كلما تكررت الحرب الصهيونية على غزة، وعلى الأراضي الفلسطينية الأخرى إلا وتطور معها الأداء النوعي للمقاومة الفلسطينية، إذ أصبحت تفرض نوعا من الردع القوي وتوازن الرعب، ففي الحروب السابقة كانت تل أبيب واللد والقدس ويافا وبئر قاسم وحيفا في مأمن من صواريخ المقاومة…، وكانت أقصى الهجمات تدور في غلاف غزة، وتتجاوزها أحيانا الى أسدود وعسقلان.. وكانت اسرائيل تتباهى في كل تلك الحروب بتراص جبهتها الداخلية، وبقتل كوادر وقيادات المقاومة، وهي في الحقيقة لا تقتل إلا الأطفال والنساء والشيوخ، وكان النفاق العالمي بأنظمته ومؤسساته يتماهى مع الرواية “الإسرائيلية”، فيتعاطف معها تصريحا وتلميحا، ويحمل المسؤولية فيها كاملة للمقاومة الفلسطينية بما فيها بعض الأنظمة العربية، ومنها نظام السلطة الفلسطينية التي وصف رئيسها أبو مازن ما من مرة صواريخ المقاومة بأنها صواريخ عبثية، وفي جميع تلك الحروب ما رأينا فلسطينيا واحدا يفر من القصف القاتل والبطش الفتاك، لمختلف أسلحة الدمار الشامل من طائرات ومدافع وصواريخ موجهة التي يملكها العدو الصهيوني، متجها نحو الحدود أو نحو دول الجوار، على غرار كثير من الفارين من الحروب في كثير من الدول، وما رأينا أحدا يًفتت في عضد المقاومة، أو يحملها مسؤولية الهجوم الصهيوني الجبان، بل بالعكس فقد حفَّظ لنا أهل فلسطين لحن ” يا قسام يا حبيب دمر دمر تل أبيب”، في تضامن منقطع النظير مع المقاومة عموما، وكتائب عز الدين القسام خصوصا، مما يدلل على أن للمقاومة الفلسطينية حاضنة شعبية تتسع لكل اجتهاداتها التنظيرية والميدانية.
إن هذا الحضن الدافئ التي تستند إليه المقاومة، في عمق الشعب الفلسطيني هو الذي حماها فسيلة، وحماها نبتة حتى استوى عودها، لتصبح اليوم شجرة وارفة الظلال، يستظل بظلها المقهورون والمستبعدون والثكالى، ومجروحو القلوب والأفئدة، وترسم أمام أعين إسرائيل لوحة التحدي أمامها وهي التي تعاني من التفسخ المجتمعي، والتشتت السيسيولوجي النفسي، والذي يُعتبر مستقبلا أهمَّ مدخل لتشتيت الشمل الصهيوني في فلسطين، فما ما هي يا تُرى مقومات وأسس هذه الحاضنة الشعبية للمقاومة الفلسطينية؟؟
1. الولادة من نفس رحم المعاناة:
فهذه المقاومة لم تُفرض من الخارج، ولم تتخذ لها الأرائك والمنتجعات، والبلاغات الفارغة والخطابات الرنانة، بل جسدت أمرها في أرض واقعها، مستمدة طاقتها من دينها الإسلامي، ومن التصاقها بالحق الشرعي والقانوني لها في أرضها، تعيش محن شعبها وتضحي معه، وتفرح لفرحه وتترح لقرحه، مصدقا لقوله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُواالرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنكُمْ ) [ النساء 59]، فالمقاوم الآن قائد والقائد منبعث من ” منكم” التي تعني العيش مع الناس والتهمم بمعاناتهم، ليس كباقي حكامنا الذين ليسوا منا كي يعيشوا حياتنا ويتحسسوا أوجاعنا ويتلمسوا مظلوميتنا، ولذلك فهم أبعد منا ونحن أبعد منهم في طاعتهم..
