزيدك من الشعر بيتاً .. ووجهاً آخر أرقى لدلالته نستوحيه مما أثر في قول رسول الله ﷺ:{تبلغ الحلية من المؤمن حين يبلغ الوضوء}[1].
والحلية معناها الإجمالي الزينة، وكل ما يتزين به ..
أيها المتوضئ..
اعلم أن دلالات وضوئك أوسع وأعمق مما سبق؛ فهناك مقصد أرفع، وقيمة حضارية عليا من ورائه، لعلها تكون المغزى من هذا الواجب الذي لا يتم واجب الصلاة إلا به ..
الأمر يتعلق بدلالة اسم “الوضوء” نفسه؛ إذ هو من الوضاءة: أي الحسن والبهاء والإشراق والبهجة كما في اللغة، وتجمع كل هذه التعبيرات المختلفة في تلك الكلمة القرآنية “الجمال” الواردة في قوله عز وجل: ﴿وَلَكُمۡ فِیهَا جَمَالٌ حِینَ تُرِیحُونَ وَحِینَ تَسۡرَحُونَ﴾ النحل ٦، وهو السمة البارزة في الصنعة الإلهية، ما نبصر منها وما لا نبصر..
ثم إن الماء النازل على الأرض في القرآن قد اقترن بالجمال والزينة؛ فتأمل الآيات التي يمن الله تعالى فيها على عباده بنعمة الماء وما ارتبط به في الحياة، يقول:﴿وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْـمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ﴾ الحج:5. ويقول:﴿أَمَّنۡ خَلَقَ ٱلسَّمَـٰوَ ٰتِ وَٱلۡأَرۡضَ وَأَنزَلَ لَكُم مِّنَ ٱلسَّمَاۤءِ مَاۤءࣰ فَأَنۢبَتۡنَا بِهِۦحَدَاۤىِٕقَ ذَاتَ بَهۡجَةࣲ﴾ النمل:٥٩-٦٠، ويقول:﴿إِنَّمَا مَثَلُ ٱلۡحَیَوٰةِ ٱلدُّنۡیَا كَمَاۤءٍ أَنزَلۡنَـٰهُ مِنَ ٱلسَّمَاۤءِ فَٱخۡتَلَطَ بِهِۦ نَبَاتُ ٱلۡأَرۡضِ مِمَّا یَأۡكُلُ ٱلنَّاسُ وَٱلۡأَنۡعَـٰمُ حَتَّىٰۤ إِذَاۤ أَخَذَتِ ٱلۡأَرۡضُ زُخۡرُفَهَا وَٱزَّیَّنَتۡ﴾ يونس:٢٥.
وإذاً، فالوضوء بالماء إحياءٌ وطهارة معنوية وحسية، لكنه أكثر من ذلك جمالٌ ونضارةٌ وبهاء، وهو أصلا في اسمه من وضاءة وحسن.. ولذا يمكن أن نعتبر أن من أبعد ما تشير إليه فكرة الوضوء كشرط للدخول إلى الصلاة، بما هي تدريب على الحياة بأرقى معانيها وصورها، الاهتمام بجماليات الحياة، ورعاية الذوق الجميل في كل شيء..
ألم يقرن الله سبحانه الصلاة بالزينة حين قال:﴿یَـٰبَنِیۤ ءَادَمَ خُذُوا۟ زِینَتَكُمۡ عِندَ كُلِّ مَسۡجِدࣲ﴾ الأعراف:٣١؟! وأنت عارفٌ أن التربية الإسلامية تربية جمالية بامتياز؛ تربية على نظافة الحس والبدن والثوب والأفنية والبيئة، وكل مكان نزلته، وعلى جمال المظهر والهيئة .. وتربيةٌ على نظافة اليد وكل الجوارح من زناها التي حرمها الله، أي على الاستقامة وطهر الروح وسلامة القلب، ورقي الأخلاق، وأناقة السلوك وأدبه ..
وهكذا، يكون الجمال في الإسلام مفهوماًا واسعاً يشمل كل شيء في الحياة.. وهو يشمل الجوهر قبل المظهر.. فالله تعالى كما في الحديث الصحيح:{لا ينظر إلى صوركم وأموالكم ولكن ينظر إلى قلوبكم وأعمالكم}[2]، “وهذا الجمال الباطن يزين الصورة الظاهرة، وإن لم تكن ذات جمال، فتكسوا صاحبها من الجمال والمهابة والحلاوة بحسب ما اكتست روحه من تلك الصفات، فإن المؤمن يعطى مهابة وحلاوة بحسب إيمانه، فمن رآه هابه، ومن خالطه أحبه، وهذا أمر مشهود بالعيان، فإنك ترى الرجل الصالح المحسن ذا الأخلاق الجميلة من أحلى الناس صورة، وإن كان أسود أو غير جميل، ولا سيما إذا رزق حظاً من صلاة الليل، فإنها تنور الوجه وتحسنه”[3].
