منار الإسلام
موقع تربوي تعليمي أكاديمي

 (خطبة) بر الوالدين بين شرع الله وواقع الناس

 (خطبة) بر الوالدين بين شرع الله وواقع الناس/ للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي

0

 (خطبة) بر الوالدين بين شرع الله وواقع الناس

بقلم: للشيخ عبد الله بنطاهر التناني السوسي

 

بمناسبة رأس السنة ووصية سيدنا عيسى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}

وبمناسبة بر الرياضيين المغاربة بأمهاتهم

الحمد لله الواحد الديان، أوصانا بالإحسان وأول من يستحقه الوالدان، فطوبى لمن أحسن إليهما وهل جزاء الإحسان إلا الإحسان، وويل لمن ضيع حقوقهما بعقوقهما فباء بالخيبة والخسران، ونشهد ألَّا إله إلا الله الكريم المنان، ونشهد أن سيدنا محمدا عبده ورسوله المبعوث بالإسلام والإيمان، صلى الله وسلم عليه وعلى آله وأصحابه ومن تبعهم إلى يوم الدين بالإحسان.

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون أوصيكم ونفسي أولا بتقوى الله وطاعته.

نستقبل في هذه الأيام رأس السنة الميلادية، وسميت بذلك لأن المسيحيين يدَّعون أن سيدنا عيسى عليه السلام ولد فيها؛ فلو كان هذا صحيحا لكان الأولى بعيسى نحن -المسلمين-؛ لأن النبيﷺ قال: «نحن أولى بعيسى ليس بيني وبينه نبي»؛ ومن معجزاته أنه تكلم وهو طفل رضيع في مهده، فقال كما حكى عنه القرآن الكريم: {إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيًّا وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}، والقرآن الكريم حينما يحكي لنا قصص الأمم الماضية إنما يحكيها لنستفيد منها.

فتعالوا اليوم انطلاقا من هذا لنقف على آخر هذه الوصية وهي: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي}؛ وخصوصا أن العالم كلها قد شاهد كيف علَّم المغاربة بواسطة الرياضة للعالم مكانة بر الوالدين، والعالم كله على ذلك من الشاهدين؛ فالرياضي المغربي المسلم حينما يسجل هدفا في الدنيا يسعى مباشرة ليسجل هدفا آخر في الآخرة، بتقبيل رأس أمه برا بوالدته، ؛ لقد علَّموا لهؤلاء الذين يدعون أنهم مسيحيون كيف يجب أن يكون عليه بر الوالدين؛ فإن قال سيدنا عيسى: {وَبَرًّا بِوَالِدَتِي} فإن الغرب المسيحي اليوم لا يعرف ولا يعترف بشيء اسمه “بر الوالدين”.

أيها الإنسان؛ إن إحسان الوالدين بك عظيم، وفضلهما عليك سابق وجسيم، فأمك هي الحنان وأبوك هو الأمان؛ فمن فقد أمه فقد الحنان الصافي، ومن فقد أباه فقد الأمان الوافي؛ وإذا أردت أن تعرف ذلك فاسأل ولادتك، تأمل حال صِغَرك، وتذكر ضَعف طفولتك، فالله تعالى يذكرك بها فيقول: {وَقُل رَّبِّ ٱرۡحَمۡهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِيرٗا}.
فهذه أمك قد حملتك وأنت جنين تسعة أشهر في أحشائها، وهنا على وهن حملتك كرها ووضعتك كرها، ولا يزيدها نموك في بطنها إلا ثقلا وإضعافا لقوتها، وعند ولادتك رأت الموت بعينها؛ لكن بعد ولادتك لما بصرت بك إلى جنبها، سرعان ما نسيت كل آلامها، وعلقت بك كل آمالها، رأت فيك بهجة الحياة وزينتها، ثم شُغِلَتْ بخدمتك ليلها ونهارها، تغذيك بصحتها، طعامك لبنها، وبيتك حجرها، ومركبك يداها وصدرها وظهرها، فهي بك رحيمة بطبعها، وعليك شفيقة بحنانها، إذا غابَتْ عنك صرخت ودعوتها، وإذا أعرضَتْ عنك ناديتها، وإذا اقتربَتْ منك ناجيتها، وإذا أصابك مكروه استنجدت بها، تحسب كل الخير عندها، وتظن أن الشر لا يصل إليك إذا ضمتك إلى صدرها، أو لحظتك بعينها، فلما صرت طفلا تحملت حرارة الجوع لتشبع أنت، وتجشمت سهر الليالي لتنام أنت، وتألمت من أجل تحقيق آمالك أنت، فهي والله جديرة أن تكون جنتك تحت قدميها، ونارك في عقوقها والإساءة إليها، وهي والله جديرة أن تستأثر بخمس وسبعين بالمائة من إحسانك وبرك يقول الرسولﷺ لك: «أحق الناس بحسن صحبتك، أمك ثم أمك ثم أمك ثم أبوك».

