نشر هذا المقال في الكتاب الجماعي (اللغة واللهجة: قضايا وإشكالات)، ويمكنكم تنزيل الكتاب من هذا الرابط.
كما يمكنكم قراءة وتنزيل المقالة بصيغة pdf من هذا الرابط: قول في اللغة واللهجة؟ – محجوبي سعيد
توطئة:
الإشكال: ما الفرق بين اللهجة واللغة؟ لماذا التمييز والمفاضلة بينهما؟ وعلى أي أساس علمي تقوم هذه المفاضلة؟ لماذا يتكلم “الفاعل السياسي” عن اللغة الرسمية ويشترط شروطا لإلغاء اللغات الأخرى بدعوى أنها لهجات؟ وبتعبير أدق، ما دخل السياسة في هذا التمايز بين كل ما يتكلم به الإنسان؟ ما حظ البحث العلمي الأكاديمي الرصين في السياسة اللغوية في بلدان شمال إفريقيا والشرق الوسط؟
إن الإجابة عن الإشكال أعلاه تقتضي منا أمر مفاده أن الفرق بين اللغة واللهجة حاصل لا مشاحة في ذلك، من هنا نرى أن اللهجة ما هي إلا ازياح عن اللغة لما لا تفريع عنها وما دام الأمر كذلك، لتكون اللغة هي المحدد الأول لأي تواصل جامع. ولقد صح قول ابن جني: اللغة أصوات يعبر بها كل أقوام عن أغراضهم.
قول في اللغة واللهجة:
الحق أننا لا نستطيع أن نفكر في هذه السيادة الفارسية في الحيرة أو هذه السيادة الرومية في أطراف الشام، فقد كانت هناك أسر عربية تمثل هذه السيادة، وكانت لهذه الأسر ضروب من السلطان، ولكن هذه الأسر لم تكن فيما يظهر حجازية، ولم تكن بيئاتها بيئات عربية خالصة، إنما كانت بيئات مختلطة أقرب إلى الأعجمية منها إلى أي شيء آخر.[2]
ومن هنا نرى أن ازياح اللهجة عن اللغة رهين بالتأثير الحاصل مع قبائل غير عربية، الأمر الذي خلق لنا ثنائية لغة ولهجة.
لهذا لما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني والسياسي جنبًا إلى جنب”[3]
وكان المرحوم “مصطفى صادق الرافعي”، قد تعرض لهذا الموضوع وبحث فيه قبل “الدكتور طه حسين”، في كتابه: “تأريخ آداب العرب”، الذي طبعه سنة “1911م”، فذهب مذهب الأسلاف في أن العربية بدأت بـ”إسماعيل” فلما خرج أولاده من ديارهم وانشعبت قبائلهم، تنوعت لهجاتهم، وتباينت ألسنتهم، حتى ظهرت قريش من بينهم، فأخذت وأعطت، وهذبت الألسنة واستخلصت منها أعذبها وأسماها، ثم لا تزال تهذب في اللغة وتشذب حتى بلغت بها الكمال عند ظهور الإسلام، بنزول الوحي بها.[4]
علاوة على ذلك تعد لغة قريش إذن هي هذه اللغة العربية الفصحى، فرضت على قبائل الحجاز فرضًا لا يعتمد على السيف وإنما يعتمد على المنفعة وتبادل الحاجات الدينية والسياسية والاقتصادية. وكانت هذه الأسواق التي يشار إليها في كتب الأدب، كما كان الحج، وسيلة من وسائل السيادة للغة قريش”[5].
وخلاصة رأي “الدكتور طه حسين” أن عربية قريش هذه، التي نزل بها القرآن الكريم، إنما سادت قبيل الإسلام، ولم تكن سيادتها تتجاوز الحجاز.
إذ يقول: “فالمسألة إذن هي أن نعلم: أسادت لغة قريش ولهجتها في البلاد العربية وأخضعت العرب لسلطانها في الشعر والنثر قبل الإسلام أم بعده؟[6]
أما نحن فنتوسط ونقول: إنها سادت قبل الإسلام حين عظم شأن قريش وحين أخذت مكة تستحيل إلى وحدة سياسية مستقلة مقاومة للسياسة الأجنبية التي كانت تتسلط على أطراف البلاد العربية. ولكن سيادة لغة قريش قبيل الإسلام لم تكن شيئًا يذكر ولم تكد تتجاوز الحجاز. فلما جاء الإسلام عمت هذه السيادة وسار سلطان اللغة واللهجة مع السلطان الديني والسياسي جنبًا إلى جنب”.[7]
اللغة واللهجة: اختلاف أم ائتلاف؟
تعد اللهجة في الاصطلاح العلمي الحديث: مجموعة من الصفات اللّغوية التي تنتمي إلى بيئة خاصة، ويشترك في هذه الصفات جميع أفراد هذه البيئة، وبيئة اللهجة جزء من بيئة أوسع وأشمل تضم عدة لهجات، لكل منها خصائصها، ولكنها تشترك جميعا في مجموعة من الظواهر اللّغوية.
