الأغنياء والفقراء في الشتاء
الأغنياء والفقراء في الشتاء/ أحمد المتوكل
الأغنياء والفقراء في الشتاء
بقلم: أحمد المتوكل
الدِّفءُ نعمةٌ جليلةٌ لا يُحس بقيمتها إلا مَنْ ذَاقَ لسَعَاتِ البرْدِ، وسَهِرَ الليالي مِنْ شدَّةِ الصَّقيعِ والجُوعِ، ولقدْ أكْرَمَ اللهُ أهلَ زمانِنَا هذا بالمدافئِ التي تُسَخِّنُ البيوتَ والسياراتِ، وأنْعَمَ عليهِم بالملابسِ الغليظة الشَّتْوِيَةِ، وبأَجْوَدِ أنواعِ الفُرُشِ التي تُخَفِّفُ مِنْ حِدَّةِ البرْدِ، وتُدَفِّئُ جسْمَ الإنسانِ وبيْتَهُ، وهذا وغيرُهُ مِنْ نِعَمِ اللهِ الكثيرةِ التي أكْرَمَ بها أناسِيَ هذا العصرِ، قال الله تعالى ممتنا على عباده:{وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّن بُيُوتِكُمْ سَكَنًا وَجَعَلَ لَكُمْ مّن جُلُودِ الأنعام بُيُوتًا تَسْتَخِفُّونَهَا يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَيَوْمَ إِقَـامَتِكُمْ، وَمِنْ أَصْوَافِهَا وَأَوْبَارِهَا وَأَشْعَارِهَا أَثَـاثاً وَمَتَـاعاً إِلَى حِينٍ، وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مّمَّا خَلَقَ ظِلالاً، وَجَعَلَ لَكُمْ مّنَ الْجِبَالِ أَكْنَـاناً، وَجَعَلَ لَكُمْ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَسَرابِيلَ تَقِيكُم بَأْسَكُمْ، كَذَلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ}1.
ونحن نعيشُ فصْلَ الشتاء ويعيشُه معنا إخوانٌ لنا يعانون فيه الأزماتِ والشدائد، ويَذوقون فيه أذى البرْدِ، ويشتكون قلَّةَ ذاتِ اليد، وعند كثيرٍ منا ملابسُ الشتاء ووسائلُ التدفئةِ متوفرةٌ وهي تُنْسِينا أحوالَ مَنْ حُرِموا كثيرا مِنْ أساسيات الحياة، فالواجبُ الإسلاميُّ يوجبُ علينا أنْ نتفقدَ مَنْ حولَنا مِنَ المسلمين ونستقْرِأَ أخبارَهم، ونتيقَّنَ أن هناك مَنْ هو أحوجُ بالرأفةِ والمُساعدةِ مِنَّا، وأنْ نتذكرَ أولئك الذين وصلَ البردُ عظامَهُمْ، ومنعَتْهُمُ العفةُ والحياءُ مِنْ مَدِّ يدِ السؤال إلى الناس، فيجدُرُُ بنا أن نرحَمَهُمْ ونعطِفَ عليهم ونُؤْثِرَهم، ونُخففَ عنهم مِنْ برْدِ الشتاء بإعطائِهم بعضَ الأغطيةِ والأكسية مما يدفعُ عنهم غائلةَ البرد، وضَرَرَ الفقر.
فكمْ يملكُ كثيرٌ منا في بيتِه منَ الثياب على اختلاف أنواعها وألوانها جديدةً وباليةً؟ وكمْ يُفصِّل بعضُنا من ثوبٍ في المناسبات؟ وكم تملك نساؤنا مِنْ عشراتِ الثياب والأحذية، وكم نشتري لأبنائنا في العامِ الواحدِ مِنْ أصناف الملابس والأكسية، بل إن بيوتنا وخزاناتنا تمتلئ بالملابس والأغطية الكثيرة، وبالفُرُشِ الوثيرة، ونَخْرُج في كلِّ يومٍ بلباس غيرِ الذي لبسناه بالأمس، ويقف أمامنا الفقراءُ والمساكينُ ونراهم في كل مكان بأثوابِهِمُ الممزقةُ الباليةُ التي لا يرضى أحدُنا أن يراها فوق أجسادِ أبنائه؟، ويذهبُ أطفالُهُم إلى المدارس مِنْ غيرِ الكساء الذي يلبَسُه أبناؤنا وإخواننا، ونرى أُناسا يبيتون في العراء، يفترشون الغبراء، ويلتحِفون السماء، والبرْدُ لهم غطاءٌ، يلسعُهُمْ ويُوجِعُهُم ويُؤْلِمُهُم، ويُمَزقُ أوصالَهم، ويُسِيلُ دموعَهُم، ويُجَمِّدُ جلودَهم ويُؤْلمهم، وترتعدُ أجسادُهم في جُنْح الليالي منْ شدته، فلا مأوى لهم ولا كساء، ونحن لا نبالي ولا نشفق من حالهم، ولا نهتم بهم، فهم مسلمون لهم حقُّ الأخوة الإيمانية، وواجبُ الرأفة الإنسانية.