2. وضاءة المشروع ووضوحه ومركزية القدس فيه:
على جُدُر وصخر فلسطين سقطت جميع المرجعيات التي نادت بتحريرها، فقد فشل مشروع القومية العربية، وفشل المشروع اليساري، وفشل المشروع الناصري بهزيمة نكراء سنة 1967 لا زالت توابعها الكارثية تفرز دما مُرا لحد الآن، ولم يثبت في ميدان المواجهة مع الصهاينة إلا العقيدة الإسلامية الراسخة، التي زكتها حرب الأيام الستة التي كانت في رمضان سنة 1973، والتي كادت أن تجني ثمار النصر لولا خيانة الأنظمة وتخاذلها، واستنجاد الصهاينة بالخارج لوقف الخطر .، هذه العقيدة هي التي رسخت فكرة أن الصراع مع العدو الصهيوني هو صراع عقدي بالأساس وليس صراعا سياسيا، صراع على المقدسات وفي طليعتها القدس الشريف والمسجد الأقصى المبارك بالأخص، وليس حربا على الأرض فقط، وحتى العقيدة التي ينطلق منها الصهاينة هي عقيدة الإفساد المقررة في بروتوكولات حكماء صهيون المغلفة بأسفار التوراة المزورة، والقاضية ببناء الهيكل على أنقاض المسجد الأقصى، والتي لا يفهم عقليتها ولا خطورتها إلا الإسلام، ولذلك فأنى لمشروع لا ينطلق من الإسلام أن يفهم ماهية الصراع؟؟!!
من قلب فتح العلمانية، خرجت حماس الإسلامية وركزت مشروعها على وضوح الرؤيا، وتحديد الهدف مع بيان الوسائل، وكذلك كان الأمر مع حركة الجهاد الإسلامي، فكان الهدف لكل منهما وباعتبارهما الآن أكبر حركتي تحرر في فلسطين، تحرير فلسطين من النهر إلى البحر، وعدم الاعتراف بـ”إسرائيل”، والدفاع عن المقدسات، بكل الوسائل وفي مقدمتها المقاومة المسلحة، والاعتماد على الذات وعلى حجم العمق التضامني التي تكنه الشعوب العربية والإسلامية للقضية الفلسطينية، ضدا على أنظمتها العميلة، هذا المشروع الواضح، أعطى له مع مرور الوقت كل التعاطف من طرف الشعب الفلسطيني، حتى آواه وأصبح ظهره المسنود، وهو ما عبرت عنه هذه الحرب التي زلزلت “إسرائيل” على واجهتين: واجهة الجبهة الداخلية التي كانت تعتبرها أمرا تم الإفراغ منه فإذا بفلسطيني الداخل الذين قوضوا هذه المُسلَّمة وأشعلوا “إسرائيل” من الداخل، وواجهة صواريخ المقاومة من غزة التي كشفت عورة إسرائيل وبينت، بأن أحد أهم أركان هزيمة إسرائيل اليوم هو توازن الرعب التي أصبحت تفرضه هذه المقاومة، والتي لا تملك فيه دولة الكيان جبهة داخلية متماسكة، بل ينخرها الخوف من الموت كل حين..
3. الاستقامة ومباشرة العمل الخيري والتطوعي زمن الرخاء،
فالمقاومة لها أساس ومقصد في وجودها فهي خادمة لشعبها لا مستعبدة له، مسترخصة نفسها له، لا باغية عليه، وعملها في إغاثة الملهوف وتمريض المريض وتعليم الصغير، وتنشيط النشء، والتنشئة على آفاقية القضية ومحوريتها والعيش على مركزيتها، أيام الرخاء توثق العهد والصلة بالمقاومة أيام الشدة والحروب، فيكون الشعب لها مؤازرا، مادا لها يد العون مُراصًّا لها الجبهة الداخلية، وهذا أوثق العرى الذي يجمع المقاومة الفلسطينية بشعبها.
