في عالم معاصر يزرع الشك في الإنسان(1)
بأي حال عدت يارمضان؟
بقلم: الدكتور مصطفى العلام
حل بنا منذ أيام شهر رمضان المبارك، فنسأله سبحانه وتعالى أن يهله علينا وعلى الأمة والإسلامية والإنسانية جمعاء باليمن والبركات وبالسلم والسلام وبمزيد الخيرات. وحلول شهر رمضان المبارك لسنة 1444هـ مناسبة سانحة للنظر في الحال والمآل على مستويات كثيرة نذكر منها:
المستوى الأول: حال العالم المعاصر الذي نعيش فيه والحاجة الملحة إلى رسالة الإسلام.
المستوى الثاني: حال المسلمين الذي يحملون رسالة الإسلام.
المستوى الثالث: حال أهلنا في فلسطين والقدس والمسجد الأقصى المحتل من قبل الغاصبين.
المستوى الرابع: حال بلدنا المغرب الأقصى وإلى أين يسير؟
فعلى كل هذه المستويات نطرح السؤال: بأي حال عدت يارمضان؟ على أن تكون الإجابة على هذا السؤال في ورقة مستقلة تتضمن مستوى واحد من المستويات المذكورة. نبدأها بحول الله بالمستوى الأول الذي نتناول فيه بشكل مختصر حال العالم المضطرب الذي نعيش فيه والحاجة الملحة إلى رحمة الإسلام ، خاصة ونحن نعيش في أجواء شهر رمضان المبارك.
1ـ العالم في مخاض:
لاشك أن العالم المتقدم يعيش تحولات مذهلة على المستوى العلمي والصناعي والطبي والرقمي… والقرآن الكريم يشير إلى أن الأمم السابقة لما نسوا ما ذكروا به فتح الحق سبحانه وتعالى عليهم أبواب كل شيء، ابتلاء منه سبحانه وتعالى، وكانت نتيجته هي قطع دابر الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين، يقول عز من قائل: ﴿وَلَقَدْ أَرْسَلنَا إِلَى أُمَمٍ مِّن قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاء وَالضَّرَّاء لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ فَلَوْلا إِذْ جَاءهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُواْ وَلَـكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُواْ وَالْحَمْدُ لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ﴾.[1]. وهذه الآيات البينات فيها دعوة صريحة لقراءة مفتوحة وعلى بصيرة لمخاض العالم، وتحولاته العجيبة وتقدمه العلمي الصناعي المذهل، وإغداق القدرة الإلهية على أبناء الدنيا من كل شيء. فهل من معتبر؟
لكن هذه التحولات جعلت الإنسان يعيش ظنكا في الحياة، وخواء في الروح، وفسادا في الأخلاق، وأزمات اجتماعية واقتصادية ونفسية أبعدته عن الخالق وعن المصير بعد الموت، وأصبح وجوده في هذا الكون بلا معنى، يقود إلى الشك وظلمة الطريق. ويمكن حصر هذه التحولات في عالمنا المعاصر فيما يلي:
ـ التقدم الرقمي وتطور وسائل التواصل الاجتماعي: بقدر ما أن التقدم الرقمي وتطور وسائل التواصل الاجتماعي أصبحا لهما أهمية خاصة في حياة الإنسان، فإنهما بالقدر ذاته أصبحا مصدر قلق باعتبارهما ينتهكان الخصوصية الفردية، من حيث مراقبة أذواقنا وميولاتنا على صفحات التطبيقات الاجتماعية، ومن حيث الاختراقات الإلكترونية الشرسة التي يتضرر بسببها الأفراد والمؤسسات على حد سواء. وبمعنى آخر فإن حياة الإنسان الخاصة أصبحت نافذة مفتوحة للشركات الكبرى للتواصل الاجتماعي للتحكم في رغبات الإنسان وميولاته، وتشكيلها وفق رؤيتها التنافسية كبضاعة سوقية تخضع للعرض والطلب. وكل ذلك يمضي في طريق معاكس لما أراده الحق سبحانه من الإنسان الذي كرمه أحسن تكريم،يقول سبحانه وتعالى في سورة الإسراء﴿وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾[2]
ـ التعديل الجيني للبشر: إن تغيير الحمض النووي للبشر وإدخال تعديلات عليه كان الهدف منه هو علاج بعض الأمراض وأهمها السرطان وأمراض القلب وبعض الالتهابات الفيروسية. ومن هذا المنطلق يعد إنجازًا علميًا عظيمًا. لكن هذه التقنية قد تستغل لأهداف أخرى مثل تحسين النسل بمواصفات مطلوبة حسب الرغبة، إذ يمكن اختيار شكل الجسد والقوة البدنية والمعرفية وزيادة الذكاء… والجانب الأكثر خطورة في هذه العملية هو تحذير العلماء من أن تعديل الحمض النووي للأجنة له نتائج مقلقة وآثار مجهولة على الأجيال القادمة لأن هذه التعديلات تنتقل إلى الذرية وهذا في حد ذاته تلاعب بمستقبل البشرية.