فعلينا أنْ نتذكَّرَ إخواننا الفقراءَ المُعدمين في هذا الحالِ العسيرِ، ونُبادِرَ إلى إعانتهم، ونحبَّ لهم ما نحبُّه لأنفسنا، ونَكُونَ كالجسد الواحد إذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى، ونبْحَثَ عنِ الضعفاء الذين آذاهُمُ البردُ، ويعيشون الهموم والشدائد، و بَلَغَ بهم الجَهْدُ مَبْلَغا كبيرا، ونشتريَ لهم كساءً جديدا، أو نَمُدَّهُم بما بَلِيَ وتقادَمَ عندنا مِنْ لباسٍ وفراشٍ وغِطاءٍ، ونتكَرَّمَ عليهم بالغذاء والدواء، ولا ينبغي أن نحْقِرَ التصدقَ بالأثواب البالية المستعْمَلَة، فقدْ نُدخِلُ عليهم بها سرورا كبيرا، وتتركَ لديهم فرحا وحبورا، وتظْهَرُ البسمةُ على شفاههم، ويختَرِقُ إحساننا شغاف قلوبَهُمْ فتصيبُنا دعواتُهُمُ الصالحة، وكم من خيرٍ ورِزقٍ نلناه وفضْلٍ أحرزناه، ونصْرٍ حققناه بدعاء ضعفائنا،عن أبي الدرداء رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقول:((ابْغُوني في ضُعفائكم، فإنما تُرزقُون وتُنْصَرون بضعفائكم))2، وقال الله عز وجل:{وما تنفقون إلا ابتغاءَ وجه الله، وما تُنفقوا منْ خير يُوَفَّ إليكم وأنتم لا تظلمون}3، وقال سبحانه أيضا:{وأنفِقُوا في سبيل الله ولا تلقوا بأيديكم إلى التهلكة وأحسنوا، إن الله يحب المحسنين}4، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم:((يا ابن آدمَ إنك إنْ تبذُلِ الفضْلَ خيرٌ لَكَ، وإنْ تُمسكْه شرٌ لك))5، والفضْلُ ما زاد على الحاجة.
قال الشاعر:
ومن يكُنْ ذا فضلٍ فيبخلْ بفضله على أهله يكن حمْدُهُ ذما عليه ويندَمِ
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((أحبُّ الناس إلى الله أنفعُهُم للناس، وأحبُّ الأعمال إلى الله عز وجل سُرُورٌ تُدخِلُهُ على مُسلمٍ، تكشِفُ عنه كُرْبةَ، أو تقضي عنه ديْنا، أو تَطْرُدُ عنه جُوعا))6.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلمَ: ((مَنْ كان في حاجَةٍ أخيه كان اللهُ في حاجَتِهِ))7، وقال النبي صلى الله عليه وسلم في حديث آخر: ((مَنْ نفَّسَ عن مسلمٍ كربة من كُرَبِ الدنيا نفَّسَ الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، ومَنْ يَسَّرَ على مُعْسِرٍ يَسَّرَ الله عليه في الدنيا والآخرة))8.
رُويَ عنِ ابن مسعود رضي الله عنه أنه قال: “يُحْشَرُ الناس يوم القيامة أعْرَى ما كانوا قط، وأجْوَعُ ما كانوا قط، وأظمَأُ ما كانوا قط، فمَنْ كسا لله عز وجل كساهُ الله، ومَنْ أطعَمَ لله أطْعَمَهُ الله، ومَنْ سقا للهِ سقاهُ الله، ومَنْ عفا لله عفا الله عنه”9.
فيَحْسُنُ بنا أن لا نَرْمِيَ شيئاً مِنْ ملابسنا البالية والزائدةِ، بل نضعُها في أيدي المحتاجين إليها، إعانةً لهم على تَوَقِّي البرْدِ الشديد، وحِفْظِ أبدانهم مِنْ مَضَارِّهِ، فقدْ نحسِبُها هينة وهي في عين الله وفي عين الفقير عظيمةً، ومَنْ لَمْ يَجِدْ ما يتصدقْ به عليهم فليتألَّمْ لآلامِهِمْ، وليَدْعُ اللهَ أنْ يكشِفَ كرْبَتَهُم، ويدُلَّ المحسنين عليهم، إذِ الدَّالُّ على الخير كفاعله.
دَخَلَ أصحابُ بِشْرٍ الحافي عليه في يومٍ شديدِ البرْدِ وقد تَجَرَّدَ وهو ينتفِضُ، فقالوا: ما هذا يا أبا نَصْرٍ؟! فقال:(ذكرْتُ الفقراءَ وبَرْدَهُم، وليس لي ما أواسيهِم، فأحببتُ أنْ أواسيهم في بَرْدهم).
الهوامش :
1- سورة النحل:80-81
2- رواه أبو داود والترمذي والنسائي
3- سورة البقرة 281
4- سورة البقرة 194
5- رواه مسلم والترمذي عن أبي أمامة
6- رواه الأصبهاني عن عبد الله بن عمر وحسنه الألباني في الصحيحة 906
7- رواه البخاري ومسلم عن ابن عمر
8- متفق عليه عن أبي هريرة
9- رواه ابن أبي الدنيا بإسناده في كتاب الأهوال ص: 232.