4. مركزية المواجهة على أرض فلسطين:
كثيرا ما حاولت إسرائيل جر المقاومة الفلسطينية خارج حلبة الصراع الفلسطينية، إلى دول الطوق أو بلدان أخرى، فكثير من قادة ومسؤولي وأطر المقاومة وصلتها أيادي الموساد الصهيوني في غير فلسطين، كفتحي الشقاقي، ومحمود المبحوح ومحمد الزواري وفادي البطش وغيرهم، لكن المقاومة لم تبتلع طعم الانجرار وثبتت قاعدة المواجهة على أرض فلسطين، درءً للاستعداء الخارجي عليها، وبعثا للانخراط الكلي للشعب في تثبيت البوصلة نحو تحرير الأرض والإنسان من نتانة التصهين، مما وطد الارتباط بالمقاومة ومشروعها.
5. استقلال القرار السياسي والعسكري للمقاومة:
إن ما وَثَّق الصلة بين الشعب ومقاومته، هو استقلالها السياسي والعسكري، ورغم المساعدات اللوجستية والعسكرية التي تأخذها من بعض الدول، فهي لم تكن يوما مدينة لعطائها بالانحناء العسكري أو السياسي، وعلى الرغم من الحصار المفروض عليها جوا وبحرا وبرا، فإنها حاولت بكل ما أوتيت من قوة أن تصنع سلاحها بيدها، فرارا بسيادة قرارها ودون الارتهان إلى أحد، ودون عقدة المن والأذى التي تلازم العطاء، كما فعل النظام السوري مع حماس أثناء أحداث سوريا.
6. فشل خيار المفاوضات، والسلطة الميتة:
منذ مفاوضات مدريد واتفاقات أسلو ودايتون وكل المفاوضات الفارغة مع الصهاينة، وما أفرزته من سلطة منزوعة الأسنان والدسم، دلل كل هذا على فشل خيار التفاوض مع عدو مدلل من خماسي مجلس الأمن، مسنود بآخر الأسلحة المتطورة من طرف أمريكا، ومدعوم بأموال اللوبي الصهيوني في كل العالم، ناقض لكل الاتفاقات والتعهدات، مما وَلَّد في نفوس الفلسطينيين كُرها لهذا الخيار، وانزياحا نحو خيار المقاومة الذي أجبر “إسرائيل” على الانسحاب من غزة تحت ضرباتها المتتالية، وَوَلَّد لديها أيضا شكوكا في مشروعها الاحتلالي، خصوصا بعد الانتفاضتين المباركتين للفلسطينيين.
فشل مسلسل أسلو وفشلت السلطة التي أفرزتها فَشَلَّت السلطةُ حركة فتح ونزعت سلاحها، خصوصا بعد موت عرفات وانسحاب قيادات الخارج، واعتقال قيادة الداخل وخيانة عباس ودحلان للمشروع الوطني الذي مات مع موت منظمة التحرير الفلسطينية، فأصبح هم السلطة هو التنسيق الأمني مع “إسرائيل”، لكبح المقاومة في الضفة الغربية والقدس خصيصا، لتنتفع بالمساعدات التي خُصصت للشعب الفلسطيني، هذا التخبط قضى باستحالة وجود حل الدولتين الذي جرى التسويق له لأكثر من عقد من الزمان، في المقابل أقر بأن الحل هو المقاومة انطلاقا من قاعدة: “ما أُخذ بالقوة فلن يُرد إلا بالقوة”. مما جعل آمال الفلسطينيين معلقة فقط على المقاومة ومشروعها .