ـ التغيرات المناخية: من قبيل تآكل اليابسة وانهيار شواطئ البحار والمحيطات وارتفاع درجة حرارة الكون،وتعاقب موجات الجفاف، وندرة المياه، وغير ذلك من الظواهر الأخرى المرتبطة بها. وهي تغيرات تهدد العالم في صميم وجوده، وتبعث القلق والشك في النفوس التي تتساءل تبعا لذلك عن مصير هذا الكوكب الصغير الذي خلقة الله.
ـ انتشار الأوبئة الفتاكة: وآخر هذه الأوبئة الفتاكة فيروس’كورونا’ وما أحدثه من خطر جسيم على الصحة العامة وعلى الاقتصاد العالمي والعلاقات الاجتماعية، بل إن الإنسانية ستعيش مع هذه الآثار لمدة طويلة. كما أن هذه الفيروسات وطريقة عرض اللقاحات لمقاومتها زاد الشكوك لدى عدد كبير من الناس بأن الأمر يتعلق بمؤامرة قوى عالمية تسعى للتقليل من عدد سكان البشرية بعد صدمة الوصول إلى المليارات الثمانية . وكل ذلك يدفع الناس إلى الشك وعدم اليقين في عالم يحمل كل هذا الخوف من المجهول.
ـ انتشار الحروب والنزاعات المسلحة: هذه الحروب تحركها دول عظمى تبحث عن تقدمها المادي لتحقيق مصالحها العليا، ويكون وقودها الحقيقي ملايين من المدنيين الأبرياء ،منهم نساء وأطفال وكبار السن.وتكون نتيجة هذه الحروب الطاحنة الصراع على مصادر الطاقة وارتفاع أسعارها، وتبعا لذلك ارتفاع أسعار المواد الغذائية وتكاليف المعيشة الباهضة،وزيادة الفقر وانتشار المجاعة. وإذا أضفنا إلى كل هذه الصراعات التهديد باستعمال الأسلحة النووية، نكون أمام عالم غامض يدفع الإنسان إلى ضباب الشك وظلمة الجحود.
إن كل هذه التحولات ازدادت اتساعا وخطورة، وازداد معها الإنسان حيرة وتخبطا، بين شهر رمضان1443هـ وشهر رمضان الحالي 1444هـ ، فإلى أين يمضي العالم المعاصر؟ وهل من سبيل للنجاة؟ وكيف ننظر إلى كل هذه التحولات والأحداث؟
إن من الواجب علينا أن ننظر إلى كل هذه الأحداث بعينين لا بعين عوراء:
ـ العين الأولى: عين الذي ينظر بها إلى أن الحق سبحانه يتصرف في ملكه كيف يشاء ولحكمة مقصودةسواء علمنا بها أم لم نعلم.
ـ العين الثانية:عين تؤمن بالقدر وتدعونا إلى خوض معارك والتصدي لكل هذه التحولات التي تبعد الإنسان عن خالقه بشرط اصطحاب المقدور والحكمة.
يقول الأستاذ المرشد عبد السلام ياسين رحمه الله متسائلا« كيف إذاً نصطحب الإيمانَ بالمقدور والحكمة ونحن نخوض غمار المعارك؟ كيف نقرأ في الآيات الكونية التاريخية والآيات الحِكمية من سنة الله بعينين لا بالعين العوراء؟» [3]
2ـ مبشرات دين الإسلام.
إن الإسلام كدين ارتضاه الله للإنسان وجعله طوق نجاة من كل هذه الأحداث التي نعيشها اليوم في عالمنا المعاصر، وجعل لذلك مبشرات:
ـ بعثة رسول الله صلى الله عليه وسلم للناس أجمعين: يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الأعراف: ﴿قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ﴾[4] فبعثته صلى الله عليه وسلم موجهة للناس أجمعين،واتباعه يحقق الهداية المرجوة للناس كافة.
ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم خاتم النبيئين: فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ، أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالَ: إِنَّ «مَثَلِي وَمَثَلَ الأَنْبِيَاءِ مِنْ قَبْلِي، كَمَثَلِ رَجُلٍ بَنَى بَيْتًا فَأَحْسَنَهُ وَأَجْمَلَهُ، إِلَّا مَوْضِعَ لَبِنَةٍ مِنْ زَاوِيَةٍ، فَجَعَلَ النَّاسُ يَطُوفُونَ بِهِ، وَيَعْجَبُونَ لَهُ، وَيَقُولُونَ هَلَّا وُضِعَتْ هَذِهِ اللَّبِنَةُ؟ قَالَ: فَأَنَا اللَّبِنَةُ وَأَنَا خَاتِمُ النَّبِيِّينَ»[5] . فرسول الله خاتم الأنبياء والمرسلين وهو موضع اللبنة في بيت العالم الذي يسع الجميع.
ـ رسول الله صلى الله عليه وسلم رحمة ونذير للعالمين: فرسالة الإسلام رسالة تعمّ جميع البشر، يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الأنعام: ﴿إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ﴾ [6]. وهو أيضا رحمة لجميع الخلق ليخرجهم من الظلمات إلى النور يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة الأنبياء: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ﴾[7]. وهو صلى الله عليه وسلم في الوقت ذاته نذير للعالمين، يقول سبحانه وتعالى في سورة الفرقان: ﴿تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَىٰ عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ﴾[8] .
نضيف إلى كل ماسبق ذكره أن الإسلام سينتشر انتشارا واسعا ليصبح الدين المهيمن في العالم أجمع، وأدلة ذلك من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم نذكر مايلي:
ـ مُلْكُ الأمة الإسلامية سيبلغ مشارقها ومغاربها: عن ثوبان مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم« إنّ اللهَ زَوى لي الأرْضَ، فَرَأَيْتُ مَشارِقَها ومَغارِبَها، وإنّ أُمَّتي سَيَبْلُغُ مُلْكُها ما زُوِيَ لي مِنها»[9] .
ـ دين الإسلام سيدخل كل بيت: فعن تميم الداري قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم« ليبلغَنَّ هذا الأمرُ ما بلغ الليلُ والنهارُ ولا يتركُ اللهُ بيتَ مدرٍ ولا وبرٍ إلا أدخله اللهُ هذا الدينَ بعزِّ عزيزٍ أو بذلِّ ذليلٍ عزًّا يعزُّ اللهُ به الإسلامَ وأهلَه وذلًّا يذلُّ اللهُ به الكفر»[10]
ـ بشرى الخلافة الثانية الموعودة: فعن النعمان بن بشير:قال«كنّا قُعودًا في المسجدِ مع رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، وكان بَشيرٌ رَجُلًا يَكُفُّ حديثَه، فجاء أبو ثَعلَبةَ الخُشَنيُّ، فقال: يا بَشيرُ بنَ سعدٍ، أتَحفَظُ حديثَ رسولِ اللهِ في الأُمَراءِ؟ فقال حُذَيفةُ: أنا أحفَظُ خُطبَتَه، فجَلَسَ أبو ثَعلَبةَ، فقال حُذَيفةُ: قال رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : تكونُ النُّبوَّةُ فيكم ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ النُّبوَّةِ، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء اللهُ أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا عاضًّا، فيَكونُ ما شاء اللهُ أنْ يكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ مُلكًا جَبريَّةً، فتكونُ ما شاء اللهُ أنْ تكونَ، ثُمَّ يَرفَعُها إذا شاء أنْ يَرفَعَها، ثُمَّ تكونُ خِلافةٌ على مِنهاجِ نُبوَّةٍ، ثُمَّ سَكَتَ»[11].
فبين مانعيشه في عالمنا المعاصر من تحولات ومخاض عسير جعلت الإنسان يعيش التيه والحرمان، وبين مبشرات بغد مشرق للإسلام وأهله، نطرح الأسئلة التالية: مالسبيل للخروج من هذه الأزمات المتتالية التي تعيشها الإنسانية؟ ومن يضعنا على طريق الإسلام لتحقيق مبشراته؟
وهذا ما سنحاول الإجابة عنه في الحلقات القادمة من هذه السلسلة (بأي حال عدت يارمضان؟)
الهوامش
[1] الأنعام، الآية 43
[2] الإسراء، الآية70
[3] عبد السلام ياسين: العدل، الإسلاميون والحكم، ص: 335.
[4] الأعراف: الآية 158.
[5] أخرجه البخاري رقم (3535)، ومسلم رقم(2286) واللفظ له.
[6] الأنعام: الآية 90.
[7] الأنبياء: الآية 107.
[8] الفرقان: الآية 1- 2.
[9] صحيح مسلم رقم(2889).
[10] رواه الإمام أحمد رقم(16957).
[11] ـ أخرجه الإمام أحمد رقم(18406