هذه هي أمك أيها الإنسان؛ أما أبوك فلم يقِلَّ في بره وطاعته عن أمك؛ فأنت له الهم والشغل في الليل والنهار، يكد ويسعى ليدفع عنك صنوف الأذى والضرار، يتنقل من أجلك في الأسفار، ويجوب الفيافي والقفار، ويتحمل بحثا عن دوائك ولقمة عيشك الأمراض والأخطار، ينفق عليك ويصلحك ويربيك، يشتت فيك صحته ليجمعك، ويضر نفسه لينفعك، إذا دخلت عليه هَشَّ لك وارتاح، وإذا أقبلت إليه بَشَّ بك وفرح، وإذا خرج تعلقت به، وإذا حضر احتضنت حجره وصدره، يجلب إليك السراء، ويدفع عنك الضراء.

ولا يوجد مخلوق أعظم إحسانا ولا أكثر فضلا من الوالدين؛ لقد قرن الله تعالى حقهما بحقه، وشكرهما بشكره، وأوصى بالإحسان إليهما بعد الأمر بعبادته، فقال سبحانه: {وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡـٔٗا وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ ‌إِحۡسَٰنٗا}، {وَقَضَىٰ رَبُّكَ أَلَّا تَعۡبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ ‌إِحۡسَٰنًا}، {‌أَنِ ‌ٱشۡكُرۡ لِي وَلِوَٰلِدَيۡكَ}، وقرن الرسولﷺ بين عقوقهما والإشراك بالله؛ فقالﷺ: «إن من أكبر الكبائر الإشراك بالله وعقوق الوالدين»، فلله سبحانه نعمة الخلق والإيجاد، وللوالدين بإذن الله تعالى نعمة التربية والإيلاد.

فهذان هما والداك -أيها الإنسان- وتلك هي طفولتك وصباك؛ إن كنت لا تحسن إليهما فأنت مغرور، فما غرك بربك الكريم؟ ولما ذا التنكر للجميل؟ وعلام التأفف في وجه أبيك والتضجر من أمك؟ وعلام الفظاظة والغلظة وكأنك المنعم المتفضل؟ أنسيت تضحيتهما من أجلك؟ فلم تبخل على أبيك وقد أكرمك من لحمه ودمه؟ فحق الوالدين عظيم، ومن حقهما المحبة والتقدير، والطاعة والتوقير، والتأدب أمامهما، وصدق الحديث معهما، تحقق رغبتهما في المعروف، وتنفق عليهما من عرق جبينك لأنك «أنت ومالك لأبيك» ادفع عنهما الأذى، فقد كانا يدفعان عنك الأذى، لا تخاطبهما بغلظة أو خشونة، وجنبهما أسباب الضجر والرعونة، {فَلَا تَقُل لَّهُمَآ أُفّٖ وَلَا تَنۡهَرۡهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوۡلٗا كَرِيمٗا} تخير في مخاطبتهما الكلمات اللطيفة، والعبارات الجميلة، تواضع من أجلهما، واخفض جناح الذل طاعة لهما، وعطفا ورحمة بهما، لا ترفع صوتك عليهما، لقد أقبلا على الشيخوخة والكبر، وتقدما نحو العجز والهرم فاستجابا للقدر، بعد أن صرفا صحتهما وأموالهما في تربيتك فيما مضى وغبر، فهل يستحقون منك التأفف والضجر؟ تأمل رعاك الله قول ربنا: {إِمَّا يَبۡلُغَنَّ عِندَكَ ٱلۡكِبَرَ أَحَدُهُمَآ أَوۡ كِلَاهُمَا} إن كلمة {عِندَكَ} تدل على التجائهما إليك، فقد أ نهيا مهمتهما وانقضى دورهما، فجاء دورك أنت، وها هي مهمتك أنت، فالإسلام لا يعرف في شرعه وتاريخه دارا للعجزة من الآباء والأجداد، فدار العجزة في الإسلام هي قلوب الأولاد والأحفاد، لأن بناء الأسرة في ظل الإسلام متماسك، أساسه الإحسان، وعماده الإخلاص، فرضى الله في رضى الوالدين وسخط الله في سخط الوالدين؛ ومَنْ بَرَّ بوالديه بَرَّ به بنوه ومن عقَّهما عقَّه أولاده يقول الرسولﷺ: «كل الذنوب يؤخر الله منها ما شاء إلا عقوق الوالدين، فإن الله يعجله لصاحبه في الحياة الدنيا قبل الممات»، ويقولﷺ: «ثلاثة لا ينظر الله إليهم يوم القيامة: العاق لوالديه ومدمن الخمر والمنان عطاءه. وثلاثة لا يدخلون الجنة: العاق لوالديه والديوث والرجلة من النساء». فإنك لو قطعت لهما من لحمك، وأعطيت لهما من دمك ما أديت لهما حقا، ولا جازيتهما إحسانا، قال رجل لعمر بن الخطاب رضي الله عنه: «إن لي أما بلغ منها الكبر أنها لا تقضي حوائجها إلا وظهري لها مطية فهل أديت حقها؟ قال: لا، لأنها كانت تصنع بك ذلك وهي تتمنى بقاءك، وأنت تصنعه وأنت تنتظر موتها وفراقها، ولكنك محسن والله يثيب الكثير على القليل».
أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم ولسائر المسلمين أجمعين، والحمد لله رب العالمين