وتلك البيئة الشاملة التي تتألف من عدة لهجات هي التي اصطلح على تسميتها باللّغة؛ فالعلاقة بين اللّغة واللهجة هي العلاقة بين العام والخاص، فاللّغة تشتمل على عدة لهجات، لكل منها ما يميزها، وجميع هذه اللهجات تشترك في مجموعة من الصفات اللّغوية التي تؤلّف لغة مستقلة عن غيرها من اللّغات.
ويعبّر القدماء عما نسميه الآن باللهجة بكلمة «اللّغة» كثيرا، فيشير أصحاب المعاجم إلى لغة تميم ولغة طي ولغة هذيل، وهم يريدون بذلك ما نعنيه نحن الآن بكلمة «اللهجة» وقد يعبّرون بكلمة «اللّسان» وهو التعبير القرآني: “وَما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ” [8]
والفرق بين لهجة وأخرى هو بعض الاختلاف الصوتي في غالب الأحيان، فيروى لنا مثلا أن قبيلة تميم كانوا يقولون في «فزت» «فزد»، كما يروى أن «الأجلح» وهو الأصلع، ينطق بها «الأجله» عند بني سعد.
وتشترك لهجات اللّغة الواحدة في الكثرة الغالبة من الكلمات ومعانيها.[9]
واللّغة العربية هي لغة جزيرة العرب، ولكن القبائل العربية المتعددة كان لكل قبيلة منها منازلها، ولها كيانها المستقل الذي يعزلها عن غيرها بما لها من عادات وتقاليد تنمو وتتطور، فأدى هذا إلى نشأة اللهجات العربية التي تتميز كل منها بصفات خاصة. [10]
خاتمـة:
سهوة الكلام تدفعنا إلى القول: إن البرهان القاطع قائم على أن اختلاف اللغة واللهجة كان حقيقة واقعة بالقياس إلى عدنان وقحطان، يعترف القدماء أنفسهم بذلك؛ كما رأيت أبا عمرو بن العلاء، ويثبته البحث الحديث”.
لتختلفِ اللغات، لتتباين اللهجات، ليكن البعد بين اللغات واللهجات مثل ما بين مطلع الشمس ومغربها، ليقم على اختلافها سبعون برهاناً، لتكن براهينها أجلى من الشمس في رونق الضحى. والذي لا يهتدي المؤلف إلى نفيه سبيلاً هو قيام لغة أدبية باسطة أشعتها في كل ناحية، ولا سيما بعد أن كانت قَدُومه القاسية إحدى الضاربات في أساس نظرية العزلة العربية.[11]
مزايا اللسان العربي:
قدرة على استيعاب ما جاء في الكتاب المفارق والمؤسس القرآن من تشريع ومواعظ، وقصص وأخبار، وعلوم ومعارف بخصائص هي:
– صوتيات سهلة وسمحة وميسورة.
– تنوع الحرف صفات تجعل من الكلمة العربية قيمة تعبيرية ودلالية واسعة.
– مفردات شاملة وواعية وغزيرة وفياضة
– قوانين تصريفية واشتقاقية تكسب المفردة خصوبة ونماء؛ فتأخذ من” كتب “مثلا كلمات عدة، تختلف عنها في الدلالة طبقا لقوانين يغلب اطرادها
– الإعراب سمة رائعة وقرينة من القرائن الهامة في إبراز المعنى.
– الطاقة البيانية غير محدودة. انتهى
البيبليوغرافيا
القرآن جل منزله وعلا.
- في الأدب الجاهلي، طه حسين، الطبعة الثالثة، مطبعة فاروق، محمد بن عبد الرحمن محمد 1352 /1933م.
- المفصل فى تاريخ العرب قبل الإسلام، جواد علي، دار الساقي، الطبعة الرابعة 1422هـ/ 2001م، عدد الأجزاء: 20.
- موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين، (المتوفى: 1377 هـ)، جمعها وضبطها: المحامي علي الرضا الحسيني، الناشر: دار النوادر، سوريا، الطبعة: الأولى، 1431 هـ -2010م، عدد الأجزاء: 15
- نزول القرآن على سبعة أحرف، مناع بن خليل القطان (المتوفى: 1420هـ)، مكتبة وهبة – القاهرة، الطبعة: الأولى، 1411 هـ -1991م، عدد الأجزاء: 1
“اللهم إنا نسألك السداد في القول والعمل، وصلى الله وسلم على نبينا محمد.”
[2] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (16/ 267)
[3] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (16/ 269). في الأدب الجاهلي “105”.
[4] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (16/ 269).
[5] – المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (16/ 268).و في الأدب الجاهلي “106 وما بعدها”.
[6] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (16/ 268).
[7] المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام (16/ 269). 1 في الأدب الجاهلي “105”.
[8] سورة إبراهيم: الآية 4
[9] ينظر كتاب «في اللهجات العربية» للدكتور إبراهيم أنيس، الطبعة الخامسة ص 16 – 18
[10] نزول القرآن على سبعة أحرف ص: 4 وما بعدها
[11] موسوعة الأعمال الكاملة للإمام محمد الخضر حسين (8/ 134).