التربية على الجمال في الإسلام تدخل في صميمك؛ فتشكل ذوقك الجميل والراقي في كل شيء، لتجعلك فريداً من نوعك .. ومن الشهداء على الناس.. من حيث أنْ تُظهر جمال ومحاسن دينك.
والطريف أن هذا الجمال مطلوب منك حتى في حالات محنك، ومواقف ابتلاءاتك ومصائبك، ألم تتلُ في القرآن الأمر بالقول الحسن، والدفع بالتي أحسن، والموعظة الحسنة، وإن أهانك الناس وأذوك:﴿وَلَا تَسۡتَوِی ٱلۡحَسَنَةُ وَلَا ٱلسَّیِّئَةُۚ ٱدۡفَعۡ بِٱلَّتِی هِیَ أَحۡسَنُ فَإِذَا ٱلَّذِی بَیۡنَكَ وَبَیۡنَهُۥعَدَ ٰوَةࣱ كَأَنَّهُۥ وَلِیٌّ حَمِیمࣱ﴾ فصلت:٣٤، وأمرك بالصبر الجميل:﴿فَٱصۡبِرۡ صَبۡرࣰا جَمِیلًا﴾ المعارج:٥، والهجر الجميل:﴿وَٱصۡبِرۡ عَلَىٰ مَا یَقُولُونَ وَٱهۡجُرۡهُمۡ هَجۡرࣰا جَمِیلࣰا﴾ المزمل:١٠، وبالصفح الجميل:﴿فَٱصۡفَحِ ٱلصَّفۡحَ ٱلۡجَمِیلَ﴾ الحجر:٨٥، وبالسراح الجميل إذا طلقت وفرقت:﴿فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحࣰا جَمِیلࣰا﴾ الأحزاب:٤٩.
إنه مطلوب في كل شيء في الحياة، ليس في الماديات فحسب.. بل لقد كتب الله الإحسان على كل شيء حتى في الذبحة، أو كما رود عن النبي ﷺ[4]..
هو سلوك حضاري.. سمة الرقي والأناقة .. فكان شرطاً أساساً من شروط النهضة والتغيير.. وقد اعتبر مالك بن نبي في شروطه للنهضة، أن التوجيه الجمالي من أساسات تربية الإنسان وبنائه، وتشكيل ثقافته؛ إذ يؤكد على أهمية إشاعة الذوق الجميل في المجتمع، وضرورة الاهتمام بالجماليات، والحرص على سيادتها في الإطار الاجتماعي، الذي يشتمل على ألوان، وأصوات، وروائح، وحركات، وأشكال، وتصرفات، وقس على ذلك، وعلى ألا يصدر منها إلا كل جميل، ضماناً أن ينشأ الفرد على الجمال والذوق الجميل، وينطبع فيه فكره، ليجد في نفسه نزوعا إلى الإحسان في العمل، وتوخياً للكريم من العادات، وذلك هو غاية المنى والرجا. إن تأثير ذوق الجمال عام يمس كل تفاصيل حياتك، كذوقك في الملابس، والعادات، وأساليب الضحك، والعطاس، وفي الموسيقى، وفي طريقة تأثيث بيتك، وتمشيط أولادك، ومسح أحذيتك، وتنظيف جوارك …
إنه الإطار الذي تتكون فيه أية حضارة، فينبغي أن تلاحظه في نفسك، وأن تتمثل مسحة الجمال في سلوكياتك … يجب أن يثيرك أقل نشاز في الأصوات، والروائح، والألوان، والتصرفات.[5]
ثم يوصيك بالقول:”إن الجمال هو وجه الوطن في العالم، فلنحفظ وجهنا، لكي نحفظ كرامتنا، ونفرض احترامنا على جيراننا الذين ندين لهم بالاحترام نفسه”[6].
وهكذا .. يظهر أن الوضوء للصلاة تدريبٌ لك على الأناقة والجمال.
فعجبا لأمر هذه الشعيرة “الصلاة”! وكل ما ارتبط بها، وحف بها من شروط ومقدمات لتبرزها صاحبة
فخامة وعظمة وجلال وجمال .. والوضوء لدخولها دال على هذه المعاني.. موجه إلى المعالي!!
إنها دورة تدريبية لتشكيل الذوق الجميل، والتغيير الجميل لما بالنفس ومن ثم العالم إلى الأحسن والأجمل!!
[1]– أخرجه مسلم، برقم (٢٥٠).
[2]– أخرجه مسلم، برقم (٢٥٦٤) .
[3]– روضة المحبين ونزهة المشتاقين، ابن القيم، طبعة مجمع الفقه الإسلامي بجدة، ٢/٣٢٠.
[4]– أخرجه مسلم، برقم (١٩٥٥)، وغيره ..
[5]– يراجع شروط النهضة، مالك بن نبي، طبعة دار الفكر بدمشق، ١٩٨٦م، ص ٩٠-٩٤.
[6]– نفسه، ص ٩٤.