7. سرطان التطبيع وخيانة الأنظمة العربية للقضية الفلسطينية:
بعد الربيع العربي وتغيير رأس النظام في مصر، استبشر الفلسطينيون خيرا، خصوصا بعد رفع الحصار _ الذي أحكم وثاقه مبارك في آخر حكمه، واتخاذ قرار إحدى الحروب على غزة من قلب القاهرة بعد لقاء بين تسيبي لفني ومبارك_، وفتح الحدود بين غزة ومصر ، فتنفست المقاومة الصعداء في عام حكم مرسي، لكن سرعان ما تحول الأمر إلى الأسوأ بعد الانقلاب العسكري الدموي في مصر، ومجزرة رابعة والنهضة ومحاكمة مرسي في إحدى قضاياه على التخابر مع حماس، فازداد الحصار المصري أكثر ، بعد تجريف أراضي العريش ورفح، ودخول داعش صحراء سيناء، وقتل بعض الفلسطينيين على يد الجنود المصريين بعد تخطيهم حدود غزة، وتغيير السيسي لعقيدة الجيش المصري واستعدائه لكل من يحارب الصهاينة، وعلى غرار مصر السيسي، تبوأت الإمارات عراب التصهين، فقادت قاطرة التطبيع لتقود أزِمَّة السعودية بغُليْمِها محمد بن سلمان، وتقود البحرين، بعد محاولة هذه الدول حصار قطر لإسكات صوت الجزيرة، ويتوالى المطبعون مسارعة لإرضاء الصهاينة حفظا لعروشهم، وضدا على شعوبهم، فيطبع السودان، وسلطنة عمان، والمغرب وموريطانيا، هذا التطبيع الذي كشف زيف شعارات الأنظمة التي كانت تتبجح بها، وكشفت الغطاء عن كل العلاقات السرية للأنظمة، فكان الاستبيان الذي أراده الله لتتكشف عورات كل الأنظمة، ولأن النصر أبيض لا يجب لدخن الأنظمة أن يصيبه، فكان هذا إقناعا لكل الفلسطينيين بأن ما حك جلدك مثل ظفرك، وبأن الذات الفلسطينية هي المعول عليها في الصراع مع الصهاينة، وأنها النواة الصلبة التي ستتجمع عليها القواعد الخلفية لكل مسلمي العالم..
إن هذا الاستبيان كان ضروريا حتى يميز الله الخبيث من الطيب ويمحص كل متمترس خلف الشعارات الرنانة، ويكسر في القلوب المؤمنة صنم الوهم الذي كنا نكنه “لخادم” الحرمين الشريفين ولرئيس لجنة القدس، ولدول الممانعة، فإذا بهم ذئاب في ثوب أحمال وديعة تنتظر الفرصة للانقضاض على فلسطين دونما اعتبار لا للدين ولا للعروبة.
8. القطبية الأحادية الظالمة ونفاق الأنظمة العالمية:
لقد كان صادقا من اعتبر أن ” إسرائيل ” هي الولاية الواحد والخمسون للولاية المتحدة الأمريكية، نظرا لما تتمتع به من عطف ودعم مادي وعسكري أمريكي ولن يصعد أي رئيس لحكم أمريكا، إلا من رضيه اللوبي الصهيوني، فيقدم “لإسرائيل ” شيكا على بياض تتغول به على الفلسطينيين، وعلى كل الدول العربية، كما تستغل أمريكا قرار الفيتو في مجلس الأمن لتحميها من كل إدانة أو عقاب، هذا الدلاع لم تكتسبه “اسرائيل” من أمريكا فقط بل أخذته من دول أوربا وروسيا، وداهنت ” اسرائيلَ “في كل جرائمها، ليتقرر في ذهن الفلسطينيين أن لا معين لهم بعد الله إلا جهدهم وجهد مقاومتهم وجهد القوالين بالحق من كل إنسان ذي مبدأ مسلما كان أم غيره.
إن الإيمان بالحق والالتصاق بالأرض والذود عن المقدسات هو الشرط المخبري الذي يلم الشعب بالمقاومة والمقاومة بالشعب، هذا التناغم الفريد من نوعه هو من يؤرق حتما ” إسرائيل” ويقض مضجعها، لأن هذا الشعب هو مستنبت المقاومة يمدها بالطاقات والكوادر، ويقدم لها الدعم المادي والنفسي، ويتقبل الموت بالصواريخ والمزنجرات، على أن يهادن العدو أو أن يفر من أرض الملاحم، وهي أيضا تزف دمها قبل شعبها تسترخصه دفاعا عنه، وهذا هو سر انتصار المقاومة وانتصار الشعب الفلسطيني مستقبلا، وهذا هو الحاسم ان شاء الله في هزيمة ” إسرائيل” والمشروع الصهيوني ككل، وإن غدا لناظره لقريب، وعند الله تستوي الخصوم.