الحمد لله رب العالمين…

أما بعد فيا أيها الإخوة المؤمنون؛ إن بر الوالدين لا ينتهي بموتهما، فمن فرط في حقوقهما أو أفرط في عقوقهما حتى ماتا فندم على ذلك فالفرصة لا زالت أمامه، فهما في حاجة إلى برك أحياء وأمواتا، فأحسن إليهما بالصدقات والأدعية الصالحة وصلة الأرحام وزر قبريهما واستغفر لهما فإن ذلك برُّهما ولو بعد موتهما؛ روى أبو داود والحاكم: «أن رجلا جاء إلى النبيﷺ فقال: يا رسول الله، هل بقي علي من بر أبوي شيء ‌أَبَرُّهُما به بعد وفاتهما؟ قال: نعم الصلاة عليهما، والاستغفار لهما، وإنفاذ عهدهما، وإكرام صديقهما وصلة الرحم التي لا توصل إلا بهما»، وروى الإمام مسلم أن ابن عمر رضي الله عنه لقي أعرابيا بطريق مكة فسلم عليه ابن عمر وأعطاه حماره وعمامته فقال له تلميذه ابن دينار: أصلحك اللَّه إنهم الأعراب يرضون باليسير؛ فقال ابن عمر: إن أبا هذا كان ودّاً وصديقا لعمر رضي الله عنه وإني سمعت رَسُول اللَّهِﷺ يقول: «إن أبر البر صلة الرجل أهل ود أبيه»، وروى أبو داود «أن سعد بن عبادة قال: يا رسول اللّه إنَّ أمَّ سعد ماتت فأيُّ الصدقة أفضل؟ قال: «الماء» قال: فحفر بئراً وقال: هذه لأمِّ سعد»؛ ورحم الله من قال:

زور والديك وقف على قبريهما * فكأنني بك قد نُقلـــــت إليهما
لو كنت حيث هما وكانا بالبقـاء * زاراك حبوا لا علــــــى قدميهما
أنسيت عهدهما عشيـة أُسكنــا * دار البلى وسَكنت في داريهما
ما كان ذنبهمــا إليـــك وإنمـــــا * منحاك صفو الوُدِّ من نفسَيْهما
كانا إذا ما أبصــرا بــــك علـــــة * جزعَا لما تشكو وشـــــق عليهما
كانـا إذا سمعـا أنينــك أسبـــلا * دمعيهمـا أسفـا علــى خـديهما

ألا فاتقوا الله عباد الله! وأكثروا من الصلاة والسلام على رسول اللهﷺ…

اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.